معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

المدرسة الأصولية عند السيد الخوئي

  • ١٩٩٢١
  •  

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي 


جامعة الكوفة 


كلية الفقه 


 


المدرسة الأصولية لدى السيد الخوئي


وتطبيقاتها الفقهية


 


أطروحة قدّمها الطالب


صادق حسن علي 


الى مجلس كلية الفقه/ جامعة الكوفة وهي جزء


من متطلّبات نيل درجة الدكتوراه في الشريعة والعلوم الإسلامية


 


بإشراف


الأستاذ المساعد الدكتور


هادي حسين الكرعاوي


1433هـ         2012م


 


      


 


 


 


 


            بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


 


(... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (( المجادلة : 11 ))


 


 


 


الإهداء


 


  إلى أهل بيت العصمة والطهارة


       إلى فاطمةَ وأبيها وبعلها وبنيها


                                                                 ( عليهم السلام )


 


                              وإلى والديَّ وأخي الشهيد فلاح


 


                                             أهدي جهدي المتواضع        


                                                         راجياً القبول والشفاعة


                                                  


 


                         شكر وعرفان


الحمد لله أولاً وآخراً


روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام ) أنّه قال : 


(( مَنْ لمْ يَشْكرْ المُنْعِمَ مِنَ المخلوقين لمْ يشكر اللهَ عزَّ وجلّ )) ()


 


أتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لكلِّ يدٍ كريمة أسهمت في إنجاز هذا البحث , وذلّلت العقبات , وأسدت الخدمات , سائلاً المولى لهم وافر الخيرات وأوسع الجنّات بخالص الدعوات , وأخصُّ بالذكر والشكر أستاذي المشرف الأستاذ المساعد الدكتور هادي حسين الكرعاوي الذي شملني برفيع خُلُقه , وغاية تواضعه , وسعة علمه , وسديد توجيهاته , سائلاً المولى له مزيداً من التوفيق .


كما وأتقدم بالشكر لعمادة كلية الفقه المتمثّلة بالأستاذ المساعد الدكتور علي كاظم سميسم  ولجميع أساتذتي الأفاضل الذين انتهلت من علومهم ورفيع خُلقهم .


وأتقدّم بالشكر أيضاً لأساتذتي وزملائي الكرام في الحوزة العلمية لما أسْدوا من ملاحظات وتوجيهات .


وشكري المتواصل لمؤسسة الشهداء في النجف الأشرف لدعمها طلبة الدراسات العليا والأولية من ذوي الشهداء , ولإدارة وكادر مكتبة الروضة الحيدرية ومكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامة ومكتبة الإمام الحسن عليه السلام في النجف الأشرف لجزيل خدماتهم وسعة رعايتهم واهتمامهم . 


وأثمّن جميع من سعى في إخراج هذا الجهد إلى النور , داعياً المولى العليَّ القدير أنْ يشملهم جميعاً برعايته ولطيف إحسانه .


 


 


المحتويات


 





الموضوع
الصفحة


الاهداء – شكر وعرفانالمحتويات ـ قائمة الرموز



المقدمة 
7ـ12


التمهيد  :   المدرسة الأصولية والحياة العلمية للسيد الخوئي 
 


المطلب الأول :   مفهوم " المدرسة الأصولية "
14


المطلب الثاني :  الحياة العلمية للسيد الخوئي
  29ـ 17


الفصل الأول :  مباحث الألفاظ عند السيد الخوئي
31ـ 135


المبحث الأول :   الوضع 
31


المطلب الأول : نظرية التعهّد في وضع الألفاظ
 31 


المطلب الثاني : المعنى الحرفي  
  62  


المبحث الثاني : الإطلاق
89


المطلب الاول : الإطلاق لغةً واصطلاحاً
89


المطلب الثاني : أقسام الاطلاق
91


المطلب الثالث : مقدمات الحكمة
93


المطلب الرابع : التقابل بين الإطلاق والتقييد
98


المطلب الخامس : مختار الخوئي في الإطلاق والأخبار العلاجية 
102


المبحث الثالث: مفهوم الوصف
107 


المطلب الأول : ضابط المفهوم  
107


المطلب الثاني : آراء الأصوليين في مفهوم الوصف
109


المطلب الثالث : مفهوم الوصف عند السيد الخوئي
111


المبحث الرابع : تطبيقات فقهية
120


المطلب الأول : تطبيقات التعهد
120


المطلب الثاني : تطبيقات المعنى الحرفي 
122


المطلب الثالث : تطبيقات الإطلاق
125


المطلب الرابع : تطبيقات مفهوم الوصف
129


الفصل الثاني : مباحث الظن
135ـ 180


المبحث الأول : حجية الإجماع 
135


المطلب الأول : الإجماع لغةً واصطلاحاً
135


المطلب الثاني : حجية الإجماع المنقول
137


المطلب الثالث : أدلة حجية الإجماع المحصّل
140


المبحث الثاني : حجية الشهرة   
146


المطلب الأول : الشهرة لغةً واصطلاحاً
146


المطلب الثاني : أدلة الشهرة بأقسامها ومناقشتها 
147


المبحث الثالث : تطبيقات فقهية
161


المطلب الأول : تطبيقات الإجماع
161


 المطلب الثاني : تطبيقات الشهرة 
168


الفصل الثالث : مباحث الاستصحاب
182ـ 236


المبحث الأول : أمارية الاستصحاب
182


المطلب الأول : الاستصحاب لغةً واصطلاحاً
182


المطلب الثاني : الفرق بين الأصل والامارة
185


المطلب الثالث : تقديم الأمارات على الاستصحاب  
190


المبحث الثاني : عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية
    198 


المطلب الأول : تبنّي الخوئي لرأي النراقي
198


المطلب الثاني : مناقشة الإشكالات الواردة على رأي النراقي
203


المطلب الثالث : استثناء الأحكام غير الإلزامية والشبهات الحكمية الوضعية
209


 المبحث الثالث : إستصحاب الكلي
212


المطلب الأول : أقسام استصحاب الكلي
212


المطلب الثاني : مناقشات القسم الرابع من استصحاب الكلي
215


المبحث الرابع : تطبيقات فقهية
222


الخاتمة ونتائج البحث  
237


ثبت المراجع والمصادرترجمة خلاصة البحث
241262



                            بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


 


مقدمة


 


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين ، وبعد : 


فقد امتازت الشريعة الإسلامية بأنّها خاتمة الشرائع الإلهية ، وشموليتها لكل جوانب الحياة ، ومواكبتها لكل عصرٍ ، شريعةٌ متكاملة بأحكامها ، محفوظةٌ بدستورها ، لأمةٍ عزيزةٍ بنبيّها ، فنبيّها خاتم الأنبياء ، وأوصياؤها سادات الأوصياء ، وعلماؤها أفضل العلماء ، فهموا علومها فوعوها ، وانتهلوا منها ما وسعهم دهرهم ، فتركوا آثاراً دلّت على عمقهم ، ودقّة منهجيتهم ، نظروا في كتاب الله وسنة نبيّهم وآله ، نظرة إمعان وإتقان ، بقلوب ملؤها الإيمان، فاستنبطوا قواعد الأحكام في الحلال والحرام، فكانت أصول الفقه هي النظرية ، وعلم الفقه هو التطبيق .


وتُعد النجف الأشرف في ماضيها وحاضرها رافداً معطاءً للعلم والمعرفة ، مذ حلّ بها باب مدينة علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمير المؤمنين وسيد الموّحدين علي ابن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلين ، ومن بعده حفيده جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام ) ، وتوالت الأيام حتى نزل بها الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت :460هـ) ، واتخذها للعلم موطنا ، فصارت الحوزة العلمية للنجف موئلا ، فاستقطبت طلاب العلم من كل حدبٍ وصوب ، وأنجبت الرجال الأفذاذ على مرّ السنين والأيام ، ومن بين أولئك السيد أبي القاسم الخوئي ( ت :1413هـ) ، الذي حضر دروس أعاظم عصره كالمحقق العراقي والنائيني والأصفهاني وغيرهم ، ساعدته عبقريته الفذّة لأن يكون علماً يُشار إليه بالبنان ، ترك آثاراً علمية واسعة ، وتخرّجت على يديه عشرات الطلبة ، صاروا مراجع دين ، ومجتهدين ومفكّرين .


 


 سبب اختيار البحث


رغبةً من الباحث في إبراز الجهود العلمية - لاسيّما الأصولية والفقهية منها ـ للسيد أبي القاسم الخوئي ، مركزاً على موارد الإبداع الأصولي عنده التي ذكرها مجموعة من تلامذته وغيرهم من طلبة العلوم الدينية في مقابلات 


 


                                       ( ا )


اُجريتها معهم (1) ، لاسيّما ما ذكره الشيخ اسحاق الفياض () ، وما تضمّنته مؤلفات السيد الخوئي الأصولية والفقهية 


، فضلاً عن أنّه لم يُدرَس في دراسةٍ أكاديميةٍ على مستوى الدراسات العُليا في مجال أصول الفقه () .


 


أهمية البحث


يجيب البحث على تساؤلات عدة أهمها : ما هي موارد الإبداع الأصولي عند السيد أبي القاسم الخوئي ؟ وهل يُعد السيد الخوئي صاحب مدرسةٍ في أصول الفقه ؟ وما هي معالم مدرسته الأصولية وهل طبّق ما أبدعه من أصول فقهية في بحثه الفقهي أو لا؟.


 


صعوبات البحث


تتجلّى صعوبات البحث في ما يلي :


1ـ الدقة العلمية لأسلوب البحث الأصولي عند السيد الخوئي ؛ لأنّه يمثّل ـ بمعية أساتذته وتلامذته ـ قمّة ما وصل إليه علم أصول الفقه عند الإمامية ؛ لانفتاح باب الإجتهاد عندهم ، مما يؤدي إلى ديمومة البحث الاصولي ونضوجه حيناً بعد حين ، وهذا يستلزم بطبيعة الحال الدقة في التركيز وسعة الاطلاع في العلوم الحوزوية ، لاسيّما وأن أسلوب أساتذة السيد الخوئي كالمحقق الأصفهاني يمتاز بالأسلوب العقلي والفلسفي .


2ـ نقل السيد الخوئي لآراء أساتذته وغيرهم من العلماء بالمضمون في الأعم الأغلب دون النص ؛ لأنّه يعتمد على حفظه عند إلقاء دروسه على تلامذته ، فيركّز على مضمون الرأي والفكرة ؛ وهذا يستوجب جهداً إضافياً للباحث من أجل تخريج الرأي من مصادره . 


3ـ في كثير من الأحيان يذكر السيد الخوئي إشكالات ودعاوى ونقوض دون أن ينسبها إلى قائلها ، كأن يقول : قد يقال.. ، أو ولا يُنتقض بـ ...، وهكذا ؛ وهذا يستوجب جهداً ووقتاً في سبيل نسبة الإشكالات والدعاوى إلى أصحابها . 


4ـ كثرة ودقة المؤلفات الأصولية والفقهية للسيد الخوئي ، سواءً أكان بقلمه أم بقلم تلامذته ـ أي تقريرات بحثه الأصولي والفقهي ـ ومؤلفات أساتذته وتلامذته ؛ من أجل مقارنة رأيه برأيهم ، وملاحظة مناقشات تلامذته لرأيه الأصولي ؛ كل ذلك أعطى للبحث صعوبة إضافية .


5ـ عدم استمرارية مجال البحث في مرحلة الماجستير للباحث عنها في مرحلة الدكتوراه ، فقد كانت مرحلة الماجستير في علم الكلام (1) ، والآن في علم أصول الفقه.


 


  منهج البحث


1ـ تبويب الأطروحة على أساس موارد الإبداعات الأصولية البارزة للسيد الخوئي والتي يُشار إليه بها عند مَنْ عاصره من العلماء .


2ـ أورد البحث آراء السيد الخوئي بإسلوبٍ أكاديمي ضمن محاور ونقاط في أغلب الأحيان ، من خلال التصرف بعبارته من دون الإخلال بقوة عبارته الأصولية .


3ـ مقارنة رأي السيد الخوئي برأي أساتذته ، وبيان ما أضافه في علم أصول الفقه .


4ـ الإشارة إلى منشأ الآراء التي تبنّاها السيد الخوئي ، لاسيّما في مبحث التعهّد ومباحث الاستصحاب .


5ـ نسبة الأقوال والإشكالات إلى أصحابها والتي ذكرها السيد الخوئي دون أن ينسبها إليهم .


6ـ أورد الباحث مناقشات بعض تلامذة السيد الخوئي لآرائه الأصولية ، مركزاً على ما ذكره السيد محمد باقر الصدر والسيد كاظم الحائري والشيخ اسحاق الفياض ، مع إبداء ما يلحظه الباحث على مناقشاتهم أحياناً.


7ـ ذكر الباحث التطبيقات الفقهية للآراء الأصولية للسيد الخوئي بعضها على نحوالتفصيل والآخر على نحو الإجمال روماً  للإختصار وضمن فصول الأطروحة .


8ـ محاولة تطبيق ما ذكره البحث من ضابط لمفهوم المدرسة على الآراء الأصولية للسيد الخوئي .


9ـ اكتفى البحث بذكر اسم المؤلف والكتاب في الهامش ؛ لأنّ هوية الكتاب كاملة ستذكر في ثبت المصادر والمراجع ، مع الاكتفاء بذكر سنة الوفاة في ترجمة الأعلام المذكورين في الأعم الأغلب ؛ كل ذلك طلباً للإختصار ، وبحسب توجيهات الأستاذ المشرف . 


 


خطة البحث 


إنتظم البحث بعد مقدمةٍ وتمهيدٍ في ثلاثة فصول :


عنى المبحث التمهيدي ببيان مفهوم " المدرسة " ومحاولة وضع الضابط والمناط فيها ، ضمن المطلب الأول ، وجاء المطلب الثاني لتسليط الضوء على الحياة العلمية للسيد الخوئي .


واشتمل الفصل الأول على مباحث الألفاظ وضمن أربعة مباحث :


المبحث الأول : تحت عنوان الوضع ، والبحث فيه بمطلبين :


            المطلب الأول : عنى بنظرية التعهّد في وضع الألفاظ .


           والمطلب الثاني : في المعنى الحرفي ، ذُكر فيه آراء الأصوليين فيالمعاني الحرفية وبيان مختار السيد الخوئي وهو التحصيص في وضع الحروف .


 


أما المبحث الثاني : فهو مبحث الاطلاق  تضمن خمسة مطالب :


             المطلب الاول : الإطلاق لغةً واصطلاحاً


             والمطلب الثاني : في أقسام الإطلاق


             والمطلب الثالث :في بيان مقدمات الحكمة


             والمطلب الرابع : في التقابل بين الإطلاق والتقييد


             والمطلب الخامس : مختار الخوئي في الإطلاق والأخبار العلاجية .


 


أما المبحث الثالث : فهو مفهوم الوصف ، لبيان التفصيل الذي ذكره السيد الخوئي في حجية مفهوم الوصف ، وانتظم في ثلاثة مطالب :


                 المطلب الأول : ضابط المفهوم  


                 المطلب الثاني : آراء الاصوليين في مفهوم الوصف


                                  ( د )


                 المطلب الثالث : مفهوم الوصف عند السيد الخوئي          


المبحث الرابع : تطبيقات فقهية ، تضمّن ثلاثة عشر تطبيقاً لما تقدّم من مطالب أصولية  لمباحث الألفاظ وفي أربعة مطالب :


                                          


                   المطلب الأول : تطبيقات التعهد


                   المطلب الثاني : تطبيقات الإطلاق


                   المطلب الثالث : تطبيقات المعنى الحرفي 


                   المطلب الرابع : تطبيقات مفهوم الوصف


 


أما الفصل الثاني : في مباحث الظن ، وقد انطوى في ثلاثة مباحث :


        المبحث الأول: في حجية الإجماع ، وذكر وجوه وأدلة حجية الإجماع المنقول والمحصّل ، وقد تضمن ثلاثة مطالب : 


                                            


               المطلب الأول : الإجماع لغةً واصطلاحاً 


               المطلب الثاني : حجية الإجماع المنقول


               المطلب الثالث : أدلة حجية الإجماع المحصّل


    أما المبحث الثاني : حجية الشهرة ، وقد انتظم في مطلبين :


             المطلب الأول : الشهرة لغةً وإصطلاحاً 


            المطلب الثاني : أدلة الشهرة بأقسامها ومناقشتها


المبحث الثالث : التطبيقات الفقهية ، تضمّن إثنتان وستين تطبيقاً لما تقدّم من مطالب أصولية في مطلبين :                         


            المطلب الأول :  تطبيقات الإجماع


            المطلب الثاني : تطبيقات الشهرة  


   


أما الفصل الثالث : في مباحث الاستصحاب ؛ لبيان ما ذهب إليه في أمارية الإستصحاب ، وعدم جريانه في الشبهات الحكمية ولإضافته قسماً جديداً في أقسام إستصحاب الكلي ، ولذا جاء هذا الفصل في أربعة مباحث :


المبحث الأول: أمارية الإستصحاب ، لأن السيد الخوئي يرى أنّ الاستصحاب أمارة وليس أصلا ، وقد تضمن ثلاثة مطالب :


                                          ( هـ )


         المطلب الأول : الاستصحاب لغةً واصطلاحاً


         المطلب الثاني : الفرق بين الأصل والأمارة 


         المطلب الثالث : تقديم الأمارات على الاستصحاب 


المبحث الثاني : عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ؛ باعتباره من 


معالم البحث الأصولي عند السيد الخوئي ، وانتظم في مطالب ثلاثة : 


        المطلب الأول : تبنّي الخوئي لرأي النراقي .


         المطلب الثاني : مناقشة الإشكالات الواردة على رأي النراقي .


        المطلب الثالث : إستثناء الأحكام غير الإلزامية والشبهات الحكمية الوضعية


المبحث الثالث: إستصحاب الكلي ، وقد انتظم هذا المبحث في مطلبين :


       المطلب الأول : أقسام استصحاب الكلي


      المطلب الثاني : الإشكالات على أقسام استصحاب الكلي                                    


المبحث الرابع : التطبيقات الفقهية ، تضمّن خمسا وثلاثين تطبيقاً لما تقدّم من آراءٍ أصولية في مباحث الاستصحاب . 


  ثم النتائج وخلاصة البحث 


وثبت المصادر والمراجع                                                          


 


وفي الختام أشكر سلفا أعضاء لجنة المناقشة وأنا على يقين أنّ البحث يزدان بملاحظاتهم عُمقا ورَونقا ، ولا أدّعي الكمال في بحثي هذا ؛ فالكمال لله وحده سبحانه ، ولكن حاولت عرضه بشكل ينسجم مع اللغة العلمية للسيد الخوئي (قده) ، وعملت جاهداً أن يأتي البحث بصورة تليق بمكانة كلية الفقه في الأوساط العلمية ، فإن أصبت فبتوفيقٍ من الله عزّ وجل ، وإن أخطأت فهو من عجزي وقلة حيلتي . 


وآخر دعوانا ( ... أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) سورة يونس : 10 . 


                                                                                  


                                                                               الباحث 


 


 


                                       ( و )


 


 


                           التمهيد  


 


 


    المدرسة الأصولية والحياة العلمية للسيد الخوئي


 


 


 


المطلب الأول : مفهوم المدرسة الأصولية


 


المطلب الثاني : الحياة العلمية للسيد الخوئي


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                     التمهيد


 


 المدرسة الاصولية والحياة العلمية للسيد الخوئي


 


ويشمل ما يأتي :


المطلب الأول : مفهوم " المدرسة الأصولية "  


1ـ مفهوم " المدرسة  " بعامّة 


2ـ مفهوم " المدرسة الأصولية " بخاصّة 


 


أما 1ـ  مفهوم " المدرسة  " بعامّة 


 فليس هناك تحديد واستعمال دقيق لمصطلح المدرسة عند قدماء فقهاء المسلمين ومتأخريهم على وجه العموم بل إنّه من مستحدثات العصر الحديث ؛ فلذلك لم يحدد تحديداً قاطعاً عند من إستعمله () بل يطلق ويراد منه المعنى اللغوي ، وعليه إذا اطلق يتبادر الى الذهن : المكان المخصّص المحاط بالبناء والذي يجتمع فيه طلاب العلم للأخذ عن العلماء على منهجٍ معينٍ وصورةٍ معينة ، والظاهر أنّهم أطلقوها وأرادوا منها دراسة حقبةٍ معينةٍ من الزمن في بلدٍ معينٍ ، توافر فيه علماء ، درس عليهم جمع غفير من التلاميذ وقصدهم طلاب العلم من كل فجٍ ، فأخذوا منهم وتأثّروا بهم ونشروا آراءهم ومناهجهم وإختياراتهم العلمية ودوّنها العلماء من بعد ذلك في كتبهم () . 


فعلى هذا يكون إطلاق المدرسة أولاً وبالذات على المكان الذي يُدرَّس فيه ثم اُستعير على حقبة زمنية معينة.  


وبحدود هذا الإطلاق يمكن تعريف " المدرسة " بأنّها مجموعة من الأشخاص ينتمون الى معلمٍ واحدٍ ويقتفون مذهبه وإنْ إختلفت نظرة كلٍ منهم في نتائج تفكيره (). كما أنّ هذا التعريف يُظهر أنّ إطلاق "المدرسة" يكون على الأشخاص من دون المكان .


 


وقد تطلق المدرسة ويراد منها : مجموعة من  الأسس الفكرية المنتظمة التي تتكفّل ترشيد الفكر في مسيرة تكامله ، لتحقيق الهدف المتوخّى من دراسته ()، فإطلاق المدرسة هنا يكون على الأسس الفكرية المنتظمة .


ويرى أحد الباحثين أنّ للمدرسة أربعة مقوّمات : المكان ، المدرّس ، التلاميذ ، الإنتاج الفكري () . 


يتبيّن ممّا تقدّم أنّ كل هذه المحاولات في إيجاد تعريف لمفهوم " المدرسة " قاصرة عن الوفاء بالمعنى الدقيق لها ، ولذا ينبغي بيان الضابط فيما يصدق مفهوم "المدرسة "على  شيءٍ ما .


ويمكن أنْ يقال : إنّ الضابط في  صدق مفهوم "المدرسة " هو أنْ تكون لها آراؤها الخاصة ومنهجها في التفكير وطريقتها في الإستدلال ().


ويرى الشيخ باقر الإيرواني (معاصر) أنّ العالم لكي يصح أنْ نصفه بأنّه صاحب مدرسة إذا كانت له آراءٌ في أمهات المسائل الأصولية ـ كمنجزيّة العلم الإجمالي وقاعدة قبح العقاب بلا بيان مثلاً ـ تؤثّر على المسائل الفرعية () . 


 ومما ينبغي الإشارة إليه أنّ أية مدرسةٍ لا يمكن أنْ تأتي عن فراغٍ بل لا بدّ لها من تأثّرات وإفادات من العلوم أو المدارس السابقة عليها ، فتتشكّل مدرسةً ومنهجاً من التراكمات المعرفية التي إنتقلت اليها عبر الزمن () ، وبالتالي تكون المدرسة اللاحقة إمتداداً للمدرسة السابقة () .


وإنّ لكل مدرسةٍ رائداً يمتاز بأنّه :(حامل لواء ذلك الفن وأنّه أصلح ما رأى من الحاجة في الفن من الإصلاح وطوّر المسائل التي كان فيها خمول أو نقصان أو أضاف بعض المسائل) () .


2ـ مفهوم " المدرسة الأصولية " بخاصّة 


أما بخصوص المدرسة الأصولية فالضابط هو : الجدّة والأصالة بالمنهج الأصولي وتنقيح المباني للوصول الى الرأي الراجح منها أو الإستقلال برأي خاص قد تنفرد به عمّا سبقها .


وعلم أصول الفقه على ما رجّح السيد الخوئي (قده) في تعريفه أنّه : ( العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق إستنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة الى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها ) () .


يظهر مما تقدم أنّ للمدرسة خصائصَ ومميزات ، هي :


1ـ أنْ تمتاز بالتجديد الفكري في جانب من جوانب العلوم المتعددة سواء أكان على مستوى الإبداع والإضافة المعرفية أم على مستوى التنظيم والتبويب والمنهج .


وليس بالضرورة أنْ تكون هذه الإضافة المعرفية أفقية أي بإضافة آراء ونظريات جديدة بل قد تكون الإضافة عمودية وذلك بزيادة بيانٍ وإيضاح للمطالب العلمية الدقيقة .


2ـ أنْ يكون للمدرسة رائدٌ يمتاز بالنبوغ الفكري ، يُعدّ صاحب هذه المدرسة ؛ بما أضافه من إضافات معرفية في أمّهات المسائل الأصولية.


3ـ أنْ تُخرّج هذه المدرسة شخصية أو أكثر من الشخصيات العلمية التي يكون لها أثر واضح في الساحة العلمية ، وأنْ تُثمر عن مؤلفاتٍ علميةٍ تكون معيناً للأجيال اللّاحقة .


 4ـ ليس بالضرورة أنْ تتصف المدرسة بالإستقلالية التامة عمّن سبقتها من المدارس بل قد تكون إمتداداً واستمراراً لمن سبقتها .


ومحل البحث " المدرسة الأصولية لدى السيد الخوئي وتطبيقاتها الفقهية "  


وعلى هذا الأساس ينبغي أنْ يكون موضوع البحث أو مفهوم المدرسة الأصولية عنده هو ما أضافه السيد الخوئي(قده) في علم أصول الفقه من إبداعاتٍ فكريةٍ وفق منهجيةٍ إمتاز بها في أبحاثه الأصولية والتي أثمرت عن مؤلفاتٍ ونتاجاتٍ لها أثرها البالغ في الحوزة العلمية ، وما أفاض من تلامذةٍ بلغوا درجة الإجتهاد والمرجعية ، وبذلك كله تتجلى معالم مدرسته الأصولية . 


المطلب الثاني : الحياة العلمية للسيد الخوئي


 


كتب السيد الخوئي سيرته الذاتية بنفسه في كتابه " معجم رجال الحديث " جرياً على عادة الرجاليين في تحرير تراجمهم عندما يصل الدورالى اسمهم ()، فهو أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي ولد في بلدة ( خوي ) من بلاد أذربيجان ، في الليلة 15، من شهر رجب ، سنة 1317ه( الموافق 19/ 11/ 1899م) ، وبها نشأ مع والده وإخوته ، وأتقن القراءة والكتابة وبعض المقدمات الحوزوية ، حتى حدث الإختلاف الشديد بين الأمة لأجل حادثة المشروطة * ، فهاجر والده من أجلها إلى النجف الأشرف سنة 1328ه، وإلتحق السيد الخوئي به في سنة 1330هبرفقة أخيه الأكبر السيد عبد الله الخوئي ، وبقية أفراد عائلته () . 


ويشارالى أنّ السيد الخوئي بقي في النجف الاشرف ثمانين عاماً ، لم يخرج منها سوى ثلاث سنوات اُنتدب في أثنائها للتدريس في كربلاء المقدسة من السيد حسين القمي (ت : 1366هـ) ().


 


المقصد الأول : شيوخه 


1ـ شيوخه في الفقه والأصول 


عندما وصل السيد الخوئي النجف الأشرف ـ الجامعة الدينية للشيعة الإمامية ـ ابتدأ بقراءة العلوم الأدبية والمنطق ، ثم قرأ الكتب الدراسية الأصولية ، والفقهية ، لدى كثير من أعلامها ، منهم والده السيد علي أكبر الخوئي ، وأنهى دراسة المقدمات والسطوح خلال ست سنوات ، ثم حضر الدروس العليا " بحث الخارج " على أكابر المدرّسين في سنة 1338ه، خصّ بالذكر منهم أساتذته الخمسة ، وهم :


 1 - آية الله فتح الله ، المعروف بـ ( شيخ الشريعة الأصفهاني )( ت : 1339هـ). 


 2 - آية الله الشيخ مهدي المازندراني ( ت : 1342هـ).


 3 - آية الله الشيخ محمد حسين النائيني ( ت : 1355هـ) .


4 - آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي ( ت : 1361هـ) . 


 5 - آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني ( ت : 1361هـ) . 


 وأشار  السيد الخوئي الى أنّ أكثر من تتلمذ عليهما فقهاً وأصولاً هما الشيخ النائيني والشيخ العراقي ، وأنّ المرحوم النائيني آخر أستاذ لازمه ، فقد حضر على كل منهما دورة كاملة في الأصول ، وكتب عدة في الفقه ولسنين عدة ، وكان السيد أبو القاسم الخوئي  يقرر بحث كل منهما على جمع من الحاضرين في البحث ، وفيهم غير واحد من الأفاضل وهي بدايات تدريسه للبحث الخارج، وكان ذلك في حياة استاذه الميرزا النائيني وكان عمره الشريف آنذاك ستة وعشرين عاماً ، ولدى وفاة استاذه الميرزا النائيني سنة 1355هـ استقل بالبحث الخارج وعمره ثمانية وثلاثون عاما () .


وقد بدأ السيد الخوئي الدورة الأولى في الأصول بشكل منظّم بثمانية تلاميذ ، هم :


1ـ السيد موسى السيد جعفر بحر العلوم ( ت : 1411هـ ).


2ـ الشيخ علي الشيخ حسين الصغير ( ت : 1395هـ ) .


3ـ الشيخ سلمان الشيخ عبد المحسن الخاقاني ( ت : 1408هـ).


4ـ الشيخ محمد تقي الشيخ جواد الايرواني ( ت : 1426هـ ).


5ـ السيد محمد السيد جعفر الشيرازي .


6ـ الشيخ أحمد الشيخ هادي الطرفي .  


7ـ السيد محمد السيد سلطان كلانتر ( ت : 1420هـ ).


8ـ السيد محمد السيد محمود الروحاني ( ت : 1414هـ ) .


 


2ـ شيوخه في العلوم الأخرى


لم يكتفِ السيد الخوئي (قده) بدراسة علميَ الفقه والأصول وإنما درس العلوم الإسلامية الأخرى عند أساتذة وشيوخ من كبار عصره () ، منهم :


1ـ آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي( ت : 1352هـ) : كان أستاذاً في علم الكلام والعقائد والتفسير، لا نظير له في عصره في حوزة النجف الأشرف ، وقد استفاد كثيرٌ من الباحثين من آثاره العلمية في حوار المسيحيين والماديين.


2ـ آية الله السيد علي القاضي( ت : 1380هـ) : عارف عصره ومعلم الأخلاق ، له الدور الفاعل والأساس في مراحل سير السيد الخوئي وسلوكه .


3ـ آية الله السيد حسين البادكوبي ( ت : 1358هـ): كان أستاذاً لا ينازعه أحد في الفلسفة والعرفان في حوزة النجف الأشرف ، وقد درس السيد الخوئي هذين الفرعين عنده لمدة من الزمن .


4ـ آية الله السيد أبو القاسم الخوانساري (ت: 1358هـ) : كان أستاذ السيد الخوئي في الرياضيات العالية . 


5ـ آية الله السيد عبد الغفارالمازندراني ( ت : 1365هـ) : العالم الورع التقي ، وقد حضر السيد الخوئي عنده درس الأخلاق .


 


3ـ مشايخه في الإجازة


يقول السيد الخوئي في هذا الصدد :( ولي في الرواية مشائخ أجازوني أنْ أروي عنهم كتب أصحابنا الإمامية ، وغيرهم ، ولذا أروي بعدة طرق كتبنا الأربعة (الكافي - الفقيه - التهذيب - الاستبصار )، والجوامع الأخيرة (الوسائل - البحار - الوافي)، وغيرها من كتب أصحابنا ( قدس الله سرهم ) ، فمن تلك الطرق ما أرويه عن شيخي النائيني ، عن شيخه النوري ، بطرقه المحررة في خاتمة كتابه ( مستدرك الوسائل ) المعروفة ب( مواقع النجوم) ، المنتهية إلى أهل بيت العصمة والطهارة ) () . 


 


المقصد الثاني : إجتهاده


عندما بدأ السيد أبو القاسم الخوئي الحضور في دروس البحث الخارج سنة 1338هـ ، أثبت بكفاءته العلمية أنّه من أبرز تلامذة المحقق محمد حسين النائيني( ت : 1355هـ) حتى صار يُشار إليه بالبنان ، وشهد له باجتهاده وبمقامه العلمي جمعٌ من أساطين الحوزة العلمية وفقهائها ومراجعها ، أمثال : المحقق النائيني ، والمحقق العراقي ، والمحقق محمد حسين الأصفهاني والشيخ محمد جواد البلاغي ، وذلك سنة 1352هـ () ، أي بعد أربع عشرة سنة من حضور دروس البحثً الخارج . 


وقد نصّ المحقق محمد حسين الأصفهاني( ت : 1361هـ) على إجازة اجتهاد السيد أبي القاسم الخوئي بقوله : ( ... جناب السيد أبو القاسم الخوئي النجفي دامت تأيداته وإفاداته ، قد حضر على غير واحد من الأعيان وعليَّ شطراً وافياً من الزمان لتحقيق المباحث العلمية من العقلية والنقلية ، وتنقيح القواعد الأصولية والمباني الفقهية ... حتى  فاز وله الحمد بالمراد وحاز درجة  الإجتهاد ... كما أنّه له التصدي لوظائف الفقيه ...  محمد حسين النجفي الأصفهاني في 22محرم الحرام 1350هـ )() .


كما نال السيد الخوئي إجازة الإجتهاد من استاذه المحقق محمد حسين النائيني جاء فيها :(... لا يخفى أنّ فضيلة صفوة المجتهدين العظام ركن الإسلام السيد أبو القاسم سلّمه الله تعالى ، مضافاً إلى كونه من أجلّ وأفاضل المجتهدين العظام ، فإنّه مأذونٌ ومجازٌ من قِبلي للتصدي للأمور الحسبية  التي تكون في عصر الغيبة على المغيّب وآبائه الطاهرين أفضل الصلاة والسلام منوطة بإذن من له الولاية عليها ، ...، 19شهر شوال 1353هـ . الأحقر محمد حسين الغروي النائيني )().


كما أنّ للسيد الخوئي(قده) إجازتين بالإجتهاد من المحقق العراقي والسيد أبي الحسن الأصفهاني ().


 


المقصد الثالث : تولّيه للمرجعية 


 


 بعد وفاة السيد محسن الحكيم( ت : 1390هـ ) صارت المرجعية الدينية يتقاسمها أكثر من فقيه ، فقد كانت بين آية الله السيد محمود الشاهرودي( ت : 1392هـ) وبين السيد أبي القاسم الخوئي ( ت1413هـ) ، إلّا أنّ زعامة السيد الشاهرودي ومرجعيته لم تنتشر على نطاق واسع ولم تمتد في أوساط المسلمين العرب مثلما امتدت زعامة ومرجعية السيد الخوئي ، وحتى عند المسلمين غير العرب لم تكن نسبة المقلّدين كما هي للسيد الخوئي () . 


 


 


المقصد الرابع : تدريسه


تربّع السيد الخوئي على كرسي الدرس في النجف الأشرف مدة من الزمن تزيد على نصف قرن ()، وقد تنوّعت مجالات تدريس السيد الخوئي للعلوم الحوزوية ، وفي ثلاثة محاور أساسية ، هي : 


 


1ـ تدريسه لعلم الفقه


في هذا الصدد يذكر السيد الخوئي في ترجمته لنفسه ، مانصّه: ( وقد أكثرت من التدريس ، وألقيت محاضرات كثيرة في الفقه والأصول ، والتفسير ، وربّيت جماً غفيراً من أفاضل الطلاب في حوزة النجف الأشرف ، فألقيت محاضراتي في الفقه "بحث الخارج " دورتين كاملتين لمكاسب الشيخ الأعظم الأنصاري(قده) . كما درّست جملة من الكتب الأخرى ، ودورتين كاملتين لكتاب الصلاة ، وشرعت في 27 ربيع الأول سنة 1377 هفي تدريس فروع "العروة الوثقى" لفقيه الطائفة السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ، مبتدئا بكتاب "الطهارة" ،حيث كنت قد درست  "الإجتهاد والتقليد" سابقا ، وقطعت شوطاً بعيداً فيها - والحمد لله - حيث وصلت إلى كتاب"الإجارة"، فشرعت فيه في يوم 26ربيع الأول سنة1400ه، وقد أشرفت على إنجازه الآن في شهر صفر سنة    1401ه ) () .


ويذكر الشيخ محمد اسحاق الفياض أنّ السيد الخوئي(قده) قام بإلقاء الدروس العليا (بحث الخارج) في الفقه والأصول على جمعٍ من الفضلاء ذوي الكفاءة واللياقة لا يقل عددهم عن أربعمائة أو خمسمائة نفر() .


 


2ـ تدريسه لعلم الأصول


وضّح السيد الخوئي تدريسه لعلم أصول الفقه بقوله: (وألقيت محاضراتي في الأصول ( بحث الخارج ) ست دورات كاملات ، أما السابعة فقد حال تراكم أشغال المرجعية دون إتمامها ، فتخلّيت عنها في مبحث الضد ) (). وتقدّر مدّة الدورة الأصولية عند سماحته بين خمس سنين إلى ست سنوات ، وهذا يعني أنّه أمضى حوالي ثلاثين عاماً مدرِّساً للأصول في البحث الخارج ، مجدداً في مدرسة الأصول عند الشيعة الإمامية التي بلغت على يديه المرحلة التاسعة ().


وذكر الشيخ الفياض أنّ السيد الخوئي (قده) شرع بتدريس البحث الخارج للأصول ولم يتجاوز عمره الشريف خمساً وعشرين سنة ().


3ـ تدريسه لتفسير القرآن


شرع السيد الخوئي(قده) بتدريس تفسير القرآن الكريم برهةً من الزمن وكان يودّ انتشار هذا الدرس في الحوزة وتطويره(). ولذا كان له الدور الريادي في إدخال مادة تفسير القرآن الكريم ضمن أبحاث الخارج في الحوزة العلمية في النجف الأشرف .


وقد واصل السيد الخوئي تدريسه لهذه العلوم في مدة تزيد على نصف قرن ولم يتوقف إلا في الضرورات كالمرض والسفر ، إذ تشرّف بحج بيت الله الحرام عام 1353 ه، وتشرّف بزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) عام 1350، وعام  1368ه() .


 


4ـ اسلوبه في التدريس


إنّ للسيد الخوئي في بحثه الخارج اسلوباً جذّاباً استطاع أنْ يأخذ بمجامع قلوب تلامذته ، فقد كان ذا قدرة بيانية متفوّقة ؛ لأنّه كان يمتلك وسائل التعبير العربي الفصيح دونما تكلّف أو تردد ، وذا قدرة وافية في العرض ، من خلال إلمامه بموضوع البحث بجميع عناصره وأبعاده ، ويسلسله مرتباً ترتيباً عضوياً ، وهذا بدوره يُنبئ عن تضلّعه وتعمّقه في الإحاطة بمادة الدرس ، وبعد أنْ يوضّح الموضوع ، ويحرّر المسألة يذكر الأدلة ، يحلّل ويعلّل ويوازن ويقارن ، ويناقش ويحاكم ، منتهياً الى مايراه أو يختار من دليل في هوية ما يسلّمه إليه البحث ، بعيداً عن الإستطراد ، دقيق النظر ، يصطاد النكتة العلمية بمهارة ().


5ـ أثر أساتذته في بحثه الأصولي


تتلمذ السيد الخوئي (قده) على أقطاب المدارس الأصولية المتعاصرة : الشيخ العراقي والشيخ الأصفهاني ، والميرزا النائيني ، وكان لكل واحد منهم منهجه الخاص ، فقد عُرفت مدرسة الأصفهاني بطابعها الفلسفي ؛ لأنّ مؤسسها كان حكيما متألّها فضلاً عن تخصّصه في الفقه والأصول ، ولذا هيمنت الفلسفة على آفاقه الذهنية ومنطلقات تفكيره .


وعُرفت مدرسة المحقق العراقي بطابعها العلمي الذي نأى بها عن إخضاع الظواهر العلمية لمبادئ الفلسفة ونظرياتها  .


وكانت مدرسة المحقق النائيني تجمع بين الطابعين الفلسفي والعلمي . وبمقتضى نضج المنهج طُرحت هذه المدارس الثلاث المتعاصرة كثيرا من الفكر الأصولي القديم ، وأضافت كثيرا من الفكر الأصولي الحديث ، ولأنّ السيد الخوئي كان من أوعى الطلاب الذين حضروا منابرهؤلاء الأقطاب الثلاثة ، إذ صبّت كلها في محيطه العلمي صبّاً حيّاً ، إستوعبها منهجاً ومادةً ، واستطاع أنْ يجمع بينها في مقارنة علمية واعية ومنتجة ، كوّنت له مدرسة أصولية خاصة به ، فكانت آراؤه الأصولية تُذكر في الدراسات الأصولية الى جانب آراء أساتذته ().


ويقول أحد الباحثين : ( لقد كان السيد الخوئي صاحب مدرسة أصولية في الفقه والأصول )() .


ويرى باحث آخر: إنّ السيد الخوئي إمتاز بأنّه صاحب مدرسة عقلية خرّجت مجموعة كبيرة من المجتهدين ربما لم يحصل ذلك لفقيه آخر في تاريخ الزعامة الشيعية من قبل ().


 


المقصد الخامس : تلامذته


تمكّن السيد الخوئي من إعداد نخبة كبيرة من العلماء والمجتهدين الذين حضروا بحثه وانتهلوا من فيض علمه ، وهذه نخبة منهم مرتبة بحسب حروف الهجاء :


1ـ السيد أبو القاسم الكوكبي .


2ـ الشيخ أحمد البهادلي ( معاصر).


3ـ الشيخ محمد اسحاق الفياض ( معاصر).


4ـ الشيخ باقر الايرواني (معاصر).


5ـ الشيخ باقرشريف القرشي ( ت : 1433هـ).


6ـ الشيخ بشير حسين الباكستاني النجفي (معاصر) .


7ـ الشيخ الميرزا جواد التبريزي ( ت : 1427هـ ) .


8ـ السيد رضا الخلخالي ( ت : 1411هـ ) .


9ـ الشيخ رضا اللطفي .


10ـ السيد عبد الرزاق المقرّم ( ت : 1391هـ ).


11ـ الشيخ عبد الأمير قبلان ( معاصر).


12ـ الشيخ عبد الهادي الفضلي ( معاصر).


13ـ السيد علاء الدين بحر العلوم * .


14ـ السيد علي البهشتي ( ت : 1424هـ )  .


15ـ السيد علي الحسيني الشاهرودي ( ت : 1376هـ).


16ـ الشيخ الميرزا علي الغروي التبريزي ( ت : 1419هـ ) .


17ـ السيد علي بن محمد باقر الحسيني السيستاني ( معاصر) .


18ـ الشيخ غلام رضا عرفانيان .


19ـ السيد فخر الدين الزنجاني ( ت : 1413هـ)


20ـ السيد كاظم الحائري (معاصر). 


21ـ السيد محمد باقر بن حيدر الصدر( ت : 1400هـ).


22ـ السيد محمد تقي الحكيم ( ت : 1424هـ).


23ـ السيد محمد تقي بن أبي القاسم الخوئي ( ت : 1415هـ )


24ـ الشيخ محمد تقي الجعفري .


25ـ الشيخ محمد تقي بن عبد الرسول الجواهري * .


26ـ السيد محمد حسين فضل الله (ت: 1432هـ) .


27ـ السيد محمد سَرْوَر الواعظ البهسودي (ت بحدود 1401هـ) .


28ـ الشيخ محمد علي التوحيدي ( ت : 1395هـ ).


29ـ السيد محمد بن محمود الحسيني الروحاني ( ت : 1414هـ ) .


30ـ السيد محمد بن محمود الشاهرودي ( معاصر ).


31ـ الشيخ محمد مهدي بن علي محمد الآصفي (معاصر).


32ـ السيد محمد مهدي الخلخالي .


33ـ الشيخ محمد مهدي شمس الدين .


34ـ السيد محمد مهدي الخرسان (معاصر).


35ـ الشيخ محمد هادي آل راضي (معاصر) .


36ـ السيد محمود بن علي أصغر الشاهرودي الهاشمي (معاصر).


37ـ السيد محي الدين بن محمد جواد الغريفي البحراني ( ت : 1412هـ ).


38ـ الشيخ مرتضى بن علي محمد البروجردي (ت : 1418هـ) .


39ـ الشيخ مصطفى بن محمد تقي الهرندي ( معاصر) .


40ـ الشيخ حسين وحيد الخراساني ( معاصر ) . وغيرهم .


وقد أوصل أحد الباحثين تلامذة السيد أبي القاسم الخوئي إلى ستمائة وسبعة عشر تلميذاً () . 


 


المقصد السادس : آثاره العلمية 


ترك السيد الخوئي (قده) نتاجات علمية خالدة في الفقه والأصول والتفسير ، تعبّر عن باعه الطويل وتخصّصه في العلوم الدينية ، وآثاره العلمية هي :


أولا : آثاره في علم الفقه


للسيد أبي القاسم الخوئي تأليفات عديدة في علم الفقه () ، وهي : 


1- مباني تكملة المنهاج : جزءان ، في القضاء والحدود ، والقصاص والديات .


2- تكملة منهاج الصالحين . 


3- تهذيب وتتميم منهاج الصالحين  .


4- المسائل المنتخبة .


5- مستحدثات المسائل () .


6- تعليقة على العروة الوثقى .


7 - رسالة في اللباس المشكوك ، طُبعت مع رسائل أخرى في الموسوعة الأخيرة للسيد الخوئي  () .


8- منتخب الرسائل .


9- تعليقة على المسائل الفقهية .


10- منتخب توضيح المسائل للسيد حسين البروجردي  .


11- تعليقة على توضيح المسائل للسيد حسين البروجردي ، طبعت مستقلة ثم اُدرجت في المتن .


 12- تلخيص المنتخب .


 13- مناسك الحج ( عربي ) .


    مناسك الحج ( فارسي ) .


14- تحرير العروة الوثقى .


15- رسالة في تحقيق الكر .


 16- رسالة في حكم أواني الذهب .


17ـ رسالة " إضاءة القلوب في تحقيق المغرب والغروب " () .


18ـ رسالة في قاعدة التجاوز() .


 


 وكُتبت دروسه في البحث الخارج للفقه بيد تلامذته وتسمى  بالتقريرات ، وهي :


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى :عشرة أجزاء ، من تأليف الشيخ الميرزا علي الغروي ، جزء في الإجتهاد والتقليد وتسعة في الطهارة .


2- مستند العروة الوثقى : ستة عشرجزءً ، تأليف الشيخ مرتضى البروجردي ،  في الصلاة والصوم والزكاة والخمس والاجارة . 


 3ـ التنقيح في شرح المكاسب : خمسة أجزاء، تأليف الشيخ الميرزا علي الغروي ، في البيع والخيارات . 


4ـ معتمد العروة الوثقى والمعتمد في شرح المناسك : أربعة أجزاء ، تأليف السيد  رضا الموسوي الخلخالي ، في الحج .


5ـ مباني العروة الوثقى : ثلاثة أجزاء ، تأليف السيد محمد تقي الخوئي ، في المضاربة والمساقاة والنكاح . 


6- مصباح الفقاهة : خمسة أجزاء ، تأليف الشيخ محمد علي التوحيدي ، وهي تقريرات أبحاث السيد أبي القاسم الخوئي في المكاسب المحرّمة والبيع والخيارات . 


7- دروس في فقه الشيعة :أربعة أجزاء ، تأليف السيد محمد مهدي الخلخالي وهي تقريرات أبحاث السيد أبي القاسم الخوئي .


8- محاضرات في الفقه الجعفري جزءان : تأليف السيد علي الحسيني الشاهرودي ، في المعاملات .


9ـ رسالة في الإرث : للشيخ محمد بن محمد تقي الجواهري ، طُبعت في الموسوعة الأخيرة للسيد الخوئي () .


10ـ رسالة في الرضاع : تأليف الشيخ محمد تقي الإيرواني والسيد محمد مهدي  الخلخالي ، طُبعت في الموسوعة الأخيرة للسيد الخوئي ().


11ـ فقه العترة في زكاة الفطرة : جزء واحد تأليف السيد محمد تقي الجلالي       ( ت : 1402هـ ) .


 


ثانيا : آثاره وتقريرات أبحاثه الأصولية


ترك السيد الخوئي آثاراً عدة في مجال البحث الأصولي سواء أكان بقلمه أم بقلم تلامذته وهي () :


 1ـ أجود التقريرات جزءان ألفها السيد أبو القاسم الخوئي وهي تقريرات أبحاث استاذه المحقق النائيني .


اما تقريرات الأبحاث الأصولية للسيد أبي القاسم الخوئي بقلم تلامذته فهي :


2ـ مصباح الأصول جزءان : ألفها السيد محمد سرور الواعظ البهسودي .


3ـ محاضرات في أصول الفقه وهي دورة كاملة في مباحث الألفاظ : ألفها الشيخ  اسحاق الفياض  .


 4- مباني الاستنباط جزءان في مباحث الألفاظ : ألفها السيد أبو القاسم الكوكبي .


 5- دراسات في الأصول العملية : جزء واحد ، تأليف السيد علي الحسيني الشاهرودي  .


 6- مصابيح الأصول اجزاء : دورة أصولية كاملة ألفها السيد علاء الدين بحر العلوم  .


7ـ غاية المأمول من علم الأصول ، دورة أصولية كاملة في جزئين ألّفها الشيخ محمد تقي بن عبد الرسول الجواهري . 


8- جواهر الأصول :جزء واحد تأليف السيد فخرالدين الزنجاني( ت:1413هـ) .


9ـ رسالة في الأمر بين الأمرين : تأليف الشيخ محمد تقي الجعفري ، وهي تقريرات أبحاث السيد أبي القاسم الخوئي في الامر بين الأمرين () .


10ـ الدرر الغوالي في فروع العلم الاجمالي : جزء واحد ، تأليف الشيخ رضا اللطفي  .


11ـ الرأي السديد في الإجتهاد والتقليد : جزء واحد تأليف الشيخ غلام رضا عرفانيان . 


 وقد سُجّلت جميع دروس الدورة السادسة لبحثه الخارج في علم الأصول وكثيرٌ من أبحاثه الفقهية في أشرطة خاصة .


 


ثالثا : آثاره في تفسير القرآن : وقد ألّف في التفسير وعلوم القرآن ما يأتي : 


1ـ البيان في تفسير القرآن .


2ـ- رسالة في نفحات الإعجازفي رد الكتاب المسمى : حسن الإيجاز* ، طُبعت في الموسوعة الأخيرة للسيد الخوئي () .


 


رابعا : آثاره في علم الرجال :


1ـ معجم رجال الحديث : في ثلاثة وعشرين جزءً .


2ـ رسالة في كليات علم الرجال ، طُبعت في الموسوعة الأخيرة للسيد       الخوئي () .


 


المقصد السايع : دوره في بناء المؤسّسات


لقد أعطى السيد الخوئي إهتماماً كبيراً إلى الجانب الإصلاحي الإجتماعي والثقافي وأولاه عناية خاصة في حياته ، لذا تجد كثيراً من المشاريع الدينية والتربوية والإنسانية ، والتي قامت بها " مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية " في لندن ، كلها من تخطيطه ورسمه وتوجيهه ، وهي تدل على نظرة قيادية رائدة لم تقتصر على مكان معين ، أو فئة معينة ، وإنما أكدت على شمولية أوسع وتوجه أكبر لكل طوائف العالم الإسلامي الشيعي في شتى بقاعهم ،من بناء الانسان المسلم بناءً صحيحاً وحمايته من الإنحراف .


و" مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية "ـ  تأسست عام 1989م ـ ومن أبرز مشاريعها ما يأتي :


أولا : في بريطانيا اُنجزت أربعة مشاريع هي :


1ـ جامع كبير تحتاج إليه الطائفة في شتى المناسبات الدينية والإرشادية .


2ـ مدرسة إبتدائية للبنين وأخرى للبنات لصيانة أبناء الجيل من الانحراف .


3ـ المؤسسة الثقافية : لنشر الفكر التربوي ، والثقافي لمدرسة أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وقد أصدرت مجلتين :( النور) باللغة العربية و(دايلوك) باللغة الإنجليزية .


4ـ تأسيس مكتب للعلاقات العامة : لطرح مشاكل المسلمين وبيان مظلوميتهم .


ثانياً : في إيران : اُنجز معهد ديني باسم ( مدينة العلم ) في مدينة قم ، خُصّص لتدريس العلوم الإسلامية على مختلف المستويات ، مع خمسمائة منزل لطلاب العلوم الدينية .


وفي مشهد الإمام الرضا  بخراسان اُنجز بناء مدرسة لطلاب العلوم الدينية .


ثالثاً : في نيويورك : تم إنجازمركز الإمام الخوئي الإسلامي يضم مدرسة إسلامية.


رابعاً : في الهند : تم انجاز مجمع الإمام الخوئي الثقافي  .


خامساً : في تايلاند : إنجاز مركز إسلامي للتبليغ الإسلامي .


سادساً : في إسلام آباد ـ باكستان : مشروع مركز ديني لطلاب العلوم الإسلامية .


سابعاً : في ديربون ـ مشيغان : مشروع مدرسة للطلاب المسلمين() .


ثامناً : في النجف الأشرف : ( مدرسة دار العلم ) مشروع قيد الإنشاء ، وبمساحة  3600 م2 ، يحدّها من الشمال شارع السور ومن الجنوب جامع الجواهري ،  ومن المقرر أنْ تكون المدرسة بعشر طوابق ، وتتضمن مائتي غرفة لسكنى الطلاب ، ومصلّى بمساحة 1000م2 ، وقاعتين للمؤتمرات ، ومكتبة في   طابقين () .


وفاته 


توفي بتاريخ  8 صفر 1413هـ ( المصادف 8/8 /1992م)  ودفن في مقبرة الأسرة في الغرفة المجاورة لجامع الخضراء ، في المكان الذي كان يلقي فيه دروسه ، وبجوار ضريح الإمام علي بن أبي طالب  في النجف الأشرف ، ولم تسمح السلطات العراقية حينئذ بتشييع جثمانه أو إقامة مجالس العزاء والفاتحة على روحه () .


 


 


الفصل الأول


مباحث الألفاظ عند السيد الخوئي


 


المبحث الأول: الوضع 


       المطلب الأول : نظرية التعهد في وضع الألفاظ


      المطلب الثاني : المعنى الحرفي


 


المبحث الثاني : الإطلاق 


      المطلب الاول : الإطلاق لغةً واصطلاحاً


       المطلب الثاني : أقسام الإطلاق


       المطلب الثالث : مقدمات الحكمة


       المطلب الرابع : التقابل بين الإطلاق والتقييد


        المطلب الخامس : مختار الخوئي في الاطلاق والأخبار العلاجية 


 


المبحث الثالث : مفهوم الوصف 


     المطلب الأول : ضابطة المفهوم


      المطلب الثاني : آراء الاصوليين في مفهوم الوصف


      المطلب الثالث : مفهوم الوصف عند السيد الخوئي


 


المبحث الرابع : تطبيقات فقهية


        المطلب الأول : تطبيقات التعهد


        المطلب الثاني : تطبيقات المعنى الحرفي 


        المطلب الثالث : تطبيقات الإطلاق


        المطلب الرابع : تطبيقات مفهوم الوصف


الفصل الأول


مباحث الألفاظ عند السيد الخوئي


 


للسيد الخوئي في مباحث الألفاظ إبداعات أصولية بارزة أهمها : نظرية * التعهّد في وضع الألفاظ ، وقوله بالتحصيص في وضع المعنى الحرفي ، وبيان عدم أهلية الإطلاق للتعارض مع العام ، وقوله بالتفصيل في مفهوم الوصف ، ولذا تضمّن الفصل الأول أربعةَ مباحث :


 


المبحث الأول : الوضع


يتضمن مبحث الوضع معلمين بارزين من معالم البحث الأصولي عند السيد الخوئي ، إنتظما في مطلبين هما : 


 


   المطلب الأول : نظرية التعهّد في وضع الألفاظ


ويتضمّن أربعة أمور :


الأمر الأول : الوضع لغةً واصطلاحاً


الأمر الثاني : بيان الآراء في حقيقة الوضع ، منها : نظرية التعهّد 


الأمر الثالث : منشأ نظرية التعهّد


الأمر الرابع : مناقشة نظرية التعهّد 


أما الأمر الأول : الوضع لغةً واصطلاحاً


فالوضع لغةً : مصدر قولك : وضع يضع ، ووضع الشيء في المكان : أثبته فيه ، وقولك : وضعتها أنا ، أي : ألزمتها  فهي موضوعة ، والوضع أيضاً : الموضوع ، سمي بالمصدر، والجمع : أوضاع (). 


ولهذا أشار السيد الخوئي الى أنّ الوضع في اللغة بمعنى : الجعل والاقرار والإثبات ().


أما الوضع اصطلاحاً : فقد اختلفت كلمات الأصوليين في تعريف الوضع ، إذ ذكر السبكي ( ت : 756هـ ) أنّ الوضع : ( عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء إذا اُطلق الأول فُهم منه الثاني ) () ، وعرّفه الجرجاني (ت :816هـ ) بأنّه : جعل اللفظ بأزاء المعنى () ، أما المحقق الخراساني ( ت : 1329هـ) فقد عرّفه   بأنّه : ( نحو إختصاص للفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ، ناشيء من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة إستعماله فيه أخرى ) () ، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيّني ، كما عرّفه المحقق العراقي ( ت : 1361هـ) بأنه : ( نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولاً عنه وبإلقائه كأنّ المعنى هوالمُلقى بلا توسيط أمر في البين )().


 


أما الوضع عند السيد الخوئي (قده) فهو : ( عبارة عن التعهّد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص )().


 


الأمر الثاني : بيان الآراء في حقيقة الوضع


 تمهيد : الدلالة الذاتية 


إنّ دلالة اللفظ على المعنى إما أنْ تكون بالطبع ـ أي بالدلالة الذاتية ـ أو بالوضع أو بهما معاً .


أما كونها بالطبع : فقد ذهب عباد بن سليمان الصيمري **وغيره *** الى أنّ دلالة 


الألفاظ على معانيها دلالة ذاتية ، ونقل هذا الرأي عنه الرازي (ت : 606هـ)() ، والمحقق أبو القاسم القمي( ت : 1231هـ) ، إذ قال ما نصّه : (إنّ دلالة اللفظ على المعنى إنما نشأت من مناسبة ذاتية وإلا لتساوت المعاني بالنسبة إلى اللفظ فإما أنْ يكون هناك تخصيص وترجيح في الدلالة على المعنى أو لا ، فعلى الثاني يلزم التخصّص من غير مخصِّص وعلى الأول التخصيص** بلا مخصِّص وهما محالان )().


وردّ المحقق القمي هذا القول : بأنّ المرجّح هو الإرادة ، وهي إما أن تكون من الله تعالى لو كان هو الواضع كخلق الحوادث في أوقاتها ، أو من الخلق لو كان هو الواضع كتخصيص الأعلام بالأشخاص أو بمنع انحصار المرجح فيما ذكروه ـ أي الصيمري وبعض المعتزلة ـإذ قد يكون المرجّح شيئا آخر مثل سبق المعنى إلى الذهن من بين المعاني في غيره تعالى، ومصلحة أخرى فيه تعالى مع أنّه يدفعه الوضع للنقيضين والضدين وإقتضاء اللفظ بالذات لذلك في وقتٍ دون وقت أو شخص من دون شخص مما لا معنى له لأنّ الذاتي لايتخلّف ().


وردّ الشيخ النائيني الدلالة الذاتية المزعومة : ( بشهادة الوجدان على عدم إنسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع )().


 


مناقشة الخوئي للدلالة الذاتية


جاءت مناقشة السيد الخوئي في محورين :


المحور الأول : بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى .


المحور الثاني : بطلان ما اعتمد عليه في ثبوت الدلالة الذاتية .


 


أما المحور الأول : فقد بيّن السيد الخوئي بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى  وذلك ؛ لأنّ ثبوت المناسبة الذاتية بين الألفاظ ومعانيها وإنْ كان ممكناً في الجملة الا أنّه لا دليل عليه ؛ لأنّ هذه المناسبة بين اللفظ والمعنى إما أنْ تكون على نحو العلّة التامة أوالإقتضاء :


فإذا كانت على نحو العلّة التامة ـ والذي بموجبه يكون سماع اللفظ علّة تامة لإنتقال الذهن إلى معناه ـ فإنّ بطلانه من الوضوح بمكان لا يقبل النزاع ؛ لأنّ لازم ذلك تمكّن كل شخص من الإحاطة بتمام اللغات ، فضلاً عن لغةٍ واحدة . 


وإذا كانت على نحو الاقتضاء ـ بمعنى أنْ الارتباط والمناسبة المذكورين بينهما يوجب أنْ يكون سماع اللفظ مقتضيا لانتقال الذهن إلى معناه ـ فإنّ ذلك وإنْ كان بمكان من الإمكان ثبوتاً وقابلاً للنزاع ؛ إذ لا مانع عقلا من ثبوت هذا النحو من المناسبة بين الألفاظ ومعانيها ، نظير الملازمة الثابتة بين أمرين ، فإنّها ثابتة في الواقع والأزل ، بلا توقف على اعتبار أيّ معتبرٍ أو فرض أيّ فارضٍ ، وبلا فرق بين أنْ يكون طرفاها ممكنين ، أو مستحيلين ، أو مختلفين ؛ إذ صدقها لا يتوقف على صدق طرفيها فهي صادقة مع استحالتهما كما في قوله تعالى :( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...) ().


إذن صريح كلام السيد الخوئي هو إمكانية الدلالة الذاتية في مقام الثبوت والإمكان ولكن لا دليل عليها في مقام الإثبات والإستدلال .


 


أما المحور الثاني : وهي  مناقشة ما استند عليه عبّاد بن سليمان الصيمري وغيره ـ من أنّه لولا المناسبة الذاتية  لكان تخصيص لفظٍ خاص بمعنى مخصوص بلا مرجّحٍ وهو محال ـ فقد أشكل السيد الخوئي عليه بأمرين :


 الأول : إنّه لا يلزم أنْ يكون المرجِّح هي المناسبة الذاتية بل يجوز أنْ يكون المرجّح أمرا خارجيا كما هو الواقع كثيرا في الأعلام الشخصية .


 الثاني : إنّ المستحيل إنّما هو الترجّح من دون ترجيح وأما الترجيح بلا مرجّح فلا استحالة فيه بل ولا قبح فيه أيضاً إذا كان هناك مرجّح لاختيار طبيعي الفعل مع عدم وجود المرجّح في شئ من أفراده ، وحينئذ فالمصلحة الموجودة في طبيعي الوضع كافية في اختيار لفظ خاص وتخصيصه لمعنى مخصوص ولو من دون ربطٍ ومناسبةٍ بينهما أصلاً () .


ومما تقدم يتبين : بطلان دلالة الالفاظ على معانيها بالطبع ( الدلالة الذاتية )على نحو الاستقلال عند مشهور الأصوليين ، وقد وافقهم السيد الخوئي في ذلك .


 وعليه فتنحصر دلالة الألفاظ على معانيها إما بالوضع ، أو بالطبع والوضع معاً ، والآراء في تفسيرها من أعلام الأصوليين هي أربعة :


الرأي الأول : مسلك التخصيص والجعل الإلهي 


هذا الرأي يقول : إنّ الواضع هو الله سبحانه وتعالى ، واُستدل له بقوله تعالى :     ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ ...) () ، إمّا بوساطة الوحي أو بأنْ يخلق الأصوات والحروف ويُسمعها لواحد أو جماعة ويخلق له أو لهم العلم الضروري بأنّها قُصدت للدلالة على المعاني () ، وقد يكون  وضعه تعالى للّغة بإلهامٍ منه إلى البشر أو بإيداع ذلك في طباعهم وفطرتهم وهذا ما ذهب إليه المحقق النائيني ( ت :1355هـ) ، فقد صرّح بأنّ حقيقة الوضع هي التخصيص والجعل الإلهي ـ أي بالطبع والوضع معاً ـ ؛ بعد أنْ ذكر أنّ الواضع هو الله سبحانه وتعالى ، وذلك بقوله :( فإنا نقطع ـ بحسب التواريخ التي بأيدينا ـ انه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثرة في لغة واحدة لمعانيها التي تدل عليها فضلا عن سائر اللغات ، كما أنّ الوجدان يدل على عدم الدلالة الذاتية بحيث يفهم كل شخص من كل لفظ معناه المختص به بل الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظا مخصوصا باعتبار مناسبة بينهما ، وجعله تبارك وتعالى هذا واسطة بين جعل الأحكام الشرعية المحتاج إيصالها إلى إرسال رسل وإنزال كتب ، وجعل الأمور التكوينية التي جُبل الإنسان على إدراكها : كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء ونحو ذلك ، فالوضع جعل متوسط بينهما ، لا تكويني محض حتى لا يحتاج إلى أمر آخر، ولا تشريعي صرف حتى يحتاج إلى تبليغ نبي أو وصي ، بل يلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص )().


ثم عضّد الشيخ النائيني ما يؤكّد مطلبه بأنّه : لو فرضنا جماعة أرادوا إحداث ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أيّ لغة لما قدروا عليه ، فما ظنّك بشخص واحد فضلاً عن كثرة المعاني التي يتعذر تصورها من شخص أو أشخاص متعددة ؟ فحقيقة الوضع هو التخصيص والجعل الإلهي ().


 


ويتبيّن مما تقدّم : إنّ دلالة اللفظ على المعنى عند الشيخ النائيني ليست من قبيل الدلالة الذاتية على نحو الإستقلال ، وليست هي من جهة الوضع على نحو الإستقلال أيضا ، بل هي وسط بين الأمور التكوينية الواقعية والأمور الجعلية ؛ ولذلك تبنّى القول بالتخصيص والجعل ـ أي بهما معا ـ في تفسير الوضع .


 


مناقشة الخوئي للنائيني


حلّل السيد الخوئي رأي المحقق النائيني في حقيقة الوضع ورتّبه في أمور ثم أخذ بمناقشتها ، والأمور هي :


 الأول : إنّ الواضع هو الله تبارك وتعالى ، ولكن لا بطريق إرسال الرسل وإنزال الكتب كما هو الحال في إيصال الأحكام الشرعية إلى العباد ، ولا بطريق جعل الأمور التكوينية التي جُبل الإنسان على إدراكها ، بل بطريق الإلهام إلى كل عنصر من عناصر البشر على حسب إستعداده . 


الثاني : إلتزامه بوجود مناسبة مجهولة بين الألفاظ والمعاني .  


 الثالث : إنّ وضعه تبارك وتعالى إنّما كان على طبق هذه المناسبة .


الرابع : إنّ الوضع جعل متوسط بين الجعل التكويني والجعل التشريعي . 


الخامس : إنّه بعد نفي الدلالة الذاتية استند في دعوى : أنّ الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم من دون غيره إلى أمرين :


 1ـ إنّه لا يمكن أنْ يكون الواضع هو البشر ، لعدم إمكان إحاطته بتمام ألفاظ لغة واحدة فضلا عن جميع اللغات ، فإذا امتنع أنْ يكون البشر واضعا تعين أنّ الله تعالى هو الواضع الحكيم .


 2ـ على فرض أنّ البشر قادر على وضع الألفاظ لمعانيها ـ  بمعنى أنّ شخصاً أو جماعة معينين من أهل كل لغةٍ يتمكن من وضع ألفاظها لمعانيها - إلا أنّه لم يحدثنا التاريخ عمّن تصدى لهذا الوضع في أي عصر أو زمان ؛ لأنّه لو تحقق لنقل لنا ذلك ؛ لكونه من أهم الحوادث التي تنقل بالتواتر ويتفق على تدوينها لخطورتها من جهة ولضرورتها من جهةٍ أخرى لاسيّما أنّه نُقل ما هو أدنى منها فكيف بهذا الأمر ؟ () .


ويبدو للباحث : أنّ الأمر الخامس هو تفصيل للأمر الأول ؛ فينبغي جعلها أربعة أمور وليست خمسة .


 


أما مناقشة الخوئي للأمر الأول : فقد بيّن أنّه يظهر ضعفه مما اُعتمد عليه من الوجهين :


 الوجه الاول : وهو أنّ الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم : فقد ناقشه في محورين :


 المحور الأول : لو صحّ أنّ الله تبارك وتعالى هو الواضع الحكيم ،  فإنّما يتم لو كان وضع الألفاظ لمعانيها دفعياً وفي زمان واحد ، إلا أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ سعة دائرة الوضع وضيقها تتبع سعة دائرة الغرض وضيقها . ومن الواضح أنّ الغرض منه ليس إلا أنْ يتفاهم بها وقت الحاجة ، وتُبرَز بها المعاني التي تختلج في النفوس لئلا يختل نظام حياتنا المادية والمعنوية . وهذا الغرض الداعي إليه تختلف سعةً وضيقاً بمرور الأيام والعصور ، ففي العصر الأول - وهو عصر آدم  - كانت الحاجةُ إلى وضع ألفاظٍ قليلةً بإزاء معانٍ كذلك ، لقلة الحاجة في ذلك العصر وعدم اقتضائها أزيد من ذلك ، ثم ازدادت الحاجة مرةً بعد أخرى وقرناً بعد آخر ، بل وقتاً بعد وقت ، فزيد في الوضع كذلك . وعليه يتمكن جماعة بل واحد من أهل كل لغةٍ على وضع ألفاظها بإزاء معانيها في أي عصرٍ وزمن ، فإنّ سعة الوضع وضيقه تابعان لمقدار حاجة الناس إلى التعبير عن مقاصدهم سعة وضيقا . ولمّا كان مرور الزمن موجباً لإتساع حاجاتهم وإزديادها كان من الطبيعي أنْ يزداد الوضع ويتسع . أما الذين يقومون بعملية الوضع فهم أهل تلك اللغة في كل عصر ، من دون فرقٍ بين أنْ يكون الواضع واحدا منهم أو جماعة ، وذلك أمر ممكن لهم ، فإنّ المعاني الحادثة التي يبتلى بها في ذلك العصر إلى التعبير عنها ليست بالمقدار الذي يعجز عنه جماعة من أهل ذلك العصر أو يعجز عنه واحد منهم ، فإنّها محدودة بحدٍ خاص.


 وقد تلخّص ممّا تقدّم أمران :


 1ـ إنّ أهل اللغة ليسوا بحاجة إلى وضع ألفاظٍ للمعاني التي تدور عليها الإفادة والإستفادة في جميع العصور ليُقال : إنّ البشر لا يقدر على ذلك ، بل يمكن الوضع بشكل تدريجي في كل عصرٍ بحسب تدريجية الحاجة إلى التعبير عنها .


2ـ إنّنا لسنا بحاجة إلى وضع جميع الألفاظ لجميع المعاني ، فإنّ الوضع إذا زاد عن مقدار الحاجة فهو لغو محض . 


المحور الثاني : وهو أنّ الواضع لو كان بشراً لنقل ذلك في التاريخ ؛ لأنّ مثل هذا العمل يُعدّ من أعظم الخدمات للبشر، ولذلك تتوافر الدواعي على نقله ،   فيرد عليه : إنّ ذلك إنّما يتم لو كان الواضع شخصا واحدا أو جماعة معينة . 


وأما إذا قلنا : إنّ الواضع لا ينحصر بشخصٍ واحدٍ أو جماعة معينين ، بل كل مستعمل من أهل تلك اللغة واضع بشكل تدريجي فلا يبقى مجال للنقل في التواريخ . نعم ، لو كان الواضع شخصاً واحداً أو جماعة معينين لنقله أصحاب التاريخ لا محالة () .


 وما ذُكر من تفسيرٍ للعلاقة الوضعية لا يفرّق فيه بين مسلك السيد الخوئي وغيره ؛ فإنّ تدريجية الوضع وعدم اختصاصه بشخصٍ خاص لا تدع مجالا لما ذكره المحقق النائيني من أنّ الواضع لو كان بشراً لنقل ذلك في التواريخ ، غاية الأمر : أنّه بناء على مسلك السيد الخوئي يكون كل مستعمل واضعا وإنْ كانت كلمة الواضع عند إطلاقها تنصرف إلى الواضع الأول إلا أنّه من جهة الأسبقية ، وهذا بخلاف غيره من المسالك ().


الوجه الثاني : وهو أنّ الوضع وسط بين الأمور التكوينية والجعلية : فهو ممّا لا يرجع إلى معنى محصّل ؛ وذلك لعدم وجود واسطة بينهما ، ضرورة أنّ الشيء إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على إعتبار أيّ معتبرٍ فهو من الموجودات التكوينية ، وإلا فمن الأمور الإعتبارية الجعلية ، ولا يُعقل ما يكون وسطاً بين الأمرين . 


وأما مسألة الإلهام ـ وهو أنْ يُلهم الله تبارك وتعالى عباده على إختلافهم كل طائفة بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص ـ  فهو كلام صحيح ، ولا إختصاص له بالوضع () .


وقد ذكر السيد الخوئي في تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (): إنّ الله تبارك وتعالى كما منَّ على عباده بهدايتهم تشريعاً ، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بإرسال الرسل وإنزال الكتب كذلك منَّ عليهم بهدايتهم تكويناً بإلهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم ، بل إنّ هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالها  بطبعها أو باختيارها ، والله هو الذي أودع فيها قوة الإستكمال ، فترى الفأرة تفر من الهرّة ولا تفر من الشاة () .


وعلى الجملة : فإنّ مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلية ، فإنّ الإلهام من الأمور التكوينية الواقعية ، ولا إختصاص له بباب الوضع ، والمبحوث عنه هو معنى الوضع ، سواء أكان الوضع بإلهام إلهي أم لم يكن .


 


وأما الأمر الثاني ـ وهي الإلتزام بوجود مناسبةٍ مجهولةٍ بين الألفاظ والمعاني ـ فيردّه : إنّه رجمٌ  بالغيب ؛ لأنّه لا دليل على وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع .


 وأما الأمر الثالث ـ وهي أنّ وضعه تعالى على طبق هذه المناسبة ـ  فيرد عليه :  إنّه لو سلّمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلّم أنّ الواضع جعل لكل معنىً لفظاً مخصوصاً على طبق تلك المناسبة ؛ وذلك لأنّ الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك ، ومعه فأيّ شيء يستدعي رعاية تلك المناسبة في الوضع ؟ اللهم إلا أنْ يتمسك بقاعدة استحالة الترجيح من دون مرجّح ، والثابت بطلانها .


 وأما الأمران الرابع والخامس فقد تقدّم مناقشتهما في الأمر الأول آنفاً  .


والنتيجة النهائية التي يراها السيد الخوئي بعد عرضه وإستدلالاته ومناقشاته : إنّ المسألة تنتهي الى أمرين : 


 الأول : إنّ الله تبارك وتعالى ليس هو الواضع .


 الثاني : إنّ الواضع لا ينحصر بشخصٍ واحدٍ أو جماعةٍ معينةٍ على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع () .


 


الرأي الثاني : مسلك الاعتبار


ذكر السيد الخوئي (قده) ثلاثة أنحاء للإعتبار، وهي :


1ـ النحو الأول للإعتبار


وهو رأي المحقق نصير الدين الطوسي( ت : 672هـ) ، جاء فيه : إنّ حقيقة الوضع عبارة عن إعتبار وجود اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى ، فهو هو  في عالم الإعتبار وإنْ لم يكن كذلك حقيقة () . ويعبّر عن بـ ( مسلك الهوهوية ) .


وقد تبنّى هذا الرأي السيد حسن البجنوردي ( ت : 1379هـ ) () .


 


مناقشة الخوئي للمحققق الطوسي


شرع السيد الخوئي في مناقشته للمحقق نصير الدين الطوسي بتقديم بيانٍ للتفريق بين الأمور الحقيقية والإعتبارية ، بأنّ الموجود على قسمين :


 أحدهما : ما له وجود تكويني خارجي : كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض . 


والثاني : ما له وجود إعتباري فهو موجود في عالم الإعتبار وإنْ لم يكن موجوداً في الخارج ، وذلك كالأمور الإعتبارية الشرعية أو العرفية من الأحكام التكليفية والوضعية . 


والمحقق الطوسي يرى : أنّ حقيقة العلقة الوضعية من قبيل القسم الثاني ، بمعنى : إنّ الواضع جعل وجود اللفظ وجودا للمعنى في عالم الاعتبار ، وعدّه وجوداً تنزيلياً له في ذلك العالم من دون عالم الخارج : كالتنزيلات الشرعية أو العرفية ، مثل قوله  : ( الطواف بالبيت صلاة )() وقول الإمام الرضا  :            الفقّاع * خمرٌ استصغره الناس () ونحوهما . ومن ثمّ يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آلياً في مرحلة الإستعمال ، وإلى المعنى إستقلالياً ، بحيث لا يُرى في تلك المرحلة إلا المعنى ولا يُنظر إلا إليه () . 


وبعد بيان هذه المقدمة أخذ السيد الخوئي بمناقشته ضمن نقطتين :


الأولى : إنّ تفسيرها بهذا المعنى تفسيرٌ بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامة الواضعين غاية البعد ، ولا سيّما القاصرين منهم : كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة ، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضا . وكيف كان ، فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهلة التناول والمأخذ ، فلا تكون بهذه الدقة التي تغفل عنها أذهان الخاصة ، فضلاً عن العامة .


 والثانية : إنّ الغرض الداعي إلى الوضع : هو إستعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، لكي يدل عليه ويفهم منه معناه . فالوضع مقدمة للإستعمال والدلالة . ومن الواضح أنّ الدلالة اللفظية إنّما تكون بين شيئين : أحدهما دال ، والآخر مدلول ، فإعتبار الوحدة بينهما بأنْ يكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى أيضاً لغو وعبث .


 وأما ما ذُكر في كلام المحقق الطوسي من لحاظ اللفظ آلةً في مقام       الإستعمال () ، فإنّه يرد عليه : 


إنّ لحاظ اللفظ آلة في مقام الإستعمال ، لا يستلزم أنْ يكون ملحوظا كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين . 


وبكلمة واضحة : إنّ حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ، ومستعمله كمستعملها ، فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها إستقلالاً من حيث الكم والكيف والوضع ، وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آلياً فكذلك وضع الألفاظ وإستعمالاتها من هذه الناحية .


 وعلى الجملة : إنّ لحاظ اللفظ آلياً في مرحلة الإستعمال لا يلازم إعتبار وجوده وجوداً للمعنى حال الوضع بوجه (). 


2ـ النحو الثاني للإعتبار : وهو رأي المحقق العراقي ( ت : 1361هـ)،جاء فيه : 


إنّ حقيقة الوضع عبارة عن إعتبار ملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع  له ، وحقيقة هذه الملازمة متقومة بإعتبار من بيده الإعتبار وهو الواضع  كسائر الأمور الإعتبارية من الشرعية أو العرفية . وإنّ الموجب لهذا الإعتبار والداعي إليه إنّما هو قصد التفهيم في مقام الحاجة ؛ لعدم إمكانه بدونه () .


 


مناقشة الخوئي للعراقي


بيّن السيد الخوئي أنّ الملازمة المدّعاة بين اللفظ والمعنى تأتي ضمن احتمالين على سبيل مانعة الخلو :    


الأول : إما أنْ يكون إعتبار هذه الملازمة في الواقع الخارجي : فلا تفيد بوجه ما لم تكن الملازمة بينهما في الذهن ؛ ضرورة أنّه من دون الذهن لا يحصل الإنتقال إلى المعنى من تصور اللفظ وسماعه . وعلى تقدير وجودها وثبوتها في الذهن فالملازمة الخارجية غير محتاجٍ إليها ؛ فإنّ الغرض - وهو الإنتقال الى المعنى - يحصل بتحقّق هذه الملازمة الذهنية ، سواء أكانت هناك ملازمة خارجية أم لم تكن ، فلا حاجة إلى إعتبار المعنى موجوداً في الخارج عند وجود اللفظ فيه ، بل هو من اللغو الظاهر .


 


الثاني : أو أنْ يكون إعتبار هذه الملازمة في الذهن : وهذا الإفتراض لا يخلو من أمرين :


1ـ  إما أنْ يكون إعتبار الواضع للملازمة بين اللفظ والمعنى مطلقا حتى للجاهل بالوضع : وهذا لا يمكن المصير إليه ؛ لإنّه لغو محض لا يصدر من الواضع الحكيم ؛ لأنّه لا أثر له بالقياس إلى الجاهل به . ولا معنى لأنْ يعتبر الإنتقال إلى المعنى من سماع اللفظ له ، فإنّه إنْ علم بالوضع فالإنتقال من اللفظ إلى معناه ضروري له ، وغير قابلٍ للجعل والإعتبار ، وإنْ لم يعلم فالإعتبار يصبح لغواً .


2ـ أو أنّ إعتبار الواضع للملازمة بين اللفظ والمعنى يختص بالعالم بالوضع :  وهذا لا يمكن المصير إليه أيضاً ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ؛ فإنّه لو كان عالماً بالوضع كان إعتبار الملازمة في حقه من قبيل : إثبات ما هو ثابت بالوجدان بالإعتبار وبالتعبّد .


 وعليه : فالملازمة الذهنية أمر تكويني غير قابلةٍ للجعل والإعتبار ، وليست من معنى الوضع في شيء ، بل هي مترتبة عليه () .


 


3ـ النحو الثالث للإعتبار : وهو رأي المحقق محمد حسين الاصفهاني               ( ت : 1361هـ) ، جاء فيه : 


إنّ إعتبار كلّ معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب ؛ وذلك لأنّ تخصيص الواضع ليس إلا إعتباره الإرتباط والإختصاص بين لفظٍ خاصٍ ومعنى خاص ، ولا شبهة في إتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه ، بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية سائر الدوال : كالعَلم المنصوب على رأس الفرسخ * فإنّه أيضا ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي، وفي اللفظ إعتباري ، بمعنى أنّ كون العلم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي ليس بإعتبار معتبر، بخلاف اللفظ ، فكأنّه وضع على المعنى ليكون علامةً عليه ، فشأن الواضع إعتبار وضع لفظٍ خاصٍ على معنى خاص () . 


 


مناقشة الخوئي للأصفهاني


لخّص السيد الخوئي ما أفاده أستاذه المحقق الاصفهاني في أمور ثم أخذ بمناقشتها       تباعا ، أما الأمور التي أفادها فهي :


 الأمر الأول : إنّ حقيقة الوضع ليست أمراً تسبيبياً ، بل هو أمر مباشري قائم بالمعتبر بالمباشرة . 


الأمر الثاني : إنّ الإرتباط والإختصاص ليسا من حقيقة الوضع في شيء ، بل هما من لوازمها . 


الأمر الثالث : إنّ سنخ الوضع في سائر الدوال حقيقي خارجي ، وفي وضع الألفاظ جعلي واعتباري () .


 


 ثم أخذ السيد الخوئي بمناقشة الأمور المذكورة :


أما الأمر الأول والثاني : فقد وصفهما أنّهما في غاية الصحة والمتانة على جميع المسالك في تفسير حقيقة الوضع .


 وأما الأمر الثالث : وهو : إنّ سنخ الوضع في سائر الدوال حقيقي خارجي ، وفي وضع الألفاظ جعلي واعتباري ، فقد أورد عليه :


 1ـ إنّ تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحته في نفسه ، تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامة الواضعين ، ولا سيما القاصرين منهم : كالأطفال والمجانين ، مع إنّا نرى صدور الوضع منهم كثيرا ، والحال أنّهم لا يدركون هذا المعنى الدقيق ، وأنّه من قبيل : وضع العلم على رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي ، وفي المقام إعتباري . ومن الواضح أنّه لا يكاد يمكن أنْ يكون الوضع أمراً يغفل عنه الخواص فضلاً عن العوام .


 2ـ  إنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي : كوضع العلم على رأس الفرسخ ؛ والوجه في ذلك : هو أنّ وضع العَلم يتقوم بثلاثة أركان :


 الركن الأول : الموضوع ، وهو العَلم . 


الركن الثاني : الموضوع عليه ، وهو ذات المكان . 


الركن الثالث : الموضوع له ، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ . 


وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ فإنّه يتقوم بركنين : 


الأول : الموضوع ، وهو اللفظ .


 الثاني : الموضوع له ، وهو دلالته على معناه ، ولا يحتاج إلى شيءٍ ثالثٍ ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة فلا أقل من أّنّه لم يُعهد في الإطلاقات المتعارفة والإستعمالات الشائعة ، مع أنّ لازم ما أفاده  : هو أنْ يكون المعنى هو الموضوع عليه () ، أي أنّه يلزم من ذلك أنْ يكون ذات المعنى موضوعاً له وموضوعاً عليه .


 


الرأي الثالث : نظرية القرن الأكيد للسيد محمد باقر الصدر( ت :1400هـ) : وبيانه : 


إنّ هناك سببيّة تكوينيّة ، وقانوناً تكوينيّاً جعله خالق الكون الذي أوجد الطبيعة وأخضعها للقوانين المسيطرة عليها ، وهو : إنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته التي فطره الله عليها متى ما أحسّ بشيء كان إحساسه بذلك الشيء سبباً لانتقال ذهنه إلى الصورة الذهنيّة لذلك الشيء ، فالإحساس بالأسد يوجب انتقال الذهن إلى معنى الأسد مثلاً. 


وهناك سببيّتان اُخريان ، وقانونان ثانويّان تكوينيّان يحكمان على القانون الأوّل حكومة تكوينيّة ، وكأنّهما توسيعان لذلك القانون :


الأوّل : إنّ الإحساس بما يشبه شيئاً سبب أيضاً لتصوّر معنى ذلك الشيء ، فمَنْ رأى صورة الأسد مرسومةً على الورق ينتقل ذهنه إلى معنى الأسد ، وكأنّ الإحساس بصورة الأسد إحساس بنفس الأسد. 


الثاني : إنّ الإحساس بشيءٍ اقترن في الذهن بشيءٍ آخر اقتراناً مخصوصاً يكون أيضاً سبباً لتصوّر ذلك الشيء الآخر، فترى أنّ مَنْ أحسّ بزئير الأسد مثلاً انتقل ذهنه إلى معنى الأسد ، وكأنّ الإحساس بزئير الأسد إحساس بنفس الأسد. وأقصد بالإحساس بصورة الأسد أو زئيره مثلاً ما يشمل انتقال الذهن إلى صورة الأسد أو زئيره ولو من دون إحساس خارجيّ ، وأقصد بالإقتران المخصوص أنْ تكون للإقتران خصوصيّة كمّيّة من قبيل كثرة إقتران زئير الأسد بالأسد ، أو خصوصيّة كيفيّة بأنْ يكون الإقتران في ظرف مؤثّر وملفت للنظر كما لو إقترن سفر شخص إلى الحلّة مثلاً بمرضٍ شديد ، فمتى ما تذكّر السفر إلى الحلّة تذكّر المرض () .


وعلى نظرية القرن الأكيد فإنّ الوضع يوجب الدلالة التصورية * ولو سُمع من جدار ، ولا يوجب الدلالة التصديقة ** ، وإنّما الدلالة التصديقية تكون وليدة أمور أخرى من ظاهر حال أو قرائن أحوال ؛ لأنّ الوضع عبارة عن الإقتران في الذهن بين اللفظ والمعنى ، وإيجاد الصغرى للقانونين التكوينيين      الثانويين () .


 


 ويمكن للباحث إفادة ردّه من مبنى السيد الخوئي القائل : إنّ الإرتباط بين اللفظ والمعنى هو ليس من الأمورالحقيقية الخارجية بل من الأمور الحقيقية النفسانية وأنّه من شؤون الوضع وتوابعه ومن الأمور المنتزعة منه () ، والإرتباط بين اللفظ والمعنى بحسب نظرية القرن الأكيد هو من الأمور الحقيقية الخارجية .


 


 الرأي الرابع : نظرية التعهّد


وهو مختار السيد الخوئي (قده) في حقيقة الوضع : فبعد أنْ أثبت السيد الخوئي بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى ، وبطلان كونها بالجعل والتخصيص الإلهي أو بالإعتبار ، أكّد على أنّها وضعية محضة ، وأنّها من باب التعهّد والإلتزام النفساني .


ويمكن للباحث أنْ يجعل نظرية التعهّد ـ بعد بيان تمهيدٍ لها ـ كالآتي :


التمهيد : بطلان الآراء الأخرى في تفسير العلاقة بين اللفظ والمعنى 


فقد ذكر السيد الخوئي : ( إنّ ارتباط اللفظ بالمعنى ليس من الأمور الواقعية ولا من الأمور الاعتبارية وليس هو من حقيقة الوضع في شئ بل هو من شؤون الوضع وتوابعه ومن الأمور المنتزعة منه )().


 


بيان النظرية : وتتجلّى ضمن ثلاثة أمور، هي :


الأمر الأول : بيان الدليل الوجداني* للغرض الباعث على الوضع


فقد وضّح السيد الخوئي الغرض الباعث على الوضع بدليل وجداني وذلك بقوله : 


( إن الإنسان مدنيٌ بالطبع يحتاج في تنظيم حياته - المادية والمعنوية - إلى آلاتٍ يُبرز بها مقاصده وأغراضه ، ويتفاهم بها وقت الحاجة ، ولمّا لم يمكن أنْ تكون تلك الآلة الإشارة أو نحوها لعدم وفائها بالمحسوسات فضلاً عن المعقولات فلا محالة تكون هي الألفاظ التي يستعملها في إبراز مراداته من المحسوسات والمعقولات ، وهي وافية بهما ، ومن هنا خصّ تبارك وتعالى الإنسان بنعمة البيان بقوله تعالى : خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ** ) () .


 


الأمر الثاني : بيان حقيقة الوضع وأنّها التعهّد 


وتضمّن ركنين ، هما :


الركن الأول : إنّ قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهّد ، وعليه فالدلالة الوضعية  تختص بالدلالة التصديقية ، وهذا الركن هو الركن الأساس في نظرية التعهّد .


فقد فرّع السيد الخوئي على ما تقدّم من بيان الغرض الباعث على الوضع بقوله :   ( إنّ حقيقة الوضع هي التعهّد والتباني النفساني ، فإنّ قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهّد . وإنْ شئت قلت : إنّ العلقة الوضعية - حينئذ - تختص بصورة إرادة تفهيم المعنى لا مطلقاً ، وعليه يترتب إختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ) ().


 


والركن الثاني : إنّ كلَّ متعهّد واضعٌ حقيقةً


وقد أثبت ذلك من خلال نقطتين :


الأولى : إنّ متعلّق هذا التعهّد أمر اختياري : وهو التكلّم بلفظٍ مخصوصٍ عند قصد تفهيم معنى خاص، وذلك بقوله : ( إن تعهّد كلّ شخصٍ فعل إختياري     له )().  


 والثانية : إنّ هذا التعهّد ثابت بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له بنحو القضية الحقيقية ، وقد أشار الى هذا الأمر بقوله :


( إنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز المعنى الذي تعلق قصد المتكلم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، فكل واحد من أهل أي لغةٍ متعهّد في نفسه متى ما أراد تفهيم معنى خاص أنْ يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً - مثلا - إلتزم كل واحدٍ من أفراد الأمة العربية بأنّه متى ما قصد تفهيم جسمٍ سيالٍ باردٍ بالطبع أنْ يجعل مُبرزه لفظ الماء ، ومتى قصد تفهيم معنى آخر أنْ يجعل مُبرزه لفظا آخر ،... فهذا التعهّد والتباني النفساني بإبراز معنى خاص بلفظٍ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيمه ثابت في أذهان أهل كل لغةٍ ، بالإضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوة . نعم ، في مرحلة الاستعمال يوجد المستعمل فرداً منه في استعمال ، وفرداً آخر منه في إستعمال آخر ) () .


ولذا يستنتج السيد الخوئي من البيان المتقدّم : إنّ كل مستعملٍ واضعٌ حقيقةً ؛ فإنّ تعهّد كل شخصٍ فعلٌ اختياري له ، فيستحيل أنْ يتعهّد شخصٌ آخر تعهّده في ذمّته ،لعدم كونه تحت اختياره وقدرته.


 نعم ، يمكن أنْ يكون شخص واحد وكيلاً من قبل طائفة في وضع لغاتهم ابتداءً لمعانيها ، فيضعها بإزائها - أي يجعلها مستعدة لإبرازها عند قصد تفهيمها - ويتعهّد بذلك ، ثم إنّهم تبعاً له يتعهّدون على طبق تعهّداته ، أو يضع لغاتهم بلا توكيل من قبلهم ، بل فضولياً ، ولكنهم بعد ذلك يتّبعونه في ذلك ويتبانون على وفق تبانيه وإلتزاماته ، ومع هذا فهم واضعون حقيقة . ومن هنا لا فرق بين الطبقات السابقة واللاحقة ، غاية الأمر : أنّ الطبقات اللاحقة تتّبعها في ذلك ، بمعنى : إنّهم يتعهّدون على وفق تعهّداتهم وتبانيهم ، وقد تتعهّد الطبقات اللاحقة تعهّدات أخرى ابتدائية بالنسبة إلى المعاني التي يحتاجون إلى تفهيمها في أعصارهم ، مع أنّ الوضع تدريجي الحصول ، فيزيد تبعاً لزيادة الحاجة في كل قرنٍ وزمن ؛ ومن ذلك تبيّن ملاك أنّ كل مستعملٍ واضعٌ حقيقة .


 وأما إطلاق الواضع على الجاعل الأول من دون غيره فلأسبقيته في الوضع ، لا لأجل أنّه واضع في الحقيقة من دون غيره () .


الأمر الثالث : مؤيّدات نظرية التعهّد  


ذكر السيد الخوئي مؤيدات عدة تدعم رأيه بالتعهّد ، وهي :


أولا : موافقة التعهّد للمعنى اللغوي للوضع : إذ قال :( وممّا يؤيّد أنّ الوضع بمعنى التعهّد : أنّه هو الموافق لمعنى الوضع لغةً  ، فإنّها بمعنى الجعل والإقرار ، ومنه وضع القانون بمعنى جعله وإقراره) () .


ثانيا : موافقة التعهّد لوضع الأعلام الشخصية : إذ قال : ( وضع الأعلام الشخصية ، فإنّ كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنّه إذا أراد أنْ يضع اسماً لولده  يتصور أولا ذات ولده ، وثانيا : لفظاً يناسبه ، ثم يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شئ آخر ما عدا ذلك )().


ثالثا : إستقرار السيرة العقلائية على التعهّد : إذ قال :( وعلى هذه الإلتزامات والتعهّدات قد إستقرت السيرة العقلائية في مقام الإحتجاج واللجاج ، فيحتج العقلاء بعضهم على بعض بمخالفته إلتزامه ويؤاخذونه عليها ، وكذلك الموالي والعبيد ، فلو أنّ أحداً يخالف إلتزامه ولم يعمل على طبق ظهور كلام مولاه يحتج المولى عليه بمخالفته إلتزامه ، ويعاقب عليها ، ولا عذر له في ذلك . ولو عمل على طبق ظهوره فله حُجّة يحتج بها على مولاه ، وهكذا ، وعلى الجملة : إنّ أنظمة الكون كلها من المادية والمعنوية تدور مدار الجري على وفق هذه الإلتزامات ، ولولاه لاختلت )() .


ثم إنّ التعهّد المذكور ربما يكون ابتدائيا فيكون الوضع تعيينيا وقد يكون ناشئاً من كثرة الإستعمال فيكون تعيّنياً وحقيقة الوضع في كلا القسمين على نحو      واحد ().


 


وممّا ينبغي أنْ يُشار إليه أنّ السيد محمد صادق الروحاني ( ت : 1414هـ) تبنّى  التعهّد في وضع الألفاظ ، إذ قال : (والتحقيق أنّ حقيقة الوضع ، ليست إلا ما اختاره جملة من أساطين المحققين ، منهم صاحب تشريح الأصول ** والأستاذ الأعظم * ، وهو التعهّد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم بتفهيم المعنى وإبزاره ، ويكون متعلق هذا الإلتزام النفساني أمراً اختيارياً ، وهو المتكلم بلفظٍ مخصوصٍ عند إرادة إبراز معنى خاص ، والإرتباط لا حقيقة له ، وإنما ينتزع من ذلك . وهذا المعنى ، مضافا إلى كونه موافقا لمعنى الوضع لغةً ، وهو الجعل والإقرار ، مما يساعده الوجدان والإرتكاز) ().


ومن الواضح أنّ العبارة صريحة بتبنّي السيد محمد صادق الروحاني لمسلك التعهّد وموافقته لما اختاره جملة من الأعلام ـ منهم استاذه السيد الخوئي ـ جاعلاً الوجدان والإرتكاز من أدلة القول بالتعهّد فضلاً عمّا ذكره السيد الخوئي من الأدلة . 


 


رد النقوض المفترضة


ثم أخذ السيد الخوئي بدفع الإشكالات الواردة والمحتملة التي قد ترد على القول بالتعهّد ، وهي :


 


النقض الأول : إشكال الدور ** 


 بتقريب : إنّ التعهّد بمعنى ذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى يتوقف على العلم بأنّه وضع  له . فلو فرض أنّ الوضع عبارة عن ذلك التعهّد لدار() ؛ لأنّ التعهّد يتوقف على العلم بالوضع وهو متوقف على التعهّد .


ومما ينبغي أنْ يُشار إليه أنّ هذا الإشكال ذكره بعض الأعلام دون أنْ يُنسب إلى    قائله () . 


جوابه : إنّ ما يتوقف على العلم بالوضع إنّما هو التعهّد الشخصي الفعلي الثابت في مرحلة الاستعمال ، من دون التعهّد الكلي النفساني المتعلق بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضية الحقيقية . هذا مع أنّ حقيقة الوضع : عبارة عن ذلك التعهّد ، ومن الظاهر أنّه لا يتوقف على شيء .


وعليه يظهر : إنّ منشأ التوهم هو خلط المتوهم بين التعهّد في مرحلة الاستعمال والتعهّد في مرحلة الوضع ، والذي يتوقف على الثاني هو الأول دونه .


 وبتعبير آخر : إنّ حال الألفاظ حال الإشارات الخارجية ، فكما قد يقصد بها إبراز المعنى الذي تعلق القصد بتفهيمه مثل : ما إذا قصد إخفاء أمر عن الحاضرين في المجلس ، أو قصد تصديق شخص ، أو غير ذلك فيجعل مُبرزه الإشارة باليد أو بالعين أو بالرأس فكذلك الألفاظ ، فإنّه يبرز بها أيضا المعاني التي يقصد تفهيمها، فلا فرق بينهما من هذه الناحية . نعم ، فرق بينهما من ناحية أخرى ، وهي : إنّ الإشارة على نسق واحد في جميع اللغات والألسنة من دون الألفاظ ().


 


النقض الثاني : إنّ التعهّد والإلتزام على ما أرتكز في الأذهان هو أمر متأخر عن الوضع ومعلول له ، فإنّ العلم بالوضع يوجب تعهّد العالم به بإبراز المعنى عند قصد تفهيمه بمُبرز مخصوص ، لا أنّه عينه . ومن هنا لا يصحّ إطلاق الواضع على غير الجاعل الأول ، فلو كان معنى الوضع ذلك التعهّد والإلتزام النفساني لصحّ إطلاقه على كل مستعمل من دون عناية ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ().


 


جوابه : لو أريد بتأخر التعهّد عن الوضع تعهّد المتصدي الأول للوضع فذاك غير صحيح ، وذلك لأنّ تعهّده غير مسبوق بشيء ما عدا تصور اللفظ والمعنى ، ومن الواضح أنّ ذلك التصور ليس هو الوضع ، بل هو من مقدماته ، ولذا لا بدّ منه في مقام الوضع بأي معنى من المعاني فُسّر . وعليه : فالمتصدي الأول له بعد تصور معنى خاص ولفظ مخصوص يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه أنْ يجعل مُبرزه ذلك اللفظ ، ثم يُبرز ذلك التعهّد بقوله : " وضعت " أو نحوه في الخارج . ومما يدلنا على ذلك بوضوح : وضع الأعلام الشخصية ، فإنّ كل شخص إذا راجع وجدانه ظهر له أنّه إذا أراد أنْ يضع اسماً لولده - مثلا - يتصور أولاً ذات ولده ، وثانيا : يتصور لفظا يناسبه ، ثم يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه يتكلم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شئ آخر ما عدا ذلك . وإنْ أريد به تعهّد غيره من المستعملين فالأمر وإنْ كان كذلك - يعني : إنّ تعهّدهم وإنْ كان مسبوقا بتعهّده - إلا أنّه لا يمنع عن كونهم واضعين حقيقة ، ضرورة أنّ تعهّد كل أحد لما كان فعلا اختياريا له يستحيل أنْ يصدر من غيره . غاية الأمر : أنّ التعهّد من الواضع الأول تعهّد ابتدائي غير مسبوق بشيءٍ ، ومن غيره ثانوي ، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأول () .


 


النقض الثالث : إنّ العلقة الوضعية لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الإطلاق فلا يتبادر شيء من المعاني منها فيما إذا صدرت عن شخص بلا قصد التفهيم ، أو عن شخصٍ بلا شعور واختيار ، فضلا عمّا إذا صدرت عن إصطكاك جسم بجسم آخر ، مع أنّه لا شبهة في تبادر المعنى منها وانتقال الذهن إليه في جميع هذه الصور () .


جوابه : أجاب السيد الخوئي على هذا الإشكال : بأنّ تبادر المعنى فيها وانسباقه إلى الذهن غير مستندٍ إلى العلقة الوضعية ، بل إنّما هو من جهة الأنس الحاصل بينهما بكثرة الإستعمال أو بغيرها ، وذلك لأنّ الوضع حيث كان فعلاً اختيارياً فصدوره من الواضع الحكيم في أمثال هذه الموارد التي لا يترتب على الوضع فيها أيّ أثرٍ وغرضٍ داع إليه يصبح لغواً وعبثاً () .


 


منشأ نظرية التعهّد 


هناك من الاصوليين مَنْ سبق السيد الخوئي (قده) الى القول بالتعهّد ، وقد إكتفى السيد الخوئي في بحثه الخارج بما لمّح به المحقق الأصفهاني وعبّر عنهم بأجلّة العصرعند نقله لقوله : ( لا حاجة إلى الإلتزام بأنّ حقيقة الوضع تعهّد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى كما عن بعض أجلّة العصر* ) () وهم :


 


 1ـ الشيخ علي بن فتح الله النهاوندي**( ت : 1322هـ): يُعد هو المؤسّس لهذا الرأي ؛ إذ بيّن أنّ حدّ الوضع حقيقة هو الإلتزام والتعهّد بقوله : ( لا ريب في كون الغرض من الوضع ليس إلا تسهيل تفهيم المعاني بالألفاظ وصيرورة اللفظ  منزلة نفس المعنى في كون إراءة نفس المعنى من حيث كون إسماعه وصدوره من اللافظ مفهما للمعنى على ذلك الغير ، وهذه الثمرة للوضع مشاهدة بالوجدان وهي معنى دلالة اللفظ بالوضع على المعنى المسمّاة بالدلالة اللفظية الوضعية وما ذكرناه من الواضحات وانّما هو توطئة لبيان حقيقة الوضع وهي ليست إلا تعهّد الواضع )() .


 وأضاف الشيخ النهاوندي : إنّ غير الواضع إذا عُلم منه ذلك التعهّد وعُلم منه بتلك الإرادة المستقرة المطلقة ينكشف لغير الواضع عند تلفظ الواضع بالوضع المخصوص أنّه أراد تفهيم معناه ؛ لأنّ التعهّد المذكور سبب لعدم انفكاك اللفظ عن إرادة تفهيم المعنى وهو عين الملازمة بين اللفظ والإرادة المذكورة ولا ريب في دلالة أحد المتلازمين على الآخر ثم حصول هذا العلم سبب لحصول غرض الواضع وهو تفهيم المعنى التصديقي () . 


وأكّد على عدم إمكان كون الوضع غير التعهّد المذكور ، لاسيّما بعد أنْ وضّح إنتزاع  تخصيص اللفظ بإرادة تفهيم المعنى بعد هذا التعهّد والإلتزام ، ويحدث للتعهّد المذكور عنوان ثانوي بواسطة سببيته لهذا التخصيص ؛ فيصح تعريف الوضع بأنّه تخصيص شيءٍ بشيءٍ آخر ، وأنّ تعريفه بأحد الامور من التقييد والتعيين والتنزيل لا ينافي كونه تعهّداً لكونه مسبّبَاً عن التعهّد ، وأنّ التعبير عن الوضع بلفظ وضعتُ تعبيرٌ عن مسببيّته وعنوانه الثانوي فإنّ الوضع والجعل بمعنى واحد ، ووضعتُ هذا اللفظ لهذا المعنى يعني صيّرته اسماً لهذا المعنى وعلامة له لإرادة تفهيمه () .


 


2ـ الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر اليزدي الحائري ( ت : 1355هـ)


فقد ذكر مسلك التعهّد في وضع الألفاظ بقوله : ( أنْ يلتزم الواضع أنّه متى أراد معنى وتعقله وأراد إفهام الغير تكلم بلفظ كذا ، فإذا إلتفت المخاطب لهذا الإلتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه ، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام ...وكيف كان الدال على التعهّد تارة يكون تصريح الواضع وأخرى كثرة الإستعمال ولا مشاحة في تسمية الأول وضعا تعيينا والثاني تعيّنا ) () .


وقال أيضاً : ( وما يتعقل في المقام بناء الواضع وإلتزامه بأنّه متى أراد المعنى الخاص وتعلّق غرضه بإفهام الغير ما في ضميره تكلّم باللفظ الكذائي فبعد هذا الإلتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادة المعنى المخصوص عند الملتفت بهذا البناء والإلتزام وكذا الحال لو صدر ذلك اللفظ من كل من يتبع الواضع فإنْ أراد القائل بكون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث أنّها مرادة هذا الذي ذكرنا فهو حقٌ بل لا يُتعقّل غيره ) ().


 


3ـ الشيخ محمد رضا بن محمد حسين الأصفهاني النجفي( ت : 1362هـ )


فبعد أنْ ذكرمجموعة من التعاريف للوضع على نحو الاختصاص ، أو التخصيص ، أو التعيين ، أو الإرتباط ، بيّن أنّ المهم معرفة ما يحصل به ذلك ، ويترتّب عليه المقصود من جعل الدلالة ، إذ قال :( ولا يمكن جميع ذلك إلا بالتعهّد أعني تعهّد المتكلم للمخاطب ، وإلتزامه له بأنّه لا ينطق بلفظ خاص إلا عند إرادته معنى خاصا ، أو أنّه إذا أراد إفهامه معنى معيناً لا يتكلم إلا بلفظ معين ، فمتى تعهّد له بذلك وأعلمه به حصلت الدلالة وحصل الإفهام ، ولا يكاد يحصل بغير ذلك . فلنا في المقام دعويان : حصول الوضع بالتعهّد المذكور، وعدم إمكان حصوله بغيره )()، فهو يؤكّد حصول الوضع بالتعهّد ولا يمكن أنْ يحصل بغيره ، وعليه يكون التعهّد عنده : تعهّد استعمال اللفظ في معنى ، ولا معنى للاستعمال إلا الكشف عن المراد () .


ويبدو ممّا تقدّم أنّ الشيخ النهاوندي ( ت : 1322هـ) هو أول من ذهب الى القول بمسلك التعهّد في وضع الألفاظ وتبنّاه من بعده الشيخ عبد الكريم   الحائري(  ت : 1355هـ) والشيخ محمد رضا الاصفهاني( ت : 1362هـ ) ووافقهم السيد الخوئي (قده) غاية الأمر أنّ السيد الخوئي استطاع أنْ يوضّح المسلك ببيان جديد هو أمتن وأوضح من بيان السابقين عليه ، إعتمد فيه ـ كما إعتمد مَنْ سبقه لاسيّما النهاوندي ـ على الوجدان ، مشيراً الى اختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ، وأنّ كل متعهّد هو واضع حقيقة ، وأنّ متعلق هذا التعهّد أمر اختياري ، مخالفا بذلك للمشهور عند الاصوليين في المقام ، مؤيداً مختاره  بكونه موافقا للمعنى اللغوي للوضع ، والإرتكاز العقلائي والفهم العرفي ، مدافعاً عنه بردّ الإشكالات المحتملة التي قد ترد عليه  ؛ ولذا نُسبت نظرية التعهد الى السيد الخوئي ؛ لأنّه استطاع أن يحوّل هذا الرأي الى نظرية ، وبذلك يكون قد أضاف الى البحث الأصولي إضافة معرفية ، فيكون مجدداً فيه . 


 


رابعا : مناقشة مسلك التعهّد


وردت مناقشات عدّة على مسلك التعهّد من أساتذة وتلامذة السيد الخوئي ، من أبرزها :


أولاً : مناقشة أساتذة السيد الخوئي


1ـ مناقشة المحقق النائيني ( ت : 1355هـ) 


إنّ دلالة الألفاظ وإنْ لم تكن بالطبع ، إلا أنّها لم تكن أيضا بالتعهّد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المتيقن أنّه لم يكن هناك تعهّد من شخصٍ لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها ؟ بل لو ادعى إستحالة ذلك لم تكن بالبعيد ؛ بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنّه لو سُلّم إمكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهّد وإيصاله إلى عامّة البشر دفعةً محال عادة .


 ودعوى : أنّ التبليغ والإيصال يكون تدريجاً ، مما لا ينفع ؛ لأنّ الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضرورياً للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيُسأل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهّد إليهم ، بل يُسأل عن الخلق الأول كيف كانوا يُبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنّه لم يكن بعدُ وضع وتعهّد من أحدٍ () .


ويظهر للباحث : أنّ هذه المناقشة تستند على مبنى النائيني في أنّ الواضع لا يُعقل أنْ يكون هو الإنسان بل هو الله سبحانه وتعالى ، وقد تمّت مناقشة هذا الأمر من السيد الخوئي واختار أنّ الواضع هو الإنسان بما أعطاه الله سبحانه من قدرة البيان () ، وعليه نستنتج أنّ هذه المناقشة غير تامة .


 


2ـ مناقشة المحقق العراقي (ت : 1361هـ)  


جاءت مناقشته ضمن محورين ، هما :


المحورالأول : إنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى على القول بالتعهّد هي من سنخ الإضافات الخارجية بين الأمرين الخارجيين مثل الفوقية والتحتية ونحوهما ممّا يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، والحال أنّها من سنخ الإعتباريات التي تحققها يكون بالجعل : كالملكية والزوجية () .


 


ويظهر للباحث : إنّ السيد الخوئي (قده) يرى أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى ليست من الأمور الواقعية أو الإعتبارية ، وليست هي من حقيقة الوضع في شيء وإنّما هي من شؤون الوضع () ؛ وعليه تكون هذه المناقشة في هذا المحور غير تامةٍ بحسب مبنى السيد الخوئي . 


 


المحور الثاني : إنّ إرجاع الوضع إلى تعهّد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيمٍ فإنّه بعد أنْ كان مرجع التعهّد المذكور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول : بأنّه يُسأل عنه بأنّ تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو من إحتمالين :


 1ـ إما أنْ تكون إرادة نفسية : وفيها احتمالان أيضاً :


       اـ  إما أنْ يكون الغرض من تلك الإرادة إيجاد العلقة والإرتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة : فهذا وإن كان له وجه الا أنّ هذا النحو من الإضافة والإرتباط لا يحتاج تحققها إلى كثير مؤنةٍ ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة . نعم على ذلك تكون الإرادات الإستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها ؛ لتحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهّد الكلي ، وهذا ينافي مسلك القائل : من كون الإرادات الإستعمالية المتحققة فيما بعد من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها .


      ب ـ وإما أنْ لا يكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى : فهذا ينافي ما يقتضيه الوجدان والإرتكاز في مقام إرادة التلفّظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا ، وهو مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الإنتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ؛ لأنّ لازم البيان المذكور هو أنْ يكون الإنتقال إلى اللفظ في عرض الإنتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن إنتقالان : إنتقال بدواً إلى اللفظ عند سماعه ، وإنتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى ، نظير الإنتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أنّ ذلك مما يأبى عنه الوجدان والإرتكاز ، فإنّه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدواً مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنّ المعنى هو الملقى إليه بلا توسيط لفظٍ في البين أصلاً .


2ـ وأما أنْ تكون إرادة غيرية توصلية إلى إبراز المعنى باللفظ نظراً إلى قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي ، فعليه نقول : بأنّ جهة مبرّزية اللفظ عن المعنى بعد أنْ لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ ـ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ـ فلا بدّ وأنْ يكون نشوؤها من أنحاءٍ عدة  :


      اـ إمّا من وضع الواضع وجعله . 


      ب ـ أو من تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ : وهذا لا سبيل اليه لأنّه بديهي الإستحالة . 


     جـ ـ أو من إرادة أخرى : وهذا أيضاً لا سبيل إليه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين ، مع أنّه يجيء فيها إحتمالات كونها إرادة غيرية أو نفسية .


وعليه فيتعيّن حينئذٍ المعنى الأول ـ أي أنّها من قبل وضع الواضع وجعله ـ وهو المطلوب ().


وفي موضعٍ آخرٍ يذكر المحقق العراقي أنّه : لعلّ مَنْ قال بكون الوضع عبارة عن التعهّد قد تسامح وأراد الإختصاص والإضافة الحاصلة به ، وكيف كان فلا يبعد أنْ يكون الوضع عبارة عن هذه الإضافة الحاصلة من البناء والالتزام بإفادة المعنى به عند إرادة ترك التجوّز، مع أنّها مقدمة على الوضع الذي يحصل بالتخصيص والتعيين () .


ويظهر للباحث : إنّ الشيخ النهاوندي( ت : 1322هـ) ـ وهو المؤسس لنظرية التعهّد ـ قد صرّح بأنّ القول بالتعهّد لا ينافي كون الوضع هو من باب التعيين أو التخصيص ؛ لأنّه عنوانه الثانوي المتسبّب من العنوان الأولي ، وهو الإلتزام والتعهّد () ، وعليه تكون مناقشة المحقق العراقي غير تامة في المقام .


 وذكر المحقق العراقي أيضاً : إنّ من لوازم مسلك التعهّد إنحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية ؛ لأنّه لا ظهور للفظ حينئذٍ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنّه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من الوضع والجعل ().


ويظهر للباحث : إنّ مَنْ يقول بالتعهّد لا بدّ أنْ تنحصر الدلالة عنده بالدلالة التصديقية ؛ وذلك من أجل أنْ يتحقق إرادة قصد تفهيم المعنى من اللفظ ؛ لأنّ قصد التفهيم لازم ذاتي للوضع بمعنى التعهّد ، هذا مع أنّ الدلالة التصورية بعد العلم بالوضع أمر قهري خارج عن الإختيار () .


 


ثانياً : مناقشة تلامذة السيد الخوئي لنظرية التعهّد


 


أورد تلامذة السيد الخوئي مناقشات عدّة على نظرية التعهّد ، وهي : 


1ـ مناقشة الصدر للخوئي


بيّن السيد محمد باقر الصدر ( ت : 1400هـ) أنّ مسلك التعهّد يرجع الى ثلاثة محاور أساسية ، ثم أخذ بمناقشتها ، وهي :


المحور الأول : إنّ التعهّد عبارة عن ملازمة قائمة بين طرفين : أحدهما اللفظ ، والآخر قصد تفهيم المعنى على نحو القضية الشرطية ; وهي متى ما قصد تفهيم المعنى الفلانيّ أتى باللفظ الفلانيّ ؛ لأنّ هذين الأمرين هما طرفا التعهّد .


 المحور الثاني : إنّ الدلالة التي نشأت ببركة هذا التعهّد ليست مجرّد دلالة تصوّريّة ، بل دلالة تصديقيّة ; فإنّ الدلالة التصوّريّة هي انتقاش المعنى من اللفظ في الذهن ولو صدر عن حجرٍ، والدلالة التصديقيّة هي دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وإخطاره ، وطرف الملازمة كان هو الثاني  .


 إذن ، فالوضع يتكفّل بالدلالة التصديقيّة ، ويوجد في ضمنها الدلالة التصوّريّة. 


المحور الثالث : إنّ كلّ واحد من أهل اللغة هو واضع ، فالمستعمل للفظٍ هو واضع أصلي ومن يأتي من بعدهم في الأجيال اللاحقة هم  واضعون بالتبع والمشايعة () .


 


وقد توسّع السيد الصدر في مناقشة المحور الأول ـ أي القضية الشرطية ـ بإرجاعها الى ثلاث صيغٍ محتملة  :


1ـ إما أنْ يكون الشرط عبارة عن قصد تفهيم المعنى ، والجزاء هو الإتيان باللفظ ، وهذا هو المطابق لكلمات السيد الخوئي ، وهذا أمر معقول في نفسه لكنّه لا يفيد المقصود ، وهو دلالة اللفظ على المعنى ؛ فإنّ التعهّد بقضية شرطية إنّما يوجب دلالة الشرط على الجزاء لا دلالة الجزاء على الشرط ، والشرط هنا هو قصد تفهيم المعنى ، والجزاء هو الإتيان باللفظ ، فلو عرفنا أنّ هذا الإنسان قاصد لتفهيم معنىً دلّنا ذلك على أنّه سوف يأتي باللفظ ، وأما الإتيان باللفظ فليس دليلاً على أنّه قصد المعنى ؛ إذ قد يكون الإتيان باللفظ لازماً أعمّ لقصد المعنى .


والحاصل أنّه لم يتعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد المعنى حتى يكون إتيانه باللفظ دليلاً على قصد المعنى () .


ويرى الباحث : إنّ مراد السيد الخوئي هو ليس هذه الصيغة بل الصيغة الثانية بدليل قوله : ( فإنّ المتكلم قد تعهّد بأنّه إذا تكلّم بلفظ فلاني فإنّه أراد المعنى         الفلاني ) () .


2ـ عكس الأول ، وذلك بأنْ يكون الشرط هو الإتيان باللفظ ، والجزاء هو قصد تفهيم المعنى ، فهو متعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد تفهيم المعنى ، وحتى لو صدر عنه اللفظ غفلة فسوف يُحدث في نفسه قصد تفهيم المعنى وفاءً بتعهّده .


وهذا يفيد المقصود ويوجب دلالة اللفظ على المعنى ، لكنّه ليس أمراً عقلائياً ؛ فإنّ التلفظ هو الذي يكوّن قصد تفهيم المعنى ، وليس قصد تفهيم المعنى في طول اللفظ ، وأيّ عاقل يُلزم نفسه بأنْ يُحدث قصد تفهيم المعنى عندما يصدر عنه اللفظ ولو غفلة ؟!


ويبدو للباحث : إنّ هذه المناقشة تامة .


 


3ـ أنْ يكون الشرط عبارة عن عدم كونه قاصداً لتفهيم المعنى ، والجزاء عبارة عن عدم التلفّظ  باللفظ . إلاّ أنّ هذا غير واقع خارجاً ؛ فإنّ هذا لا ينسجم مع الإستعمال المجازي الذي باب من أبواب اللغة ، والعاقل الباني على الإستعمال المجازي كيف يأتّى منه التعهّد بعدم استعمال كلمة ( أسد ) مثلاً إلاّ حين إرادة تفهيم الحيوان المفترس ؟! 


 


وذكر السيد الصدر هذا الإشكال على مبنى التعهّد بصيغه الثلاث مشافهة على مسامع السيد الخوئي فذكر في مقام الجواب صيغةً رابعة أو تعديلاً للصيغة الثالثة ، وذلك بأنْ يُقال :


إنّ الواضع يتعهّد بأنْ لا يأتي باللفظ إلاّ إذا قصد المعنى الحقيقي ، ويستثنى من ذلك فرض إقامة القرينة . وبكلمة أخرى : إنّه يتعهّد بأن يأتي بلفظة ( أسد ) مثلاً في إحدى حالتين :


 


الأولى : أنْ يقصد تفهيم الحيوان المفترس .


والثانية : أنْ يقصد تفهيم الرجل الشجاع مع إنضمام القرينة ، فإذا لم يأت بقرينة على المعنى المجازي تعيّن قصده لتفهيم الحقيقي () .


 


وقد أورد السيد الصدر على الصيغة الرابعة ما يأتي :


أولاً : إنّه سواء اُريد بالقرينة القرينة المتصلة أم اُريد بها الأعم من القرينة المتصلة والمنفصلة لا تكفي هذه العناية ـ أي عناية استثناء فرض إقامة القرينة ـ لتصحيح مبنى التعهّد ؛ لوضوح : أنّ المستعمل اللغوي قد يستعمل المجاز بلا قرينةٍ حينما يتعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال، فهذا التعهّد خُلف بنائه ولو إحتمالاً على الإستعمال المجازي بلا قرينة ، فهذا المقدار من العناية لا يفي بتصحيح التعهّد ما لم تبذل عنايات إضافية أخرى : كأنْ يُستثنى أيضاً فرض تعلّق غرضه بالإجمال أو الإهمال ، ويُستعان في مقام تتميم الدلالة بالبناء على عدم إرادة الإجمال أو الإهمال على أساس ندرة هذه الحالة .


وثانياً : إنّه هل المراد بالقرينة خصوص القرينة المتصلة أو الأعم من المتصلة والمنفصلة ؟ فإن اُريد خصوص القرينة المتصلة كان هذا تعهّداً ضمنياً بإلغاء القرائن المنفصلة . ومن الواضح : أنّه كثيراً ما يعتمد على القرينة المنفصلة .


وإن اُريد الأعم من القرينة المتصلة والمنفصلة لزم من ذلك أنّه متى ما سمعنا كلاماً من المتكلم واحتملنا أنّه سوف يقيم قرينة منفصلة على إرادة المعنى المجازي لم يجز حمل كلامه على المعنى الحقيقي ، ولم نحرز دلالة  اللفظ على معناه الموضوع له ؛ وذلك لأنّ الدلالة على المعنى الموضوع له فرع التعهّد ، والتعهّد بذلك قد قيّد بحالة عدم القرينة ولو المنفصلة ، فمع احتمال ورود القرينة المنفصلة في المستقبل لا نجزم بالتعهّد بإرادة المعنى الموضوع له ، فلا نجزم بالدلالة ، مع أنّه لا إشكال في هذه الحالة في حمل الكلام على المعنى الموضوع له () . 


 


بيان ذلك : إنّ المتكلّم حينما يُنهي كلامه من دون الإتيان بقرينة متصلة فإنّه ينعقد لكلامه ظهور ، وبالتالي يتم قصد تفهيم المعنى ، غاية الأمر إذا جاءت القرينة المنفصلة بعد ذلك ينهدم الظهور الأولي وينعقد ظهوراً آخر يكون هو المقصود الجدّي للكلام الأول . 


 


2ـ مناقشة السيستاني للخوئي


جعل السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه ) نظرية التعهّد على ثلاثة صُعدٍ محتملة ، ثمّ أخذ بمناقشتها تباعاً ، وهي كما يأتي () :


أولاً : إما أن تُلحظ  نظرية التعهّد على صعيد الوضع بالمعنى المصدري : 


فصياغة التعهّد في تلك المرحلة - وهي مرحلة الإنتخاب والجعل - مجرد إعتبار أدبي كسائر الإعتبارات الأدبية الأخرى لكن لا يوجد له مصحّح بخصوصه ، فإنّ الإعتبار الأدبي يحتاج لمصحّحٍ معيّنٍ له من بين الإعتبارات الأدبية المختلفة ولا يوجد ذلك بالنسبة لصياغة التعهّد ، فإنّ الهدف من هذا الإعتبار الأدبي هو التوصل والتمهيد للعلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى ، وهذا مصحّح مشترك بين مسلك التعهّد وغيره من الإعتبارات الأخرى .


ثانياً : أو تُلحظ على مستوى الوضع بمعنى الإسم المصدري : وهو عبارة عن الدلالة التصورية التي هي عبارة عن التلازم ** أو الهوهوية  ***  :


 فقد ذكر السيد الخوئي أنّ الدلالة التصورية منتزعة من مسلك التعهّد ، أي أنّ الذهن إذا رأى واضعا يتعهّد بعدم ذكر اللفظ إلا عند إرادة المعنى فإنّه ينتزع من هذا التعهّد تصور المعنى ، فالدلالة التصورية أمر إنتزاعي من نفس عملية   التعهّد () . 


ولكن يُلحظ على ذلك : أنّ الأمر الإنتزاعي واقعيته بمنشأ انتزاعه ، وإذا إرتفع منشأ إنتزاعه فلا وجود له ، بينما نرى بالوجدان أنّ حصول الدلالة التصورية سواء أكانت هي التلازم أم الهوهوية لا تتوقف على التعهّد بل تتوقف على مرحلة الإشارة ، وهي العوامل الكمية أو الكيفية المولّدة للعلاقة بين اللفظ والمعنى سواءً وجد تعهّد أم لا ، فقد يوجد تعهّد ولا تحصل هذه العلاقة ؛ لعدم جري المجتمع وفق ذلك التعهّد ، وقد لا يوجد تعهّد لكنّها حاصلة بسبب العوامل الأخرى ، فبينهما عموم من وجه ، وحينئذ فلا تتوقف الدلالة التصورية على التعهّد توقف المنتزَع على المنتزع منه . وقد إعترف بذلك السيد نفسه ، إذ ذكر أنّ منشأ الدلالة التصورية هو كثرة الاستعمال مع أنّه ذكر في التعليقة نفسها أنّها منتزعة من عملية التعهّد () .


ثالثاً : أو أنْ تلحظ نظرية التعهّد على صعيد استكشاف المدلول التفهيمي :


فيرد عليه : إنّ الطريق لإستكشاف كون المتكلم قاصداً تفهيم المعنى لا ينحصر في العلم بالتعهّد بل له طريق آخر وهو قانون السببية ، فهذا القانون يستكشف الإنسان به المدلول التفهيمي وكون المتكلم قاصداً للتفهيم ، سواء أكان هناك تعهّد أم لم يكن .


ثم يعرض السيد السيستاني إشكالاً مقدّراً ويجيب عليه :


الإشكال : لو قصدنا بالتعهّد التعهّد الشخصي من قبل الواضع فحينئذ لا نرى تلازماً بينه وبين الدلالة التصورية كما ذكرتم في الإعتراض ، لعدم توقف الدلالة التصورية على ذلك بل على العوامل الأخرى ، ولكن المقصود بالتعهّد هو التعهّد العقلائي العام ، أي تعهّد الواضع والمستعمل أيضا بالصياغة المذكورة ، وإذا كان المقصود بالتعهّد هو هذا فهو نفس كثرة الإستعمال فإن كثرة الإستعمال عبارة أخرى عن تعهّد المجتمع بما تعهّد به الواضع ، فلا تهافت بين الكلامين ، ولا ينتفي بذلك كون علاقة الدلالة التصورية بالتعهّد علاقة المنتزَع بالمنتزَع منه () .


جواب الإشكال 


لو سُلّم ما ذُكر لكن تبقى علاقة الدلالة التصورية بكثرة الإستعمال أو غيرها من العوامل علاقة المسبَّب بسببه لا علاقة المنتزع بالمنتزع منه كما هو واضح.


إنّ السبب المُعد للعلاقة التصورية ليس هو التعهّد النفسي ، سواء أكان من الواضع أم من المجتمع ، بل هو نفس ذكر اللفظ مع القرينة بقصد الإشارة للمعنى فإنّ هذا هو الدخيل في حصول العلاقة التصورية ، سواء أكان هناك تعهّد نفساني من المجتمع أم لم يكن ، فالتعهّد نفسه لا دخالة له إطلاقاً في حصول هذه الدلالة التصورية لا على نحو الإنتزاع ولا على نحو السببية . 


إنّ دعوى كون التعهّد تعهّداً إجتماعياً عاماً لا نرى له شواهد وملامح في المجتمع العقلائي ، بل نرى المجتمع يسير على نهج الإستعمال التابع لما حدده الواضع من دون قيامه بتعهّدٍ نفساني كما هو المدّعى  .


والنتيجة التي ينتهي إليها السيد السيستاني : إنّه لا يوجد مبرّر لنظرية التعهّد على مختلف الأصعدة () .


 


ويظهر للباحث : إنّ سير المجتمع على نهج الإستعمال التابع لما حدّده الواضع يستبطن قهراً التعهّد النفساني من مستعمِل اللفظ ، فلا يُتم ما ذكره أخيراً .


 


3ـ مناقشة الفياض للخوئي


نقد الشيخ محمد اسحاق الفياض ( معاصر) نظرية التعهّد بوجوهٍ عدّة :


الأول : إنّ المرتكز عند العرف والعقلاء هو أنّ التعهّد والإلتزام النفساني متفرّع على الوضع في المرتبة السابقة ومترتب عليه ، لا أنّه هو الوضع ، لوضوح أنّ تعهّد المتكلم بأنّه كلما نطق باللفظ الفلاني أراد معناه في مرتكز نفسه ، مبني على الوضع مسبقاً ، لا أنّه وضع ؛ لأنّه تعهّد شخصي منه لا يناسب الوضع كقانون عام .


الثاني : إنّ الوضع على ضوء هذه النظرية أمر عقلائي ـ وهو التعهّد بأحد طرفي القضية الشرطية إلى طرفها الآخر ـ  ولا بدّ من افتراضه في مجتمع عقلائي متكامل ، مع أنّ الوضع موجود منذ نشوء ظاهرة اللغة في مجتمع الإنسان البدائي .


 


الثالث : إنّ لازم هذه النظرية عدم تحقق الإشتراك اللفظي في اللغات نهائياً ، وواضح أنّه لا يمكن الإلتزام بذلك ؛ فإنّ وجود المشترك اللفظي في اللغات أمر لا يقبل الشك ، وأنّه من ضروريات اللغات ، وهذا دليل على عدم صحة هذه النظرية .


 


الرابع : إنّ لازم هذه النظرية إنقلاب المستعمل واضعاً ، وهذا خلاف المرتكز القطعي ، إذ أنّ المرتكز لدى العرف والعقلاء كون الإستعمال فرع الوضع ومترتب عليه ، لا أنّه الوضع ، ويظهر ذلك بجلاء في الأعلام الشخصية .


الخامس : إنّ لازم هذه النظرية كون الدلالة الوضعية تصديقية لا تصورية ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ لا شبهة في أنّ الدلالة التصورية مستندة إلى الوضع غير التعهّد ().


 


ثم ردّ الشيخ الفياض ما ذكره السيد الخوئي : من أنّ الغرض من وراء الوضع والدافع إليه هو التفهيم والتفهّم بين أهل كل لغة في جميع ما يحتاجون إليه من الأمور ، والوضع يتبع الغرض وإلا كان لغواً () ، وجاء ردّه : بأنّ الغرض من الوضع وإنْ كان ذلك ، إلا أنّه ليس بمثابة العلة التامة ، بحيث يدور الوضع مداره وجوداً وعدماً وسعةً وضيقاً ، بل هو بمثابة الحكمة له الموجبة لخروج الوضع عن اللغوية ، ولا مانع من تخلّفها في بعض الموارد ، أو فقل : إنّ قصد التفهيم من الداعي للوضع هو جهة تعليلية لا تقييدية . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إنّ تحقق هذا الغرض وحصوله يتوقف على دلالة تصورية في المرتبة السابقة ، إذ أنّه لا يمكن تحقق الدلالة التصديقية بدونها ، وعلى هذا فلا مانع من وضع طبيعي اللفظ للمعنى بدون أخذ أي شيء فيه ولا في العلقة الوضعية ، وعليه فلا يكون هذا الوضع لغواً () .


 


ونخلص بالقول : إنّ منشأ نظرية التعهّد هو الرأي ذكره الشيخ علي بن فتح الله النهاوندي ( ت : 1322هـ) ومن ثم تبنّاه الشيخ عبد الكريم الحائري               ( ت : 1355هـ) والشيخ محمد رضا الأصفهاني النجفي (ت : 1362هـ ) ، وتبنّى السيد الخوئي (قده) هذا الرأي وجعله في نظرية ووضّحها ببيان أصولي محكم ، وأضاف فيها إضافاتٍ معرفية عمودية ؛ فيكون مجدّدا فيها .


كما ردّ السيد الخوئي (قده) الإشكالات التي قد ترد على ما اختاره من مسلك التعهّد في وضع الالفاظ .


 


 


 


 


 


 


 


المطلب الثاني : المعنى الحرفي  


 


ذكر علماء العربية بإزاء كل حرف معنىً معيناً فـ (من) موضوعة للإبتداء و(في) للظرفية و(هل) للاستفهام وهكذا . وقد لاحظ علماء الأصول أنّ هناك فرقاً واضحاً بين شرح اللغوي وتحديده لمعاني الأسماء أو الأفعال ـ كأنْ يقول مثلا: (الأسد) هو الحيوان المفترس أو (جلس) بمعنى قعد ـ وبين تحديداتهم تلك لمعاني الحروف من حيث أنّ شرح الإسم أو الفعل يُنبيء عن مرتبة من الترادف في المعنى بين الكلمة المشروحة والكلمة الشارحة ، بحيث يصحّ إستبدال إحداهما بالأخرى في مجال الاستعمال من دون أنْ يختل التركيب الذهني لصورة المعنى المعطاة بالكلام ، بينما لا يتأتى ذلك في معاني الحروف. فالظرفية مثلا لا يمكن أنْ تستعمل بحال من الأحوال بدلاً من حرف (في) ولا الإبتداء بدلاً عن (من) .


ولذا إستأثرت هذه الظاهرة بإهتمام الأصوليين فدفعتهم إلى مواصلة البحث والتنقيب في مدلولات الحروف ليخرجوا بالتحليل النهائي الذي على أساسه يمكن تفسير واقع الفرق بين المعاني الحرفية والمعاني الإسمية () . 


ومن معالم البحث الأصولي للسيد الخوئي هو قوله بالتحصيص في وضع المعاني الحرفية ، ولبيان هذه المسألة عنى هذا المطلب ببيان آراء الاصوليين للمعاني الحرفية ، وبيان الفارق بينها وبين المعاني الإسمية في أقوالٍ عدة عرضها السيد الخوئي ثم أخذ بمناقشتها الواحد تلو الآخر، والآراء هي : 


 


الرأي الأول : الآلية في المعاني الحرفية


وهو أنّ المعنى الحرفي والمعنى الإسمي متحدان بالذات والحقيقة ، ومختلفان باللحاظ والإعتبار: وقد نسب المحقق حبيب الله الرشتي ( ت : 1312هـ)  هذا الرأي الى المحقق رضي الدين الإسترابادي* ( ت : 688هـ) ، وتبعه فيه الآخوند الخراساني( ت : 1328هـ):  فكلمة ( إبتداء ) وكلمة ( من ) مشتركتان في طبيعة معنى واحد ، ولا مائز لإحداهما على الآخر إلا في أنّ اللحاظ في مرحلة الإستعمال في الأسماء  إستقلالي ، وفي الحروف آلي ، وأنّ الإستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا يتصف بأنّه مستقل ، ولا غير مستقل ، بل هما من توابع الإستعمال وشؤونه () .


 


بيان الخوئي لرأي الآخوند


بيّن السيد الخوئي الأدلة التي إستدل بها المحقق الآخوند على عدم إمكان أخذ اللحاظ الآلي كاللحاظ الإستقلالي ، لا في المعنى الموضوع له ، ولا في المستعمل فيه ، والأدلة هي : 


 


 الأول : إنّ لحاظ المعنى في مقام الإستعمال مما لا بدّ منه ، وعليه فلا يخلو الحال من أنْ يكون هذا اللحاظ عين اللحاظ المأخوذ في المعنى الموضوع له ، أو يكون غيره . فعلى الأول يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، والثاني خلاف الوجدان والضرورة ؛ إذ ليس في مقام الإستعمال إلا لحاظ واحد ، على أنّ الملحوظ بما هو ملحوظ غير قابل لتعلّق لحاظ آخر به ، فإنّ القابل لطروء الوجود الذهني إنّما هو نفس المعنى وذاته ، والموجود لا يقبل وجوداً آخر في المعنى الحرفي .


الثاني : إنّ أخذ اللحاظ الآلي فيما وضعت له الحروف يلزمه أخذ اللحاظ الإستقلالي فيما وضعت له الأسماء ، فكيف يمكن التفرقة بينهما بأنّ الموضوع له في الحروف جزئي وفي الأسماء كلي ؟ .


 الثالث : إنّه يلزمه عدم صحة الحمل ، وعدم إمكان الإمتثال من دون تجريد الموضوع والمحمول عن التقييد بالوجود الذهني ، لعدم إنطباق ما في الذهن على ما في العين .


 فتحصّل : أنّ المعنى الحرفي وإنْ كان لا بدّ من لحاظه آليا ، كما أنّ المعنى الإسمي لا بدّ من لحاظه استقلاليا إلا أنّ ذلك لم ينشأ من أخذهما في الموضوع له، بل منشأ ذلك هو اشتراط الواضع ذلك في مرحلة الاستعمال ، لا بمعنى أنّه اشترط ذلك على حذو الشرائط في العقود والإيقاعات .


 وهذا يعني : أنّ الوضع لما كان فعلاً اختيارياً للواضع فله تخصيصه بأيّ خصوصية شاء ، فيخصّص العلقة الوضعية في الحروف بحالة ، وفي الأسماء بحالة أخرى ، بل له ذلك في شيء واحد بجعله علامة لإرادة أمرين أو أمور من جهة إختلاف حالاته وطوارئه ، كما إذا فرض أنّ السيد قد تبانى مع عبده أنّه إذا وضع العمامة عن رأسه في وقت كذا فهو علامة لإرادته أمر كذا . وإذا وضعها عنه في الوقت الفلاني فهو علامة لإرادته الأمر الفلاني . ومن هنا كانت الآلية والإستقلالية خارجتين عن حريم المعنى ، وليستا من مقوماته وقيوده ، بل من قيود العلقة الوضعية ومقوماتها . فلذا كان استعمال كل واحد من الحرف والاسم في موضوع الآخر بلا علقةٍ وضعيةٍ وإنْ كان طبيعي المعنى واحداً فيهما ؛ ولأجله لا يصح ذلك الإستعمال () .


 وبتعبير واضح : إنّ القيد تارة يكون من الجهات الراجعة الى اللفظ ، وأخرى من الجهات الراجعة الى المعنى ، وثالثة من الجهات الراجعة الى الوضع نفسه . 


أما على الأول : ـ وهو كون القيد من الجهات الراجعة الى اللفظ ـ فيختلف اللفظ باختلافه : كالحركات والسكنات والتقدم والتأخر بحسب الحروف الأصلية المتميّزة بالذات عمّا عداها ، أو بالترتيب مثلا : كلمة ( بر) تختلف باختلاف الحركات والسكنات : ( بِر ) بالكسر و ( بُر ) بالضم و( بَر) بالفتح . فللكلمة الأولى معنى ، وللثانية معنى آخر ، وللثالثة معنى ثالث *، مع أنّه لا تفاوت فيها بحسب حروفها الأصلية أصلا . وكلمة " علم " يختلف معناها بتقدّم بعض حروفها الأصلية على بعضها الآخر ، وتأخّره عنه : ك(عمل أو لمع ) ، وهكذا في بقية الموارد .


 وأما على الثاني : ـ وهو كون القيد من الجهات الراجعة الى المعنى ـ فيختلف المعنى بإختلافه ، فإنّ هيئة ( القاعد ) - مثلا - هيئة واحدة ، ولكنّها تختلف بإختلاف الخصوصيات والحالات الطارئة عليها ، فإذا كانت مسبوقة بالقيام يطلق عليها لفظ ( قاعد) ، وإذا كانت مسبوقة بالإضطجاع يطلق عليها لفظ (جالس) ، وهكذا في غير ذلك من الموارد . 


وأما على الثالث : ـ وهو كون القيد من الجهات الراجعة الى الوضع ـ فتختلف العلقة الوضعية بإختلافه : كلحاظ الآلية والإستقلالية ، فإنّها إذا قيّدت بالآلية تختلف عمّا إذا قيدت بالإستقلالية ، وحينئذ فلما كانت العلقة مختصة في الحروف بما إذا قصد المعنى آلة ، وفي الأسماء بما إذا قصد المعنى إستقلالاً فمن الواضح أنّها تكون في الحروف والأدوات غير ما في الأسماء ، فتختص في كل واحدة منها بحالة تضاد الحالة الأخرى .


 ومن هنا ذهب الشيخ الآخوند في مبحث المشتق إلى أنّ استعمال لفظ (الإبتداء) في موضع كلمة (من) ليس إستعمالٌ في غير الموضوع له ، بل هو إستعمال فيه، ولكنّه من دون علقة وضعية () . 


 


مناقشة الخوئي للخراساني


بعد أنْ بيّن السيد الخوئي الأدلة التي إعتمدها المحقق الخراساني في المعاني الحرفية ذكر أنّ رأيه ينحلّ الى نقطتين ، ثم أخذ بمناقشتهما  : 


أما الأولى : نقطة الإشتراك : فهي أنّ الحروف والأسماء مشتركتان في طبيعي معنى واحد ، فالإستقلالية وعدمها خارجتان عن حريم المعنى ، فالمعنى في نفسه لا مستقل ولا غير مستقل .


وأما الثانية : نقطة الإمتياز : فهي أنّ ملاك الحرفية ملاحظة المعنى آلة ، وملاك الإسمية ملاحظة المعنى إستقلالاً ، فبذلك يمتاز أحدهما عن الآخر .


ويرد على النقطة الأولى : أنّ لازمها صحة إستعمال كل من الإسم والحرف في موضع الآخر، وهذا غير صحيح ؛ والوجه في ذلك : 


هو أنّ إستعمال اللفظ في معنىً غير المعنى الموضوع له إذا جاز فمن جهة العلقة الخارجية والمناسبة الأجنبية ، ومع فرض إنتفاء العلقة الوضعية بينه وبين ذلك المعنى كان مقتضاه الحكم بالصحة بطريقٍ أولى إذا كانت العلقة ذاتية وداخلية ، ضرورة أنّه كيف يمكن الحكم بصحة الإستعمال إذا كانت المناسبة خارجية والعناية أجنبية ، وبعدم صحته إذا كانت داخلية وذاتية ؟ ؛ ولذا فالمعنى الحرفي والإسمي ليسا بمتحدين ذاتاً ، ولا إشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، بل هما متباينان بالذات والحقيقة ، وهذا هو الموافق للوجدان الصحيح ؛ ولأجله لا يصح إستعمال أحدهما في موضع الآخر .


أما النقطة الثانية فيرد عليها : إنّ لازمها صيرورة جملة من الأسماء حروفاً لمكان ملاك الحرفية فيها ، وهو لحاظها آلة ومرآة : كالتبيّن المأخوذ غاية لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى : (... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ...) () فإنّه قد اُخذ مرآةً وطريقاً الى طلوع الفجر ، من دون أنْ يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها ، فبذلك يُعلم : أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظها آلياً (). 


ولذا أشار السيد الخوئي إلى أمرين :


الأول : إذا كان الملاك في كون المعنى حرفياً تارة وإسمياً أخرى هو اللحاظ الآلي والإستقلالي ، وكان المعنى بحدّ ذاته لا مستقلاً ولا غير مستقل ، فكل ما كان النظر إليه آلياً فهو معنى حرفي ، فيلزم محذور صيرورة جملة من الأسماء حروفا و( أنّ لحاظ المعنى آلةً لو كان موجباً لكونه معنى حرفياً لزم منه كون كل معنى إسمي يؤخذ معرّفاً لغيره في الكلام وآلةً للحاظه ، كالعناوين الكلية المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية معنى حرفياً . كما أنّ لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجباً لكونه معنى حرفياً لزم منه كون جميع المصادر معاني حرفية فإنّها تمتاز عن أسماء المصادر بكونها مأخوذات بما أنّها أوصاف لمعروضاتها ، بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما أنّه شيء في نفسه مع قطع النظر عن كونه وصفاً لغيره ) () . 


الثاني : إنّ ما هو المشهور بين متأخري الأصوليين() : من أنّ المعنى الحرفي ملحوظ آلة ، لا أصل له ؛ وذلك لأنّه لا فرق بين المعنى الإسمي والمعنى الحرفي في ذلك ؛ إذ كما أنّ اللحاظ الإستقلالي والقصد الأولي يتعلقان بالمعنى الإسمي في مرحلة الإستعمال كذلك قد يتعلقان بالمعنى الحرفي ، فإنّه هو المقصود بالإفادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ، ولكنّه كان جاهلاً بخصوصيتهما فسأل عنها فاُجيب على طبق سؤاله ، فهو والمجيب إنّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة إستقلالية . مثال ذلك : إذا كان مجيء زيدٍ معلوماً ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة عند أحدٍ فلم يعلم أنّه جاء مع غيره أو جاء وحده فسأل عنها ، فقيل : إنّه جاء مع عمرو فالمنظور بالإستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والإستفادة إنّما هو هذه الخصوصية التي هي من المعاني الحرفية من دون المفهوم الإسمي فإنّه معلوم ، بل إنّ الغالب في موارد الإفادة والإستفادة عند العرف النظر الإستقلالي والقصد الأولي بإفادة وإستفادة الخصوصيات والكيفيات المتعلقة بالمفاهيم الإسمية () .


 


الرأي الثاني : شأن الحروف شأن حركات الإعراب


إنّ الحروف لم توضع لمعنىً محدد ، فشأنها شأن حركات الإعراب *: وهذا الرأي هو للمحقق النهاوندي ( ت : 1322هـ) : فقد ذهب الى أنّ الحروف لم توضع لمعنى ، وإنّما وضعت لتكون علامة على كيفية إرادة مدخولاتها نظير حركات الإعراب التي لم توضع لمعنى ، وإنّما وضعت لتكون قرينة على إرادة خصوصية من خصوصيات مدخولها من الفاعلية والمفعولية ونحوهما . فكما أنّ كل واحد من حركات الإعراب يفيد خصوصية متعلقة بمدخوله فإنّ ( الفتحة ) تفيد خصوصية في مدخولها ، و ( الكسرة ) تفيد خصوصية أخرى فيه ، و (الضمة ) تفيد خصوصية ثالثة فيه ، فكذلك كل واحد من الحروف . فإنّ كلمة ( في) تفيد إرادة خصوصيةٍ في مدخولها غير ما تفيده كلمة (على) من الخصوصية ، من دون أنْ تكون لها معانٍ مخصوصةٍ قد وضعت بإزائها ()، وقد ذكر السيد الخوئي هذا الرأي من دون نسبته لقائله ().


و ذكر المحقق النائيني أنّه حُكي نسبة هذا القول إلى المحقق رضي الدين الإسترابادي ( ت : 688هـ) أيضاً () .


 


مناقشة الخوئي للنهاوندي 


بيّن السيد الخوئي أنّ بطلان هذا القول من الواضحات الأولية ؛ وذلك لأنّ الخصوصيات التي دلت عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بإزائها ، إذ المفروض أنّ تلك المعاني ليست مما تدل عليه الأسماء ؛ لعدم كونها مأخوذة في مفاهيمها ، فإنحصر أنْ يكون الدال عليها هو الحروف ، ومن الواضح أنّ دلالتها عليها ليست إلا من جهة وضعها بإزائها ، وعليه فلا معنى للقول : بأنّها لم توضع لمعنى ، وإنّما وضعت لكذا ، بل هذا يشبه الجمع بين المتناقضين . وبعد ثبوت بطلان هذا القول ظهر حال المقيس عليه ، وهو حركات الإعراب () . 


 


الرأي الثالث : إيجادية المعاني الحرفية


 وهو للمحقق النائيني( ت : 1355هـ ) الذي ذهب إلى أنّ المعاني الحرفية والمفاهيم الإسمية متباينتان بالذات والحقيقة ، وأنّ هذا التباين بينهما هو بالإيجادية والإخطارية ، بمعنى : أنّ المفاهيم الإسمية بأجمعها مفاهيم إخطارية ومتقرّرة في عالم المفهومية ، ومستقلة بحد ذاتها وهويتها في ذلك العالم . والمعاني الحرفية  بأجمعها معانٍ إيجاديةٍ في الكلام ، ولا تقرّر لها في عالم المفهوم ، ولا إستقلال بذاتها وحقيقتها () .


وقد ذكر السيد الخوئي (قده) بياناً لرأي النائيني وهو: 


إنّ الموجودات في عالم الذهن كالموجودات في عالم الخارج ، فكما أنّ الموجودات في عالم الخارج على نوعين ، فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين أيضاً ، أما الموجودات في عالم الخارج فهي :


 أحدهما : ما يكون لها وجود مستقل بحدّ ذاته في ذلك العالم : كالجواهر بأنواعها من النفس والعقل والصورة والمادة والجسم ، ولذا قالوا : إنّ وجودها في  نفسه لنفسه يعني : لا يحتاج الى موضوع محقّق في الخارج .


وثانيهما : ما يكون لها وجود غير مستقل كذلك في هذا العالم ، بل هو متقوّم بالموضوع : كالمقولات التسع العرضية * فإن وجوداتها متقوّمة بموضوعاتها ، فلا يُعقل تحقّق عرض ما بدون موضوع يتقوم به ، ولذا قالوا : إنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين :


أحدهما : ما يكون له إستقلال بالوجود في عالم المفهومية والذهن : كمفاهيم الأسماء بجواهرها وأعراضها وإعتبارياتها وإنتزاعياتها ، فإنّ مثل مفهوم الإنسان والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم المستقلة ذاتاً ، فإنّها تحضر في الذهن بلا حاجةٍ الى أية مؤنةٍ خارجية ، سواء أكانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن ، بل لو فرضنا : إنّه لم يكن في العالم مفهوم ما عدا مفهوم واحد - مثلا - لما كان هناك ما يمنع من خطوره في الذهن ، فظهر أنّ حال المفاهيم الإسمية في عالم المفهوم والذهن حال الجواهر في عالم الخارج . 


وثانيهما : ما لا إستقلال له في ذلك العالم ، بل هو متقوّم بالغير : كمعاني الحروف والأدوات ، فإنّها بحد ذاتها وأنفسها متقوّمة بالغير ، إذ لا إستقلال لها في أيّ وعاءٍ من الأوعية التي فرض وجودها فيه لنقصانٍ في ذاتها ، فعدم الإستقلالية من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط ، فلذا لا تخطر في الذهن عند التكلم بها وحدها ، أي : من دون التكلم بمتعلقاتها ، فلو أطلق كلمة   ( في) وحدها من دون ذكر متعلقها فلا يخطر منها شيء في الذهن .


إذن حال المعاني الحرفية في عالم المفهوم حال المقولات التسع العرضية في عالم الخارج () . 


أي أن كل واحد من المعاني الحرفية موضوع لإيجاد معنى ربطي خاص في تركيب مخصوص ، ولا واقع له سواه ، فلولا وضع الحروف لم توجد رابطة بين أجزاء الكلام أبداً ، بداهة أنّه لا رابطة بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في أنفسهما ؛ لأنّهما مفهومان متباينان بالذات ، فلا بدّ من رابطٍ يربط أحدهما بالآخر ، وليس ذلك إلا كلمة (في)- مثلاً- التي هي الرابطة بينهما ، كما أن كلمة (من) رابطة بين المبتدأ به والمبتدأ منه ، وكلمة (على) رابطة بين المستعلي والمستعلي عليه ، وهكذا . 


وعليه فالمعاني الحرفية بأجمعها معانٍ إيجادية ، وليس لها واقع في أيّ وعاءٍ من الذهن والخارج وعالم الاعتبار ، ما عدا التراكيب الكلامية ، ونظيرها : صيغ العقود والإيقاعات بناءً على ما ذهب إليه المشهور * فيها من : أنّها آلات وأسباب لإيجاد مسبباتها : كالملكية والزوجية والرقّية ونحوها ، ولكن الفرق بينها وبين المقام من ناحيةٍ أخرى ، وهي : أنّها بتوسط الإستعمال توجد مسبباتها في عالم الاعتبار ، فوعاؤها هو عالم الإعتبار . وأما الحروف فهي موجدة لمعانيها غير الإستقلالية في وعاء الإستعمال ، على أنّ معاني صيغ العقود والإيقاعات مستقلة في موطنها دون معاني الحروف ، فالفرق إذاً من جهتين : 


الاولى : إنّ المعاني الإنشائية مستقلة في أنفسها من دون المعاني الحرفية . 


الثانية : إنّ معانيها موجودة في عالم الإعتبار فوعاؤها ذلك العالم ، دون المعاني الحرفية ، فإنّ وعاءها عالم الإستعمال () . 


 وذكر المحقق النائيني : إنّ المعنى الحرفي إيجادي وقد أشارت إليه الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهي : ( أنّ الحرف ما أوجد معنى في  غيره ) () ، معقّباً عليه : بأنّ هذا التعريف أجود تعريفات الباب من حيث اشتماله على أركان المعاني الحرفية كلها (). 


وبهذا يتضح : إنّ المعاني  إما إخطارية مستقلة بحدّ ذاتها في عالم مفهوميتها ، وإما إيجادية غير مستقلةٍ كذلك في ذلك العالم ، فلا ثالث لهما . فالإخطارية تلازم الإستقلالية بالذات ، والإيجادية تلازم عدمها كذلك ، وعليه فحكمة الوضع دعت إلى وضع الأسماء للطائفة الاولى من المعاني ، ووضع الحروف والأدوات للطائفة الثانية منها لتكون رابطة بين الطائفة الاولى بعضها ببعض ، وبذلك يحصل الغرض من الوضع . ومن هنا أجاد أهل العربية عندما عبّروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفية بأن كلمة ( في ) للظرفية ، ولم يقولوا بأنّ    ( في ) هي الظرفية كما هو ديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الإسمية وإنْ تسامحوا من جهة عدم التصريح بالنسبة بأنْ يقولوا : كلمة ( في) للنسبة (). 


 


مناقشة الخوئي للنائيني :


بعد أنْ بيّن السيد الخوئي (قده) رأي الشيخ النائيني لخّص ما أفاده في أمور ثم أخذ بمناقشتها تباعاً ، وهذه الأمور هي :


 أولاً : إنّ المعنى الحرفي والإسمي متباينان بالذات والحقيقة ، ولا إشتراك لهما في طبيعي معنى واحد . 


ثانياً : إنّ المفاهيم الإسمية مفاهيم إستقلالية بحد ذاتها وأنفسها ، والمفاهيم الحرفية مفاهيم غير إستقلالية كذلك ، بل هي متقوّمة بغيرها ذاتاً وهوية . 


ثالثاً : إنّ معاني الأسماء جميعا معانٍ إخطارية ، ومعاني الحروف معانٍ إيجادية ، ولا يعقل أنْ تكون إخطارية كمعاني الأسماء ، وإلا لكانت مثلها في الإفتقار إلى وجود رابطٍ يربطها بغيرها ، فيلزم أنْ يكون في مثل قولنا :( زيد في الدار) مفاهيم ثلاثة إخطارية : كمفهوم ( زيد ) ومفهوم ( الدار) ومفهوم ( الظرفية ) من دون أنْ تكون هناك رابطة بين هذه المفاهيم التي لا يرتبط بعضها ببعض ، فلا يتحقق التركيب ، ولا يصح الإستعمال ، لتوقفهما على وجود الرابط بين المفاهيم الإستقلالية ، ومن الواضح أنّه ليس إلا الحروف أو ما يشبهها . 


رابعاً : إنّ حال المعاني الحرفية حال الألفاظ في مرحلة الإستعمال ، فكما أنّ الألفاظ في حال الإستعمال ملحوظة آلة والمعاني ملحوظة إستقلالا فكذلك المعاني الحرفية فإنّها في مقام الإستعمال ملحوظة آلة ، والمعاني الإسمية ملحوظة إستقلالاً .


 خامساً : إنّ جميع ما يكون النظر إليه آليا يشبه المعاني الحرفية كالعناوين الكلية المأخوذة معرفات وآليات لموضوعات الأحكام أو متعلقاتها ().


 أما مناقشة ما أفاده أولا وثانيا : من أنّ المعنى الحرفي والإسمي متباينان بالذات والحقيقة ، وأنّ المعاني الإسمية مستقلة بحدّ ذاتها في عالم المفهومية ، والمعاني الحرفية ليست كذلك ففي غاية الصحة والمتانة ، بل لابد من الإلتزام بذلك  .


  وأما ما ذكره ثالثا : من أنّ معاني الأسماء إخطارية ، ومعاني الحروف إيجادية ففيه : إنّ المعاني الإسمية وإن كانت إخطارية تخطر في الأذهان عند التكلم بألفاظها - سواء أكانت في ضمن تركيب كلامي أم لم تكن - إلا أنّ المعاني الحرفية ليست بإيجادية ؛ وذلك لأنّ المعاني الحرفية وإنْ كانت غير مستقلةٍ في أنفسها ومتعلقة بالمفاهيم الإسمية بحدّ ذاتها وعالم مفهوميتها بحيث لم يكن لها أيّ إستقلالٍ في أي وعاءٍ فرض وجودها من ذهن أو خارج إلا أنّ هذا كله لا يلازم كونها إيجادية بالمعنى الذي ذكره الشيخ النائيني ؛ لأنّ ربط الحروف بين المفاهيم الإسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض إنّما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها ، لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الإستعمال والتركيب الكلامي . مثلا : كلمة ( في) في قولهم : ( زيد في الدار ) بإعتبار دلالتها على معناها الموضوع له رابطة بين جزئي هذا الكلام غير المربوط أحدهما بالآخر ذاتاً ، لا أنّها توجد الربط في نفس ذلك التركيب ، ولا واقع له في غير التركيب الكلامي ، فكما أنّ الأسماء تحكي عن مفاهيمها الإستقلالية في حد أنفسها في عالم مفهوميتها كذلك الحروف تحكي عن المفاهيم غير المستقلة كذلك . فالكاشف في مقام الإثبات عن تعلق قصد المتكلم في مقام الثبوت بإفادة المعاني الإستقلالية هو الأسماء ، والكاشف عن تعلق قصده كذلك بإفادة المعاني غير الإستقلالية هو الحروف وما يحذو حذوها .


 والنتيجة التي ينتهي اليها السيد الخوئي هي : عدم الفرق بين الإسم والحرف إلّا في نقطة واحدة ، وهي :


 أنّ المعنى الإسمي مستقل بحدّ ذاته في عالم المعنى ، وبذلك يكون إخطارياً ، والمعنى الحرفي غير مستقلٍ كذلك فلا يخطر في الذهن إلا بتبع معنى إستقلالي ، وهذا لا يستلزم كونه إيجادياَ .


 ومن هنا يظهر بطلان ما أفاده الشيخ النائيني : من أنّ المعنى إما إخطاري مستقل ، وإما إيجادي غير مستقل ، ولا ثالث لهما ، فالأول معنى اسمي ، والثاني معنى حرفي () .


 وتوضيح البطلان : إنّ المعنى الحرفي وإنْ لم يكن إخطارياً في نفسه لعدم إستقلاله في نفسه إلّا أنّه ليس بإيجادي أيضا ؛ لأنّ له نحو ثبوت في وعاء المفاهيم كالمعنى الإسمي . 


ويستظهر السيد الخوئي مما تقدم أمرين :


الأول : بطلان القول بأنّ المعاني الحرفية إيجادية محضة ، وليس لها ثبوت في أي وعاء إلّا الثبوت في ظرف الإستعمال ، وأنّ المعاني الحرفية تساوي المعاني الإسمية في أنّها متقررة في عالم المفهومية والتعقل .


 الثاني : إنّ عدم إستقلالية المعاني الحرفية في حد أنفسها وتقومها بالمفاهيم الإسمية المستقلة لا يستلزم كونها إيجادية ، لإمكان أنْ يكون المعنى غير مستقلٍ في نفسه ، ومع ذلك لا يكون إيجادياً .


 وأما ما ذكره رابعا - من أنّ المعاني الحرفية مغفول عنها في حال الإستعمال من دون المعاني الإسمية - فلا أصل له أيضا ؛ وذلك لأنّهما من وادٍ واحدٍ من تلك الجهة ، فكما أنّ اللحاظ الإستقلالي يتعلق بإفادة المعاني الإسمية عند الحاجة إلى إبرازها والتعبير عنها فكذلك يتعلق بالمفاهيم الحرفية من دون فرقٍ بينهما في ذلك ، بل كثيراً ما يتعلق اللحاظ الإستقلالي بالمعاني الحرفية ، وإنّما يؤتى بغيرها في الكلام مقدمة لإفادة تلك الخصوصية والتضييق ، فيقال في جواب السائل عن كيفية مجيء زيد مع العلم بأصله : إنّه جاء في يوم كذا ، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المعاني الحرفية ملحوظة آلة في حال الإستعمال ، ومغفول عنها في تلك الحال ؟


 فقد تحصّل من البيان المتقدم : أنّ الفرق بين المعنى الحرفي والإسمي في نقطةٍ واحدة ، هي : إستقلال المعنى بالذات في الإسم وعدم إستقلاله في الحرف ، وأما من بقية الجهات فلا فرق بينهما أصلاً ().


 وبذلك يتضح بطلان ما أفاده الشيخ النائيني : من أنّ الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الإسمي في أركان أربعة () .


 توضيح البطلان : إنّ الأركان التي جعلها ملاك الفرق في المقام كلها فاسدة :


 أما الركن الأول : فلأنه يبتنى على المقابلة بين إيجادية المعاني وإخطاريتها فنفي الأولى يستلزم إثبات الثانية . وقد تبيّن : أنّه لا مقابلة بينهما أصلاً ، ومعه لا يكون نفي الإيجادية عن المعاني الحرفية مستلزماً لإخطاريتها ، فإنّ ملاك إخطارية المعنى الإستقلال الذاتي ، فإذا كان كذلك يخطر في الذهن عند التعبير عنه ، سواء أكان في ضمن تركيب كلامي أم لم يكن ، وملاك عدم الإخطارية عدم الإستقلال كذلك ، ولذا لا يخطر في الذهن عند التكلم به منفرداً ، وهذا غير كونه إيجادياً ، وعليه فلا مقابلة بينهما . 


وأما الركن الثاني : وهو أنّه لا واقع للمعاني الحرفية بما هي معانٍ حرفية فيما عدا التراكيب الكلامية ، فهو باطل أيضاً ؛ لأنّ المعاني الحرفية كالمعاني الإسمية ثابتة ومتقررة في عالم المفهومية ، سواء استعملت الحروف والأدوات فيها أم لم تستعمل ، غاية الأمر أنّه لا إستقلال لها بحسب الذات .


 وأما الركن الثالث : وهو الفرق بين الإيجاد في الإنشاء والإيجاد في الحروف فيظهر فساده : من أنّ معانيها ليست إيجادية ليكون الفرق بينهما مبتنياً على ما ذكره الشيخ النائيني : من أنّه لا وعاء لها غير الإستعمال والتركيب الكلامي ، وهذا بخلاف الإيجاد في الإنشاء فإنّ له وعاءً مناسباً وهو عالم الإعتبار . 


وأما الركن الرابع : وهو أنّ حال المعاني الحرفية حال الألفاظ حين إستعمالاتها فهو واضح البطلان أيضا . 


ثم إنّ من الغريب جداً أنّ المحقق النائيني جعل هذا الركن هو الركن الوطيد في المقام ، وذكر : أنّ بإنهدامه تنهدم الأركان كلها ، فإنّ المعنى الحرفي لو كان ملتفتاً إليه لكان إخطارياً وكان له واقع غير التركيب الكلامي ؛ وذلك لأنّ المعنى الحرفي كالمعنى الإسمي - مقصود في مقام التفهيم وأنّ الملاك في إخطارية المعنى إستقلاليته بالذات ، لا الإلتفات إليه واللحاظ الإستقلالي ، ضرورة أنّ الإلتفات إلى المعنى لا يجعله إخطارياً إذا لم يكن مستقلاً بحد ذاته ، بحيث كلما يطلق يخطر في الذهن ولو كان وحده ولم يكن في ضمن تركيبٍ كلامي ، ومن هنا قلنا ـ والكلام للسيد الخوئي ـ  إنّ المعنى الحرفي مع كونه ملتفتاً إليه غير إخطاري ، لعدم إستقلاله في عالم مفهوميته () .


 وأمّا ما ذكره النائيني : خامساً : وهو أنّ جميع ما يكون النظر إليه آلياً يشبه المعاني الحرفية () ، فقد أورد السيد الخوئي عليه : 


أولا : إنّ النظر إلى المعنى الحرفي كالنظر إلى المعنى الإسمي إستقلالي . 


ثانيا : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ النظر إليه آلي ، إلا أنّه لا يكون ملاكاً لحرفية المعنى ، كما أنّ اللحاظ الإستقلالي لا يكون ملاك الإسمية ، بل ملاك المعنى الحرفي التبعية الذاتية وأنّها تعليقية محضة ، وملاك الثانية الإستقلالية الذاتية وأنّها بحدّ ذاتها غير متقومةٍ بالغير .


وبتعبير آخر : إنّه على المبنى الصحيح كما هو مبنى النائيني : من أنّ المعنى الحرفي والإسمي متباينان بالذات والحقيقة ، لا يدور المعنى الحرفي والإسمي بما هما كذلك مدار اللحاظ الآلي والإستقلالي ، بداهة أنّ المعنى حرفيٌ وإنْ لوحظ استقلالاً ، وإسميٌ وإنْ لوحظ آلةً ؛ لعدم كونهما متقوّمين بهما ليختلف بإختلافهما () .


 


مناقشة الصدر للخوئي


يرى السيد محمد باقر الصدر أنّ مناقشة السيد الخوئي للمحقق النائيني غير تامةٍ ؛ وذلك لأنّ ( المظنون قوياّ أنّ مقصود المحقق النائيني "قده" ملاحظة مرحلة المعنى وإيجادية المعاني الموضوعة بإزائها الحروف لا أنّها توجد الربط بين أطراف الكلام بلا أنْ تكون موضوعة لمعنى ، ولكن بإعتبار أنّ سنخ معانيها الموضوعة بإزائها سنخ معانٍ لا يمكن إحضارها في الذهن مستقلاً لعدم ثبوت تقرر ذاتي لها بقطع النظر عن مرحلة وجودها ضمن أشخاص أطرافها)()، ولذا فالظاهر من كلام المحقق النائيني أنّه : لا يقصد إيجادية الحرف بل إيجادية معاني الحروف ، فكون المعنى الحرفي كالمعنى الإسمي ثابتاً في الذهن قبل الكلام أمر بديهي مفروغ عنه ، وإنّما المدّعى أنّ المعنى الحرفي سنخ معنى إيجادي والمعنى الإسمي إخطاري. وهذه الإيجادية في معاني الحروف لها ثلاثة أركان :


أولاً : إنّ المفاهيم الحرفية لا بدّ أنْ تكون عين حقيقتها عنواناً ووجوداً أي بالنظر التصديقي فضلاً عن التصوري ، بخلاف المعاني الإسمية التي يتحقق الغرض من إحضارها أنْ تكون عين حقيقتها بالنظر التصوري .


ثانياً : إنّ المفاهيم الحرفية تقرّرها الماهوي والذاتي في طول عالم الوجود ـ ذهناً وخارجاً ـ بخلاف التقرر الذاتي للمفاهيم الإسمية فإنّه محفوظ في المرتبة السابقة على الوجود الذهني والإستعمال .


ثالثاً : إنّ المفاهيم الحرفية نسبتها إلى ما يوازيها من النسب في الخارج نسبة الى المماثل وليست كنسبة الكلي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ، خلافاً للمفاهيم الإسمية التي نسبتها إلى الخارج بالنظر التصوري نسبة الكلي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ولهذا تكون حكاية المعنى الحرفي عن الخارج بتبع حكاية المعنى   الإسمي ().


الرأي الرابع : وضع الحروف للوجود الرابط :


 


ويذهب هذا الرأي الى أنّ المعاني الحرفية عبارة عن النسب والروابط الخارجية التي ليس لها إستقلال بالذات ، بل هي عين الربط لا ذات لها الربط : وهو ما اختاره المحقق محمد حسين الإصفهاني( ت : 1361هـ) ، وأفاد في وجه ذلك ما ملخّصه : إنّ المعاني الحرفية تباين الإسمية ذاتاً بدون أنْ تشتركا في طبيعي معنى واحد ، فإنّ الفرق بين الإسم والحرف لو كان بمجرد اللحاظ الآلي والإستقلالي وكانا متحدين في المعنى لكان قابلاً لأنْ يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن كذلك ، مع أنّ المعاني الحرفية : كأنحاء النسب والروابط لا توجد في الخارج إلا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه () .


 


 وقد بيّن السيد الخوئي هذا الرأي بعد بيان مقدمة ، وهي  :


 إنّ الفلاسفة قد قسموا الوجود على أقسام أربعة : 


القسم الأول : وجود الواجب تعالى شأنه ، فإنّ وجوده في نفسه ولنفسه وبنفسه ، يعني : أنّه موجود قائم بذاته ، وليس بمعلولٍ لغيره ، فالكائنات التي يتشكل منها العالم بشتى ألوانها وأشكالها معلولة لوجوده تعالى وتقدس ، فإنّه سبب أعمق ، واليه تنتهي سلسلة العلل والأسباب بشتى أشكالها وأنحائها .


 القسم الثاني : وجود الجوهر، وهو وجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره ، يعني : أنّه قائم بذاته ، لكنه معلول لغيره ، ولذا يقال : الجوهر ما يوجد في نفسه لنفسه.


 القسم الثالث : وجود العرض ، وهو وجود في نفسه ولغيره ، يعني : إنّه غير قائمٍ بذاته ، بل متقوم بموضوع محقق في الخارج وصفة له ، فإنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فلا يعقل تحقق عرض ما بدون موضوع موجود في العين ، ولذا يقال : العرض ما يوجد في نفسه لغيره ، ويسمى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في الإصطلاح .


 القسم الرابع : الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي ، وهو وجود لا في نفسه ، فإنّ حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلا بتبع وجود المنتسبين من دون نفسية وإستقلال لها أصلا ، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها ، وهذا بخلاف العرض فإنّ ذاته غير متقومة بموضوعه ، بل لزوم القيام به ذاتي وجوده  وقد إستدلوا على ذلك - أي : على الوجود الرابط في مقابل الوجود الرابطي - : بأن كثيراً ما كنّا نتيقن بوجود الجوهر والعرض ، ولكن نشك في ثبوت العرض له ، ومن الواضح جداً أنّه لا يعقل أنْ يكون المتيقن بعينه هو المشكوك فيه ، بداهة إستحالة تعلق صفة اليقين والشك بشيء في آنٍ واحد ، لتضادهما غاية المضادة ، وبذلك نستدل على أنّ للربط والنسبة وجوداً في مقابل وجود الجوهر والعرض ، وهو مشكوك فيه من دون وجودهما . أما أنّ وجوده وجود لا في نفسه فلأنّ النسبة والربط لو وجدت في الخارج بوجودٍ نفسي لزمه أنْ لا يكون مفاد القضية الحملية ثبوت شيءٍ لشيءٍ آخر ، بل ثبوت أشياءٍ ثلاثة ، فيحتاج - حينئذٍ - إلى الرابطة بين هذه الموجودات الثلاثة ، فإذا كان موجوداً في نفسه احتجنا إلى رابطة ، وهكذا إلى ما لا يتناهى . ويترتب على ذلك : أنّ الأسماء موضوعة للماهيات القابلة للوجود المحمولي ( الوجود في نفسه ) بجواهرها وأعراضها على نحوين ، كما توجد في الذهن كذلك والتي تقع في جواب ( ما هو ) إذا سُئل عن حقيقتها . والحروف والأدوات موضوعة للنسب والروابط الموجودات ، لا في أنفسها المتقومة بالغير بحقيقة ذاتها لا بوجوداتها فقط ، ولا تقع في جواب ( ما هو ) ، فإنّ الواقع في جواب ( ما هو ) ماكان له ماهية تامة ، ووجود الرابط سنخ وجودٍ لا ماهية له ، ولذا لا يدخل تحت شيءٍ من المقولات ، بل كان وجوده أضعف جميع مراتب الوجودات ().


 ولذا يستظهر السيد الخوئي : إنّ تنظير المعنى الحرفي والإسمي بالجوهر والعرض في غير محلّه ، إذ العرض موجود في نفسه لغيره . وإنّ الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط فإنّه من المفاهيم الإسمية الإستقلالية في عالم مفهوميتها ، وإنّما الموضوع لها الحروف واقع النسبة والربط - أي : ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط - الذي نسبة ذلك المفهوم إليه نسبة العنوان إلى المعنون ، لا الطبيعي وفرده فإنّه متحد معه ذهناً وخارجاً دون العنوان ، فإنّه لا يتعدّى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ومغاير للمعنون ذاتاً ووجوداً : نظير مفهوم العدم ، وشريك الباري عزوجل ، وإجتماع النقيضين ، بل مفهوم الوجود على القول بأصالة الوجود ، فإنّ نسبة هذه المفاهيم إلى واقعها نسبة العنوان إلى المعنون لا الطبيعي وأفراده ؛ لأنّ تلك المفاهيم لا تتعدى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ولأجل ذلك لا يصح حملها على واقعها بالحمل الشائع الصناعي ، فمفهوم النسبة والربط نسبة وربط بالحمل الأولي الذاتي ، ولا يكون كذلك بالحمل الشائع الصناعي * ، فإنّ ما كان بهذا الحمل نسبة وربط معنون هذا العنوان وواقعه . ومن ثمَّ كان المتبادر من إطلاق لفظ ( الربط والنسبة ) واقعه لا مفهومه ، فإنّ إرادته تحتاج إلى عنايةٍ زائدة ، كما هو الحال في قولهم :(شريك الباري ممتنع )، و ( إجتماع النقيضين مستحيل ) ، و ( المعدوم المطلق لا يُخبر عنه ) ، فإنّ المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الأمور لا مفاهيمها فإنّها غير محكومةٍ بها ، كيف ، وأنّها موجودة وغير معدومةٍ ولا ممتنعة ؟ 


 وبهذا تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط مطلقاً ، سواء أكانت بمفاد ( هل المركبة  ) ، أم بمفاد ( هل البسيطة ** ) ، أم كانت من النسب الخاصة المقوّمة للأعراض النسبية : مثل كون الشيء في الزمان أو المكان ، أو نحو ذلك . وأما الموضوع بإزاء مفاهيمها فهي ألفاظ النسبة والربط ونحوهما من الأسماء المحكية عنها بتلك الألفاظ ، لا بالحروف والأدوات () . 


 


مناقشة الخوئي للأصفهاني :


جاءت مناقشة السيد الخوئي في مقامين :


 المقام الأول : في أنّه هل للنسبة والربط وجوداً في الخارج في مقابل وجودي الجوهر والعرض ، أو لا ؟


المقام الثاني : وعلى تقدير وجود تلك النسبة فهل الحروف موضوعة لها ؟ 


 


أما المقام الأول : فالصحيح هو أنّه لا وجود للنسبة والربط في الخارج في قبال وجود الجوهر أو العرض .


 والوجه في ذلك : هو أنّه لا دليل على ذلك سوى البرهان المذكور وهو غير تام ؛ وذلك لأنّ صفتي اليقين والشك وإنْ كانتا صفتين متضادتين فلا يكاد يمكن أنْ تتعلقا بشيءٍ في آنٍ واحدٍ من جهةٍ واحدةٍ ، إلا أنّ تحققهما في الذهن لا يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فإنّ الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجاً ومع ذلك يمكن أنْ يكون أحدهما متعلقاً لصفة اليقين والآخر متعلقاً لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالاً بوجود إنسانٍ في الدار ولكن شك في أنّه زيد أو عمرو فلا يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فإنّهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق لليقين ، ومن جهة إنتسابه الى الفرد متعلق للشك . أو إذا أثبتنا أنّ للعالم مُبدئ ولكن شككنا في أنّه واجب أو ممكن على القول بعدم إستحالة التسلسل فرضاً ، أو أثبتنا أنه واجب ولكن شككنا في أنّه مريد أو لا ، الى غير ذلك ، مع أنّ صفاته تعالى عين ذاته خارجا وعينا ، كما أن وجوبه كذلك . وما نحن فيه من هذا القبيل فإنّ اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر ، والشك متعلق بثبوت حصةٍ خاصةٍ منه له ، فليس هنا وجودان : أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهةٍ ومتيقن من جهةٍ أخرى .


 وهذا يعني : أنّ تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلّا تعدد متعلقهما في أفق النفس ، وأما في الخارج عنه فقد يكون متعدداً وقد يكون متحداً ().


وأما المقام الثاني : فإنّه على تقدير تسليم أنّ للنسبة والربط وجوداً في الخارج في مقابل الجوهر والعرض : فلا نسلّم أنّ الحروف والأدوات موضوعة لها ؛ لأنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيات ، لا للموجودات الخارجية ولا الذهنية ، فإنّ الأولى غير قابلة للإحضار في الذهن ، وإلّا فلا تكون بخارجية . والثانية غير قابلةٍ للإحضار ثانياً ، فإنّ الموجود الذهني لا يقبل وجوداً ذهنياً آخر ، والمفروض أنّ الغرض من الوضع التفهيم والتفهّم وهو لا يجتمع مع الوضع للموجود الذهني أو الخارجي ، بل لا بدّ أنْ يكون الوضع لذات المعنى القابل لنحوين من الوجود . أي : أنّ اللفظ موضوع بإزاء المعنى اللّا بشرطي ، سواء أكان موجوداً في الخارج أم معدوماً ، ممكنا كان أم ممتنعاً . وقد يعبّر عنه ب( الصور المرتسمة العلمية ) أيضاً ، وعلى ذلك فلا يمكن أنْ تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط ؛ لأنّها سنخ وجودٍ لا ماهية لها فلا تكون قابلة للإحضار في الذهن . وأما مفاهيم نفس النسب والروابط فهي من المفاهيم الاسمية ، وليست مما وضعت لها الحروف والأدوات . ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا إمكان وضع اللفظ للموجود بما هو ، ولكنّا نقطع بأنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط ؛ لصحة إستعمالها بلا عنايةٍ في موارد يستحيل فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد ( هل البسيطة) فضلاً عن المركبة ، فلا فرق بين قولنا :( الوجود للإنسان ممكن ) و ( لله تعالى ضروري ) و( شريك الباري مستحيل) ، فإنّ ( اللام ) في جميع ذلك تستعمل في معنى واحد ، وهو : تخصّص مدخولها بخصوصيةٍ ما في عالم المعنى على نسقٍ واحدٍ بلا عنايةٍ في شيءٍ منها ، وبلا لحاظ أية نسبةٍ في الخارج حتى بمفاد ( كان التامة *) ، فإنّ تحقق النسبة بمفاد ( كان التامة ) إنّما هو بين ماهيةٍ ووجودها كقولك :( زيد موجود ) ، وأما في الواجب تعالى وصفاته وفي الإنتزاعيات والإعتبارات فلا يُعقل فيها تحقق أية نسبةٍ أصلاً .


 فالمتحصّل مما ذُكر : هو أنّ صحة إستعمال الحروف في موارد يستحيل فيها ثبوت أية نسبةٍ خارجيةٍ كما في صفات الواجب تعالى وغيرها من دون لحاظ أية علاقةٍ تكشف كشفاً يقينياً عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج () .


 


مناقشة الصدر للخوئي


ردّ السيد محمد باقر الصدر مناقشة السيد الخوئي المتقدّمة ، بقوله : 


( إنّ الوجود الخارجي لم يؤخذ في مدلول الكلمة ليُقال : إنّه لا يقبل الإنتقال الذهني اليه ، حيث أنّ الحرف لم يوضع للوجود الرابط الخارجي بل وضع لذات ماهية النسبة بقطع النظر عن نحوي وجودها .غير أنّ النسبة متقومة دائماً بشخص وجود طرفيها وبهذا كانت النسبة القائمة في ذهن المتكلم والنسبة القائمة‏ في ذهن السامع ماهيتين متغايرتين و كل منهما قابلة للإنتقال الذهني ، وذلك بأنْ توجد في صقع الذهن تبعاً لطرفيها بالنحو المناسب لها من الوجود) ().


وذكر السيد الصدر أيضاً : إنّ ( إنكار الوجود الرابط الخارجي لا يضر بالمدّعى فضلاً عن انّه خلاف التحقيق ، اذ لو اٌريد إنكار ثبوت وجودٍ ثالثٍ خارجاً على وجود المنتسبين فهو صحيح لكنه ليس هو المراد بالوجود الرابط ، و إنْ اُريد إنكار ثبوت واقعيةٍ ثالثةٍ في الخارج وراء واقعية المنتسبين فهو غير صحيح ؛ لوضوح أنّ هناك أمراً واقعياً ثابتاً في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود ... وهذه الواقعية هي منشأ إنتزاع مثل عنوان الظرفية او المظروفية وهي منشأ واقعيتهما لو قيل بأنّهما من الأمورالواقعية لا الإعتبارية )(). 


 


الرأي الخامس : النسبية في وضع الحروف


يرى هذا الرأي أنّ الحروف والأدوات وضعت للأعراض النسبية الإضافية ، كمقولة : الأين والإضافة ونحوهما : وهذا الرأي هو للمحقق العراقي () .


وقد ذكر السيد الخوئي  ملخّص ما أفاده المحقق العراقي ، وهو أنّ الموجود في الخارج على أنحاء ثلاثة :


 النحو الأول : ما يكون وجوده وجوداً لنفسه : كالجوهر بأصنافه .


 النحو الثاني : ما يكون وجوده في نفسه وجوداً لغيره : كالأعراض التسع التي قد يعبّر عن وجودها بالوجود الرابطي ، وهي على طائفتين :


 إحداهما : ما يحتاج في تحققه الى موضوع واحد في الخارج ويستغنى به : كالكم والكيف ونحوهما .


 والثانية : ما يحتاج في تحققه الى موضوعين ليتقوم بهما : كالعرض الأيني والإضافي وغير ذلك .


النحو الثالث : ما يكون وجوده لا في نفسه : كأنحاء النسب والروابط .


 وعلى ذلك فإنّ الحاجة دعت العقلاء الى وضع الألفاظ التي تدور عليها الإفادة والإستفادة ، وبعد أنْ فحصنا وجدنا أنّهم وضعوا الأسماء للجواهر وعدة من الأعراض ، ووضعوا الهيئات من المركبات والمشتقات للنسب والروابط ، ووضعوا الحروف للأعراض النسبية الإضافية . فكلمة (في) - مثلا - في قولنا : ( زيد في الدار) تدل على العرض الأيني العارض على موضوعه : كزيد ، والهيئة تدل على ربط هذا العرض بموضوعه ، وهكذا . أي : أنّ المعاني منحصرة بالجواهر والأعراض وربطها بمحلها ولا رابع لها . ومن المعلوم أنّ الحروف لم توضع للأولى ، ولا لبعض الأقسام الثانية ؛ لأنّ الموضوع لها الأسماء، ولا للثالثة ؛ لأنّ الموضوع لها الهيئات ، فلا محالة تكون موضوعة للأعراض النسبية الإضافية . فكلمة ( في ) وضعت للأين الظرفي ، وكلمة        ( من) للأين الإبتدائي ، وهكذا ، ولا فرق في ذلك بين أقسام الحروف مطلقاً من الداخل على المركبات الناقصة والداخل على المركبات التامة : كحروف التمني والترجي والتشبيه ونحوها () .


 


مناقشة الخوئي للعراقي


 أشار السيد الخوئي الى أنّ مناقشة رأي المحقق العراقي  تظهر ضمن نقطتين :


 


 الأولى : إنّا نقطع بعدم كون الحروف موضوعة للأعراض النسبية الإضافية ، لصحة إستعمالها فيما يستحيل فيه تحقق عرض نسبي كما في صفات الواجب تعالى والإعتبارات والإنتزاعيات ، فإنّ العرض إنّما هو صفة للموجود في الخارج فلا يعقل تحققه بلا موضوع محقق خارجاً ، وعليه فيستحيل وجوده في تلك الموارد . وكيف كان ، فلا شبهة في فساد هذا القول ، فإنّ صحة إستعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ عناية في شيءٍ منها تكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الموضوع لها المعنى الجامع الموجود في جميع هذه الموارد على نحوٍ واحد ، لا خصوص الأعراض النسبية الإضافية . 


الثانية : إنّ ذلك أفسد من القول السابق ، بل لا يُترقّب صدوره من مثله *


والوجه فيه : هو أنّ للأعراض التسع جميعاً مفاهيم مستقلة بحد ذاتها وأنفسها في عالم مفهوميتها ، من دون فرقٍ بين الأعراض النسبية وغيرها ، وأنّ الأعراض النسبية تتقوم في وجودها بأمرين ، وغير النسبية لا تتقوم إلا بموضوعها ،  فالأعراض جميعاً موجودات في أنفسها وإنْ كان وجودها لموضوعاتها ؟


 وقد تلخص من ذلك : إنّ الحروف والأدوات لم توضع للأعراض النسبية الإضافية، بل الموضوع لها هي الأسماء : مثل كلمة ( الظرفية ) و ( الإبتداء) و  (الإستعلاء ) ونحوها  . 


وأما ما ذكره المحقق العراقي في معاني الهيئات وأنّها موضوعة لأنحاء النسب والروابط ()، فقد أورد السيد الخوئي عليه ما يأتي : 


1ـ عدم الدليل على وجود النسبة في الخارج في مقابل وجود الجوهرأو العرض .


2ـ عدم وضع اللفظ لها .


3ـ عدم ثبوتها في جميع موارد إستعمالاتها .


 


ونتيجة عرض الأقوال المتقدمة في المعاني الحرفية : ظهر بطلان جميع الأقوال والآراء التي سبقت ، وعدم إمكان المساعدة على واحدٍ منها . وهذا الأمر هو الذي أوجب على السيد الخوئي أنْ يختار رأياً آخر في مقابل هذه الآراء () .


 


الرأي السادس : نظرية التحصيص في المعنى الحرفي


 


لا شبهة ولا كلام في أنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقة ، ولا إشتراك لهما في طبيعي معنى واحد . وإنّما الكلام من ناحية اخرى ، وهي : ما هي المعاني الحرفية التي تباين الإسمية بتمام الذات ؟ 


ذكر السيد الخوئي () أنّ الحروف على قسمين : 


القسم الأول : ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الأفرادية : أمثال : (من) و( إلى) و(على) ونحوها . 


القسم الثاني : ما يدخل على المركبات التامة ومفاد الجملة : كحروف النداء  والتشبيه والتمني والترجي وغير ذلك .


أما القسم الأول ـ أي ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الأفرادية ـ  فهو موضوع لتضييق المفاهيم الإسمية في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيودٍ خارجةٍ عن حقائقها ، ومع هذا لا نظر لها الى النسب والروابط الخارجية ، ولا الى الأعراض النسبية الإضافية ، فإنّ التحصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى ، سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن . 


وتوضيح ذلك : إنّ المفاهيم الإسمية بكليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها قابلة للتقسيمات الى ما لا نهاية بإعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها ، ولها إطلاق وسعة بالقياس الى هذه الحصص أو الحالات ، سواء أكان الإطلاق بالقياس الى الحصص المنوّعة : كإطلاق الحيوان - مثلا - بإضافته الى أنواعه التي تحتها ، أم بالقياس الى الحصص المصنّفة أو المشخصّة : كإطلاق الإنسان بالنسبة الى أصنافه أو أفراده ، أم بالقياس الى حالات شخصٍ واحد من : كمّه وكيفه* وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مرّ الزمن . ومن البديهي أنّ غرض المتكلم في مقام التفهيم والإفادة كما يتعلق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بتفهيم حصةٍ خاصةٍ منه ، فيحتاج - حينئذٍ - الى مُبرز لها في الخارج . وبما أنّه لا يمكن أنْ يكون لكل واحدٍ من الحصص أو الحالات مبرزا مخصوصا ؛ لعدم تناهي الحصص والحالات ، بل عدم تناهي حصصٍ أو حالات معنى واحد فضلاً عن المعاني الكثيرة ، فلا محالة يحتاج الواضع الحكيم الى وضع ما يدل عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلم تفهيمها ، وليس ذلك إلا الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالة على النسب الناقصة : كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة والتوصيف . فكل متكلمٍ متعهّد في نفسه بأنّه متى ما قصد تفهيم حصةٍ خاصةٍ من معنى أنْ يجعل مُبرِزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه على نحو القضية الحقيقية ، لا بمعنى أنّه جعل بإزاء كل حصةٍ أو حالةٍ حرفاً مخصوصاً أو ما يحذو حذوه بنحو الوضع الخاص والموضوع له الخاص ؛ لأنّه غير ممكنٍ من جهة عدم تناهي الحصص . فكلمة ( في ) في جملة ( الصلاة في المسجد حكمها كذا ) تدل على أنّ المتكلم أراد تفهيم حصة خاصة من الصلاة ، وفي مقام بيان حكم هذه الحصة لا الطبيعة السارية الى كل فرد . وأما كلمتي (الصلاة ) و ( المسجد) فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللّا بشرط ، بدون أنْ تدلا على التضييق والتخصيص أصلا .


 ومن هنا كان تعريف الحرف :  بما دلّ على معنى قائم بالغير() ، من أجود التعريفات وأحسنها ، وموافقاً لما هو الواقع ونفس الأمر ، ومطابقاً لما ارتكز في الأذهان من أنّ المعنى الحرفي خصوصية قائمة بالغير وحالة له ().


 وينبغي أن يُشار الى أنّ هذا التعريف هو التعريف المختار للحرف عند المحقق العراقي أيضاً () .


 


وأما القسم الثاني من الحروف ( أي ما يدخل على المركبات التامة ، أو ما في حكمها كمدخول حرف النداء ) : فإنّه وإنْ كان مفرداً إلا أنّه يفيد فائدة تامة ، فحاله حال الجمل الإنشائية ؛ لأنّ من المعلوم أنّ الجمل على قسمين :


الأول : إنشائية : والمشهور بين الأصوليين () : إنّها موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج ، ومن هنا فسّروا الإنشاء بإيجاد ما لم يوجد . 


 والثاني : خبرية : والمشهور بينهم أيضا : إنّها موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه () .


 والصحيح على ما ذهب إليه جماعة () منهم السيد الخوئي : إنّ الجملة الإنشائية لم توضع لإيجاد المعنى وإنّما وضعت للدلالة على قصد المتكلم إبراز أمرٍ نفساني غير قصد الحكاية عند إرادة تفهيمه . والجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن الواقع ثبوتاً أو نفياً .


 فالجملة الإنشائية وضعت للدلالة عندما يقصد المتكلم إبراز أمر نفساني وإرادة تفهيمه وليس المراد بها قصد الحكاية ، فحروف النداء مثل ( يا ) وضعت لإبراز قصد النداء وتوجيه المخاطب إليه ، وحروف الإستفهام موضوعة لإبراز طلب الفهم ، وحروف التمنّي موضوعة لإبراز التمنّي ، وحروف الترجّي موضوعة لإبراز الترجّي ، وكذا حروف التشبيه ونحوها. 


 إنّ وضع هذا القسم من الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلك السيد الخوئي في مسألة الوضع ؛ فإن لازم القول بالتعهّد والالتزام هو تعهّد كل متكلمٍ بأنه متى ما قصد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظٍ مخصوص ، فاللفظ مفهم له ودال على أنّه أراد تفهيمه به ، فلو قصد تفهيم ( التمني ) يتكلم بلفظ خاص ، وهو : كلمة ( ليت ) ، ولو قصد تفهيم ( الترجي ) يتكلم بكلمة ( لعلّ) ، وهكذا ، فالواضع تعهّد ذكر هذا القسم من الحروف عند إرادة إبراز أمرٍ من الأمور النفسانية من التمنّي والترجّي ونحوهما .


 


والنتيجة التي ينتهي اليها السيد الخوئي هي : إنّ حال القسم الثاني من الحروف حال الجمل الإنشائية ليست موضوعة لتحصيص المعاني الإسمية ، كما أنّ القسم الأول منها حاله حال الهيئات الناقصة بكونها موضوعة لتحصيص المعاني الإسمية () .


علاقة نظرية التحصيص بنظرية التعهّد 


نبّه السيد الخوئي الى أنّ رأيه هذا في المعاني الحرفية من نتائج وثمرات مسلك التعهّد في مسألة الوضع ، فإنّ القول بالتعهّد لا محالة يستلزم وضع المعاني الحرفية للتحصيص ؛ فإنّ الغرض قد يتعلق بتفهيم الطبيعي ، وقد يتعلق بتفهيم الحصة ، والمفروض أنّه لا يكون على الحصة دالٌ ما عدا الحروف وتوابعها ، فلا محالة يتعهّد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصة خاصة . فلو قصد تفهيم حصة من طبيعي الماء - مثلا - كماء له مادة أو ماء البئر يبرزه بقوله : ( ما كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة ) أو ( ماء البئر معتصم ) فـ (اللام ) في الأول وهيئة الإضافة في الثاني تدلان على أنّ المراد من الماء ليس هو الطبيعة السارية الى كل فرد ، بل خصوص حصة منه . ولا فرق في ذلك بين أنْ تكون الحصص موجودة في الخارج أو معدومة ، ممكنة كانت أو ممتنعة .


وبما أنّ الأغراض تختلف بإختلاف الأشخاص والأزمان والحالات فالمستعملين بمقتضى تعهّداتهم النفسانية يتعهّدون أنْ يتكلموا بالحروف أو ما يشبهها عند تعلق أغراضهم بتفهيم حصص المعاني وتضييقاتها . فلو أنّ أحداً تعلق غرضه بتفهيم الصلاة الواقعة بين زوال الشمس وغروبها يبرزه بقوله : ( الصلاة فيما بين الحدين حكمها كذا ) ، وهكذا () . 


وعليه يتبيّن : أنّ المفاهيم الاسمية وإنْ كان بعضها أوسع من بعضها الآخر ، فمفهوم الممكن أوسع من مفهوم الوجود ، وهو أوسع من مفهوم الجوهر ، وهكذا إلى أنْ ينتهي إلى مفهوم لا يكون تحته مفهوم آخر ، ولكل واحدٍ منها لفظ مخصوص يدل عليه عند الحاجة إلى تفهيمه - إلا أنّ حصصها أو حالاتها غير المتناهية لم توضع بإزاء كل واحدةٍ منها لفظ خاص كي يدل عليها عند الحاجة ؛ وذلك لعدم تناهيها ، فنتساءل : ما الذي يوجب إفادتها في الخارج ؟ وليس ذلك إلا الحروف أو ما يشبهها ؛ لأن الواضع تعهّد بذكر حرف خاص عند قصد تفهيم حصة خاصة من المعنى ، ففي كل مورد قصد ذلك جعل مُبرزه حرفاً من الحروف على إختلاف الموارد والمقامات ().


 


نتيجة البحث في المعاني الحرفية


لخّص السيد الخوئي ما تعرّض اليه من بحثٍ وتحقيقٍ في المعاني الحرفية في أمور، هي : 


الأمر الأول : إنّ المعاني الحرفية تباين الاسمية ذاتاً ، ولا إشتراك لهما في طبيعي معنى واحد ، فإنّها متدليات بها بحد ذاتها ، وهي مستقلات في أنفسها ، ولا جامع بين الأمرين أصلاً .


الأمر الثاني : إنّ معانيها ليست بإيجادية ، ولا بنسبة خارجية ، ولا بأعراض نسبية إضافية ، بل هي : عبارة عن تضييقات نفس المعاني الإسمية في عالم المفهومية وتقييداتها بقيودٍ خارجةٍ عن حقائقها ، بلا نظر إلى أنّها موجودة في الخارج أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة ؛ ومن هنا يكون إستعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسقٍ واحدٍ .


 والذي دعى السيد الخوئي إلى إختيار هذا الرأي أربعة أسباب :


 السبب الأول : بطلان سائر الأقوال والآراء .


 السبب الثاني : إنّ هذا المعنى مشترك فيه بين جميع موارد إستعمال الحروف من الواجب والممكن والممتنع على نسقٍ واحد ، وليس في المعاني الأخرى ما يكون كذلك . 


 السبب الثالث : ما تبنّاه في باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع هي التعهّد والتباني ينتج الإلتزام بذلك القول لا محالة ؛ ضرورة أنّ المتكلم إذا قصد تفهيم حصةٍ خاصةٍ فبأي شيءٍ يُبرزه ؟ إذ ليس المُبرز له إلّا الحرف أو ما يقوم مقامه () .


 السبب الرابع : موافقة ذلك للوجدان ، ومطابقته لما إرتكز في الأذهان ، فإنّ  الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى ، غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها ، وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم إمكانها () .


 ودعوى المحقق النائيني : إعمال العناية في جميع ذلك () يكذّبها صريح الوجدان والبداهة ، فهذا يكشف قطعياً عن أنّ الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره .


 الأمر الثالث : إنّ معانيها جميعاً حكائية ، ومع ذلك لا تكون إخطارية ؛ لأنّ ملاك إخطارية المعنى الإستقلالية الذاتية في عالم المفهوم والمعنى ، وهي غير واجدةٍ لذلك الملاك ، وملاك حكائية المعنى نحوٌ من الثبوت في عالم المعنى وهي واجدة له ، فلا ملازمة بين عدم كونها إخطارية وكونها إيجادية كما عن المحقق  النائيني () .


الأمر الرابع : في نقاط الإمتياز بين رأي السيد الخوئي وسائر الآراء : 


أولاً : يمتاز رأي السيد الخوئي عن رأي المحقق النائيني ـ الذي ذهب الى أنّ معاني الحروف إيجادية ـ  في نقطة واحدة ، وهي : إنّ المعنى الحرفي على رأيه ليس له واقع في أيّ وعاءٍ ، ما عدا التراكيب الكلامية . 


وأما على رأي السيد الخوئي فله واقع ، وهو عالم المفهوم وثابت فيه كالمعنى الإسمي ، غاية الأمر بثبوتٍ تعلقي لا إستقلالي .


ثانياً : ويمتاز عن رأي المحقق محمد حسين الأصفهاني ـ القائل بأنّ الحروف وضعت بإزاء النسب والروابط ـ في نقطة واحدة أيضا ، وهي : إنّ المعنى الحرفي على هذا الرأي سنخ وجودٍ خارجي ، وهو وجود لا في نفسه ، ولذا يختص بالجواهر والأعراض ، ولا يعمّ الواجب والممتنع . 


وأما على رأي السيد الخوئي : فالمعنى الحرفي سنخ مفهومٍ ثابت في عالم المفهومية ، ويعمّ الواجب والممكن والممتنع على نسقٍ واحدٍ .


ثالثاً : ويمتاز عن رأي المحقق العراقي ـ وهو أنّ الموضوع لها الحروف هي الأعراض النسبية ـ في نقطتين : 


النقطة الأولى : إنّ المعنى الحرفي على رأي المحقق العراقي مستقل بالذات ، وأما على رأي السيد الخوئي : فهو غير مستقلٍ بالذات . 


النقطة الثانية : إنّ المعنى الحرفي على رأي المحقق العراقي سنخ معنى يخص الجواهر والأعراض ، ولا يعمّ غيرهما ، وأما على رأي السيد الخوئي : فهو سنخ معنى يعمّ الجميع () .


 


مناقشة الصدر  للخوئي


ناقش السيد محمد باقر الصدر( ت : 1400هـ) رأي السيد الخوئي بالتحصيص في وضع الحروف بما ملخّصه : إنّ تحصيص مفهومٍ إسمي بلحاظ مفهومٍ إسمي آخر لا يعقل أنْ يكون إلا بلحاظ إفتراض نسبة بين المفهومين بحيث يقع احد المفهومين طرفاً لنسبةٍ مع المفهوم الاخر- من قبيل ‏نسبة الظرفية بين النار والموقد- ويصبح بذلك حصة خاصة من النار، وينشأ ضيق في دائرة انطباقه يوجب إمتناع إنطباقه على الفاقد للنسبة ، وما لم تفرض في المرتبة السابقة نسبة بين ‏مفهومين لا يعقل أنْ يتضيق أحدهما بلحاظ الآخر() .


ثم أخذ السيد الصدر ببيان الإحتمالات المتوقعة في المقام وهما إحتمالان  :


الاحتمال الأول : إن اُريد بالوضع للتحصيص كون الحرف موضوعاً لما هو ملاك التحصيص أي النسب التي بها تتحصص المفاهيم الإسمية ‏بعضها بالبعض الآخر فهذا نفس المدّعى بالقول بالنسبية في وضع الحروف *وليس شيئاً آخر .


الاحتمال الثاني : وإنْ اُريد كون الحرف موضوعا لنفس التحصيص، فيرد عليه : اولا : إنّ التحصيص والضيق لمّا كان في طول أخذ نسبةٍ بين المفهومين لا محالة فلا بدّ من دال على تلك النسبة ، فإنّ لم يكن هناك دال عليها بقي المدلول ناقصاً ، وحيث لا يتصور دال غير الحرف فيتعين كون الحرف دالاً عليها ، ومعه يكتمل مدلول الكلام ولا معنى لأخذ التحصيص في مدلول الحرف حينئذ . 


 


وثانيا : إنّ التحصيص في طول النسبة ومما يستتبعه المعنى الحرفي لا أنّه بنفسه المعنى الحرفي وفي طول المعنى الحرفي ، ولهذا نجد أنّه ليس مساوقاً مع جميع المعاني الحرفية‏ بل أنّ بعض المعاني الحرفية لا يشمل على التحصيص وهذا شاهد على عدم امكان دعوى كون الحروف موضوعة للتحصيص ابتداءً ، كما في معاني حرف العطف والإستثناء والتفسير والإضراب . فمثلا في حرف العطف حينما يقال : (جاء إنسان وحصان) لا يدل الواو على الحصة الخاصة .


فإنْ توهم : إنّه أيضا يدل على التحصيص وإنّ الجائي هو الحصة الخاصة من ‏الإنسان المقترنة بالحصان ، قلنا فماذا يُقال في مثل قولنا : (( الحرارة والبرودة لا تجتمعان )) فإنّه من الواضح أنّ المقصود من هذا الكلام ليس أنْ نقول : إنّ الحصة الخاصة منهما لا تجتمعان فأين‏ التحصيص ؟ وكذلك في مثل قولنا : ((أكرم العشرة إلا واحداً )) فإنّ مفهوم العشرة لم يكن تحته حصتان إحداهما التسعة والأخرى التسعة زائداً واحد ليكون الحرف دالاً على تحصيصه‏     الأولى () . 


أما بخصوص علاقة القول بالتحصيص في وضع الحروف مع مبنى السيد الخوئي من التعهّد في وضع الألفاظ ، فقد ذكر السيد الصدر ما نصّه : ( إنّه لا إرتباط بين البحثين‏ بوجهٍ ؛ لأنّ المبحوث عنه في المقام هو الفارق بين ما هو المدلول التصوري للحروف والأسماء وأنّهما من سنخ واحدٍ أو سنخين سواء أكانت حقيقة الوضع تخصيص اللفظ بأزاء نفس هذا المدلول التصوري أو الإلتزام بقصد تفهيم ذلك المعنى للغير. وكما أنّ التعهّدات العقلائية لا بدّ أنْ تكون مستوعبة ووافية بإشباع كل الحاجات اللغوية كذلك حكمة الوضع تقتضي إشباعها على حدٍ واحد . و بتعبيرٍ آخر: إنّ الخلاف في حقيقة الوضع بين أصحاب التعهّد وأصحاب الإعتبار ليس في تشخيص حكمة الوضع وإنّ الغرض من الإعتبار تمكين المستعمل من حاجته ، بل في أنّ طريق ‏سد هذه الحاجة ما هو؟ فإذا كانت الحاجة تقتضي جعل ما يدل على الحصة الخاصة فهذا ما يقتضي الوضع لذلك مهما كان معنى الوضع ) ().


 


 


 


الوضع في الحروف حسب نظرية التحصيص


يرى السيد الخوئي أنّ الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص وفاقاً للمشهور ، بخلاف المحقق الآخوند الذي يرى أنّ الوضع فيها عام والموضوع له عام أيضا () . 


والسبب في ذلك :


أما في القسم الأول من الحروف ( ما يدخل على المركبات الناقصة والمعاني الأفرادية ) ؛ فلأنّها لم توضع بإزاء مفاهيم التضييقات والتحصصات ،لأنّها من المفاهيم الإسمية الإستقلالية في عالم مفهوميتها ، بل لواقعها وحقيقتها - أي ما هو بالحمل الشائع - تضييق وتحصص ، ومفاهيمها ليست بهذا الحمل تضييقاً وإنْ كان كذلك  بالحمل الأولي الذاتي . نعم ، لا بدّ من أخذ تلك المفاهيم بعنوان المعرّف والآلة للحاظ أفرادها ومصاديقها إجمالاً حتى يمكن الوضع بإزائها . 


وهذا يعني : إنّه كما لا يمكن أنْ يكون وضعها خاصاً كالموضوع له ـ لأنّ حصص المعنى الواحد غير متناهية ، فضلاً عن المعاني الكثيرة ، فلا يمكن تصور كل واحدٍ منها على وجه التفصيل - كذلك لا يمكن أنْ يكون الموضوع لها عاماً كالوضع ، فإنّه لا يعقل ذلك إلّا أنْ توضع لمفاهيم الحصص والتضييقات ، والمفروض أنّها من المفاهيم الإسمية ، وليست من المعاني الحرفية في شيءٍ ، ولا جامع مقولي بين أفراد التضييق وأنحائه لتوضع بإزائه ، فلا بدّ - حينئذٍ - من أنْ نلتزم بكون الموضوع له فيها خاصاً والوضع عاماً ، بأنْ نقول : إنّ كل واحدٍ من هذه الحروف موضوع لسنخ خاص من التضييق في عالم المعنى ، فكلمة ( في) لسنخٍ من التضييق ، وهو سنخ التضييق الأيني ، وكلمة (على) لسنخ آخر منه ، وهو سنخ التضييق الإستعلائي ، وكلمة (من) لسنخ ثالثٍ منه ، وهو سنخ التضييق الإبتدائي ، وهكذا سائر هذه الحروف .


 ولذا يستظهر السيد الخوئي : أنّ الموضوع له في الهيئات الناقصة كهيئات المشتقات ، وهيئة الإضافة والتوصيف يكون الوضع فيها عاماً والموضوع له خاصاً ، لعدم الفرق بينهما () . 


وأما القسم الثاني من الحروف  ( ما يدخل على المركبات التامة ومفاد الجملة: كحروف النداء  والتشبيه والتمنّي والترجّي وغير ذلك) فالوضع فيها عام و الموضوع له خاص ؛ ضرورة أنّ الحروف في هذا القسم لم توضع لمفهوم التمنّي والترجّي والتشبيه ونحوه ، لأنّها من المفاهيم الإسمية الإستقلالية على أنّ لازمه أنْ تكون كلمة ( لعلّ ) مرادفة للفظ ( الترجي ) ، وكلمة ( ليت ) مرادفة للفظ ( التمنّي) ، وهو باطل يقيناً . كما أنّها لم توضع بإزاء مفهوم إبراز هذه المعاني ، فإنه أيضا من المفاهيم الاسمية ، بل وضعت لما هو بالحمل الشائع إبرازاً للتمنّي والترجي والإستفهام ونحو ذلك ، ولا جامع ذاتي بين مصاديق الإبراز وأفراده ليكون موضوعاً بإزاء ذلك الجامع ، ولأجل ذلك في هذا القسم أيضا يكون الموضوع له خاصاً والوضع عاماً ، بمعنى : أنّ الواضع تصور مفهوماً عاماً : كإبراز التمني مثلاً فوضع كلمة ( ليت ) بإزاء أفراده ومصاديقه ، وتعهّد بأنّه متى ما قصد تفهيم التمنّي يتكلم بكلمة ( ليت ) ().


 


ويمكن للباحث تلخيص ما ذكره السيد الخوئي (قده) حول نظريته في أنّ المعنى الحرفي موضوع لإفادة التضييق في المفاهيم الإسمية عن طريق ذكر مقدمات لتلك النظرية :


المقدمة الأولى : إنّ الحروف قسمان : 


القسم الأول : ما يدخل في المركبات الناقصة مثل ( زيد على السطح ) .


القسم الثاني : ما يدخل في المركبات التامة مثل ( ألا ليت الشباب يعود يوماً *).


المقدمة الثانية : إنّ المفاهيم الإسمية كأسماء الأجناس والأعلام وسيعة بسعة أفرادها وحالاتها .


المقدمة الثالثة : إنّ غرض المتكلم قد يتعلّق بفهم خصوصيات المعنى وقد يتعلّق بفهم المعنى على عمومه ، فقد يقال : الصلاة في المسجد أفضل ، فيفيد حصة خاصة من الصلاة ، وقد يقصد طبيعي الصلاة فيقال : الصلاة خير عبادة .


ويترتب على هذه المقدمات أنّه بحسب رأيه في الوضع وهو نظرية التعهّد ، إنّ القسم الأول من الحروف وهو المركبات الناقصة موضوعة لتضييق المعاني الإسمية ، بينما القسم الثاني موضوعة لإبراز ما في النفس من المعنى .


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                                   المبحث الثاني 


                                     الإطلاق    


 


من معالم البحث الأصولي للسيد الخوئي أنّه بيّن أنّ الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس مدلولاً لفظياً ، بل دلالته ناشئة عن مقدمات الحكمة وهي عقلية وليست لفظية ، وبالتالي يكون الإطلاق غير مؤهّلٍ للتعارض مع العام ()،  بخلاف ما يُنسب الى المشهور من أنّ الإطلاق جزء مدلول اللفظ ، فلا نحتاج في إستكشاف الإطلاق الى مقدمات الحكمة () ، كما أنّ السيد الخوئي ذهب الى رأي جديد في التقابل بين الإطلاق والتقييد  ولبيان هذه المسألة  ينبغي التعرض إلى حقيقة الإطلاق في اللغة والإصطلاح ، وأقسامه ، وبيان مقدمات الحكمة في  كلمات الاصوليين ، ومختار السيد الخوئي في المقام ؛ ولذا إنتظم المبحث في خمسة مطالب : 


 


المطلب الاول : الإطلاق لغةً واصطلاحاً


 


الإطلاق لغةً : الإطلاق مصدر أطلق بمعنى التخلية والإرسال ، يقال : أطلقت الأسير إذا حللت إساره وخلّيت عنه ، ومنه طلاق المرأة ؛ وذلك أنّهم يقولون للزوجة إنّها في حبال الزوج ، فإذا فارقها قيل : طلّقها كأنّه قطع حبلها ، وكذا إطلاق الناقة بمعنى إرسالها وتركها في المرعى ترعى حيث شاءت ، ومن المجاز إستعماله في اللفظ والكلام بمعنى عدم تقييده بشيء ، يقال : أطلقت القول إذا أرسلته من غير قيدٍ ولا شرط ()  .


 


أما الإطلاق اصطلاحاً : فهو ما دلّ على شايع في جنسه (). 


والإطلاق عند مشهور الأصوليين قبل سلطان العلماء  ( ت 1064 هـ )هو: الماهية المقيدة بالشيوع والسريان () ، والإطلاق في القول : هو أنْ يصدر الكلام من المتكلم من دون قيدٍ أو شرط ، مثل قولهم : ( إعتق رقبة ) ، إذ أنّ    ( الرقبة ) مطلقة غير مقيدةٍ بشيء ، ويقال لهذا الكلام : ( كلام مطلق ) . ويقابل الإطلاق التقييد ، وهو صدور الكلام مقيداً ومشروطاً ، مثل قولهم : ( أعتق رقبةً مؤمنةً )، إذ تكون الرقبة مقيّدة بالإيمان ، ويقال لهذا الكلام :                ( كلام مقيّد ) () . 


 


أما السيد الخوئي فقد ذكر أنّ معنى الإطلاق هو : تصوّر الموضوع أو المتعلق مع لحاظ عدم خصوصيةٍ من الخصوصيات ورفضها تماماً () .وأنّ المراد من الإطلاق اصطلاحاً هو معناه اللغوي () .


 


 أما الفرق بين العام والمطلق ، فالعام : هو ما دلّ على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله ، والمطلق : هو المرسل الذي لم يقيّد بشيء في مقابل المقيّد الذي هو مقيّد به ، أي أنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخلها في الحكم .   


ودلالة العام على العموم تكون بالوضع ومستفادة من أدوات العموم ، ودلالة المطلق على العموم مستفادة من مقدمات الحكمة () .


 


 


 


 


 


 


المطلب الثاني : أقسام الإطلاق


 


ذكر الأصوليون أنّ للإطلاق أقساماً عدّة ، وهي : 


1-  الإطلاق الشمولي والبدلي 


 فالإطلاق الشمولي : هو الذي يدل على إستيعاب وشمول جميع أفراد المطلق ، مثل : قوله تعالى : (... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...) () ، فإنّ الإطلاق في (الْبَيْعَ) شمولي ؛ لأنّه يشمل جميع أفراد البيع ويستوعبها . وكذا في مثل ( أكرم العالم ) ، فإن الإطلاق بلحاظ أفراد العالم إطلاق شمولي ، فيجب إكرام كل مَنْ صدق عليه عنوان ( العالم ) ، ومثله : ( لا تكذب ) . 


والإطلاق البدلي : هو الذي يدل على فردٍ واحدٍ من بين جميع الأفراد ، لكن على نحو البدل ، مثل : ( إعتق رقبة ) ، فإنّ ذلك دال على لزوم عتق رقبةٍ واحدةٍ من بين الرقاب على نحو البدل ، ومثله : ( أكرم عالماً ) . هذا ، ويمكن أنْ يكون للكلام الواحد إطلاقان ، فيكون له إطلاق شمولي من جهةٍ ، وإطلاق بدلي من جهةٍ أخرى . ففي مثال : ( أكرم العالم ) المتقدم ، يمكن أنْ نفرض للكلام إطلاقاً بدلياً أيضاً ؛ لأنّ للإكرام حالات مختلفة ، فيمكن أنْ يكون بالإطعام ، أو بإرسال هديةٍ ، أو رسالةٍ ، أو غير ذلك ، ولمّا لم يجب الإكرام بجميع أنواعه قطعاً ، فيكتفى بنوعٍ واحد . فالإطلاق في موضوع المثال المتقدم - أي العالم - إطلاق شمولي ، وإلى متعلقه - أي الإكرام - إطلاق بدلي () .


وذكر المحقق الآخوند ما حاصله : إنّ مقتضى مقدمات الحكمة يختلف بإختلاف المقامات ، فتارةً تقتضي هذه المقدمات العموم الشمولي والإستغراقي ، وتارة العموم البدلي ، وذلك بحسب إختلاف القرائن الحالية والمقالية () . 


ويُشار إلى أنّه قد ذكرت توجيهات عدّة  لما ذكره المحقق الآخوند () . 


 


 2 – الإطلاق اللفظي والمقامي


وينقسم الإطلاق أيضا على قسمين لفظي ومقامي :


 فالإطلاق اللفظي : هو الإطلاق المستفاد من أنّ كلّ متكلمٍ يكون في مقام بيان تمام مراده باللفظ ، فإذا لم يذكر قيداً في كلامه عُلم منه أنّه أراد الإطلاق ، مثل:(...وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ...)() ، و( أكرم العالم ) ، و( أعتق رقبة )، ونحوها .


 وأما الإطلاق المقامي : فهو الإطلاق المستفاد من كون المتكلم في مقام بيان جميع أجزاء الواجب المركب مثلا ، فإذا أقتصر على ذكر بعض الأمور ولم يذكر غيرها مما شككنا في كونه جزء ً لذلك الواجب ، اقتضى الإطلاق المقامي عدم وجوبه . ومعرفة أنّ المتكلم بصدد بيان تمام حقيقة المركب وبيان أجزائه ، لا بدّ أنْ يُستفاد من دالٍ آخر غير ما تقدم في الإطلاق اللفظي الذي كان يستفاد  فيه ذلك من ظهور حال المتكلم في كونه بصدد بيان تمام مراده ؛ لأنّ صرف تعداد بعض أجزاء المركب ليس له ظهور في أنّ المتكلم بصدد بيان جميع جزئياته ، وإنّما يحتاج في ذلك إلى دالٍ آخر ، كقرينةٍ حاليةٍ أو لفظيةٍ أو غيرهما(). ومثال الإطلاق المقامي : ما جاء في صحيحة حماد بن عيسى ، إذ أمره الإمام الصادق  الصلاة فلم يحسنها ، فقام  فوقف فصلى ، وبذلك أتى بكل ما يجب في الصلاة () ، فإنّه  كان بصدد بيان ماهية الصلاة - وهذا ما إستفدناه من المحاورة التي جرت بين الإمام  وبين حمّاد - فلذلك لو شككنا في جزئية شيءٍ في الصلاة ولم يرد ذلك في صحيحة حماد فنتمسك بالإطلاق المقامي لدفع إحتمال جزئيته () . 


 


3 - الإطلاق الأفرادي والأحوالي 


إن الإطلاق قد يُلحظ إلى الأفراد ، وقد يُرى بالنسبة إلى حالات الأفراد ، بل حالات فردٍ واحدٍ . فالأول هو الإطلاق الأفرادي ، والثاني هو الإطلاق الأحوالي . مثال الأول : ( إعتق رقبة ) ، أو ( أكرم العالم ) ، ونحو ذلك . ومثال الثاني : ( أكرم زيداً ) ،  ف( زيد ) لا إطلاق له من حيث الأفراد ، لأنّه علم شخصي فهو واحد ، لكن له إطلاق أحوالي ، فالمطلوب إكرامه في جميع حالاته ، سواء أكان في السفر أم في الحضر ، أو كان معتمّاً - أي لابس العمّة - أو لا ، وقد يجتمع الإطلاقان في موردٍ واحدٍ ، مثل : ( إعتق رقبة ) ، فإنّ له إطلاقاً أفرادياً ، كما تقدم آنفاً ، وله إطلاق أحوالي ، أي مهما كان حال الرقبة ، سواء أكانت مؤمنةً أم كافرةً ، صحيحةً أو سقيمةً ، ونحو ذلك () . 


 وإنّ الإطلاق تارةً يكون في الحكم وتارةً في الموضوع وأخرى في المتعلق :


 أما الإطلاق الذي يكون في الحكم ، فمثل قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ...)()، فإنّ الوجوب المستفاد من ( أَقِيمُوا ) مطلق غير مقيّدٍ بخلاف المشروط بشيءٍ ، مثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا )() ، فإنّ الوجوب مقيّد بدلوك الشمس ، أي زوالها ، وهو المعبّر عنه ب( الواجب المشروط ) مقابل (الواجب المطلق ) .


 وأما الإطلاق الذي يكون في الموضوع ، فمثل : ( يجب عليك عتق رقبة ) ، فالموضوع هو المكلف المشار إليه بالضمير - كاف الخطاب - وهو مطلق وإطلاقه أحوالي ، أي سواء أكان مسافراً أم حاضراً ، أو كان صحيحاً أو سقيماً ، وهكذا  وأما الإطلاق الذي يكون في المتعلق ، فمثل : ( إعتق رقبة ) في المثال المتقدم ، فإنّها مطلقة من حيث الأفراد والأحوال () .


 


المطلب الثالث : مقدمات الحكمة


 


 ذكر الأصوليون مقدمات الحكمة على النحو الآتي  :


 المقدمة الأولى : أنْ يكون المتكلم متمكناً من التقييد وعدمه


 من مقدمات الحكمة التي إعتمدها السيد الخوئي : قدرة المتكلم على الإطلاق والتقييد والإتيان بالقيد ؛ وإلّا فلا يكون لكلامه إطلاق في مقام الإثبات ، حتى يكون كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت () . 


وبيان ذلك : إنّ الإطلاق والتقييد تارة يلحظان في مقام الواقع والثبوت ، وتارة في مقام الإثبات والدلالة :


1- أما في مقام الثبوت ، فالمتكلم إما أنْ يريد الإطلاق أو التقييد ، ولا ثالث لهما ، فاستحالة التقييد عند السيد الخوئي تستلزم ضرورة الإطلاق أو التقييد بغيره لاستحالة الإهمال في الواقع ، خلافاً لشيخه النائيني الذي يرى أنّ المورد إذا لم يكن قابلاً للتقييد لم يكن قابلاً للإطلاق ().


 2- وأما في مقام الإثبات : فإنْ تمكّن المتكلم من البيان وكان في مقامه ومع ذلك لم يأت بقيدٍ في كلامه ، كان إطلاقه في هذا المقام كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت ، وأنّ مراده في هذا المقام مطلق ، وإلا لكان عليه البيان . وأما إذا لم يتمكن من الإتيان بقيدٍ في مقام الإثبات ، فلا يكشف إطلاق كلامه في هذا المقام عن الإطلاق في ذاك المقام والحكم : بأنّ مراده الجدي في الواقع هو الإطلاق ؛ لوضوح أنّ مراده لو كان في الواقع هو المقيّد لم يتمكن من بيانه والإتيان بقيد . إذن إطلاق الكلام في مقام الإثبات لا يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت (). 


وبناءً على هذا فاستحالة التقييد تستلزم إستحالة الإطلاق ، وبالعكس .


 


المقدمة الثانية : أنْ يكون المتكلم في مقام البيان


وهذه المقدمة إتفق عليها علماء الأصول من الإمامية () ، فإنّ المتكلم تارة يكون في مقام الإهمال والإجمال* ، وتارة يكون في مقام البيان من جهةٍ خاصة ، والإهمال من جهةٍ أخرى . فإنْ كان المتكلم في مقام الإهمال والإجمال وليس بصدد بيان الخصوصيات -  كأكثر الخطابات الواردة لبيان أصل التشريع مثل:  ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ...) () ونحوهماـ فلا يصح التمسك بإطلاق الكلام لنفي شرطٍ أو قيد ، بأنْ يقال : (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) مطلق فإنْ شككنا في إشتراط طهارة لباس المصلي أو مكانه فنتمسك بإطلاق الآية لنفي الشرطية ؛ لأنّ الآية ليست في مقام بيان شروط وقيود المأمور به - أي الصلاة - كي يدل عدم ذكرها على إرادة الإطلاق ، بل الآية في مقام بيان أصل التشريع ، فهي أهملت ذكر القيود بالكلية . 


وإنْ كان المتكلم في مقام الإهمال من جهة وفي مقام البيان من جهة أخرى ، أمكن التمسك بالإطلاق من تلك الجهة التي يكون فيها في مقام البيان مثل قوله تعالى : (... فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ... ) ()، فإنّ الآية واردة لبيان حلّية ما يصطاده الكلب المعلّم ، وليست واردة لبيان طهارة محل عضّ الكلب ونجاسته ، فلذلك لو شككنا في إشتراط كون العضّ في موضع الحلقوم في الحلّية ، جاز أنْ نتمسك بإطلاق الآية ونقول بعدم الاشتراط ؛ لأنّ الآية كانت بصدد بيان هذه الجهة - أي الحلّية - ولم تذكر هذا القيد . بخلاف ما لو شككنا في طهارة موضع العضّ ، فلا يصح أنْ نتمسك بالآية لإثبات الطهارة ؛ لعدم كون الآية بصدد بيان هذه الجهة . 


وأما إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهاتٍ عدة ، فيجوز التمسك بإطلاق كلامه فيها جميعاً . أمثال الروايات الواردة في بيان خصوصيات الواجبات والمحرمات ونحوهما . 


وذكر السيد الخوئي : أنّ المراد من كونه في مقام البيان ، ليس كونه في مقام البيان من جميع الجهات ؛ ضرورة أنّ مثل ذلك لم يتفق في الآيات والروايات ، ولو إتفق لكان نادراً ، بل المراد أنْ يلقي كلامه على نحو ينعقد له ظهور في الإطلاق ، ويكون حجة على المخاطب على سبيل القاعدة ().


أما الوظيفة في صورة الشك فيما لو شككنا في أنّ المتكلم في مقام البيان أو لا ؟ فالمعروف والمشهور بين الأصوليين هو : إستقرار بناء العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان () ؛ ولذلك قالوا : الأصل في كل كلامٍ صادرٍ عن متكلم هو كونه في مقام البيان ، ولكن خصّ السيد الخوئي ذلك بما إذا كان الشك في أصل كون المتكلم في مقام البيان ، لا في الشك في سعته وضيقه () كما في آية (... فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ... ) () .


 


المقدمة الثالثة : عدم وجود قرينة على التقييد :


إعتمد السيد الخوئي هذه المقدمة ، وهي ألّا يأتي المتكلم بقرينةٍ لا متصلة ولا منفصلة وإلا فلا يمكن التمسّك بإطلاق كلامه ؛ لوضوح أنّ إطلاقه في مقام الإثبات إنّما يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت إذا لم ينصب قرينةً على الخلاف ، وأمّا مع وجودها ، فإنْ كانت متصلةً فهي مانعة عن أصل انعقاد الظهور ، وإنْ كانت منفصلةً فالظهور وإنْ انعقد إلا أنّها تكشف عن أنّ الإرادة الإستعمالية لا تطابق الإرادة الجدّية ، وأمّا إذا لم يأت بقرينةٍ كذلك فيثبت لكلامه إطلاق كاشف عن الإطلاق في مقام الثبوت ؛ لتبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت ؛ ضرورة أنّ إطلاق الكلام أو تقييده في مقام الإثبات معلول لإطلاق الإرادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت ().    


وتبنّى هذه المقدمة أيضاً المحقّقان الآخوند والعراقي والشيخ محمد رضا المظفر().


 


 


المقدمة الرابعة : إشتراط عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب


إنّ المحقق الآخوند الخراساني وتلميذه المحقق العراقي إشترطا في تحقق الإطلاق ألّا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب والمحاورة ؛ لأنّه يكون بمنزلة القرينة اللفظية على التقييد ، فلا ينعقد للفظ ظهور في الإطلاق مع فرض   وجوده ؛ وذلك لأنّ كون المتكلم في مقام البيان يتصور على نحوين :


 1 - أنْ يكون المتكلم بصدد بيان تمام موضوع حكمه ، بأنْ يتوقف غرض المتكلم على أنْ يبين للمخاطب ويفهمه إنّ ما ذكره ما هو تمام الموضوع .


  2 - أنْ يكون المتكلم بصدد بيان تمام موضوع الحكم واقعاً ، ولو لم يفهم المخاطب أنّه تمام الموضوع . فعلى الأول لا يضر وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة والتخاطب في الأخذ بإطلاق الكلام ؛ لأنّه لو كان مراد المتكلم القدر المتيقن لوجب عليه بيانه ؛ إذ أنّه في مقام بيان تمام موضوع الحكم ، والإتكال على القدر المتيقن لبيان أنّه تمام الموضوع ، إخلال بالغرض ؛ لأنّه لا يفي به . وعلى الثاني يضرّ وجود القدر المتيقن ؛ لأنّ المتكلم بصدد بيان تمام موضوع الحكم واقعاً لكن لا بوصف التمامية ، والقدر المتيقن هو تمام الموضوع وإنْ لم يعلم المخاطب بأنّه كذلك . وبناءً على ذلك لو لم يكن القدر المتيقن هو تمام الموضوع عند المتكلم لكان اللّازم عليه بيانه ، وحيث لم يبيّنه علم أنّه تمام الموضوع ، وعندئذٍ لا ينعقد للكلام إطلاق . والأصل في كل متكلم أنْ يكون كلامه على النحو الثاني ، فإذن : يضر القدر المتيقن في إنعقاد الإطلاق في كلام كل متكلم ، إلا أنْ يعلم أنّ كلامه على النحو الأول . ومثال ذلك : ما لو قال الأب لولده : " إشتر اللحم " ، وكان القدر المتيقن في مقام المحاورة والتخاطب هو لحم الغنم ، فيجوز للأب أنْ يتّكل على هذا القدر المتيقن ، لأنّ غرضه شراء لحم الغنم ، وهو يعلم أنّ ولده يذهب لشرائه بمجرد قوله : " إشتر اللحم " ، فلو أراد يوماً لحماً غير لحم الغنم لوجب عليه بيانه () .


ولكنّ المحقق النائيني ناقش هذه المقدمة : بأنّ القدر المتيقن في مقام التخاطب لا أثر له ولا يمنع من إنعقاد الإطلاق () ، وتبعه في هذه المناقشة كلٌ من : السيد الخوئي ، والسيد محمد باقر الصدر()  . 


 


المناقشة 


ناقش السيد الخوئي هذه المقدمة بأنّه : تارة يقصد المحقق الخراساني من  القدر المتيقن ، القدر المتيقن الخارجي يعني أنّه متيقن بحسب الإرادة خارجاً من جهة القرائن منها مناسبة الحكم والموضوع . ومن الواضح أنّ مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالإطلاق ؛ ضرورة أنّه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك الّا نادراً فلو قال المولى : ( أكرم عالماً ) فإنّ المتيقن منه هو العالم الورع التقي ؛ إذ لا يحتمل أنْ يكون المراد منه غيره ، وأما إحتمال أنْ يكون المراد منه   ذلك دون غيره فهو موجود ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (... وأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ...) () فإنّ القدر المتيقن منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية ، إذ لا يحتمل أنْ يكون المراد منه غيره .


 وأخرى يريد به القدر المتيقن بحسب التخاطب ، وهذا هو مراد صاحب الكفاية دون الأول ، وقد إدعى منعه عن التمسك بالإطلاق ، ولكن الظاهر أنّه لا يمكن المساعدة على هذه الدعوى ؛ لأنّ المراد بالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو أنْ يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أنّه مراده جزماً . ومنشأ ذلك أمور : عمدتها كونه واقعاً في مورد السؤال ، ولكن الكلام إنّما هو في منعه عن التمسك بالإطلاق والظاهر أنّه غير مانع عنه . والسبب فيه أنّ ظهور الكلام في الإطلاق قد إنعقد ، ولا أثر له من هذه الناحية . ومن الطبيعي أنّه لا يجوز رفع اليد عن الإطلاق ما لم تقم قرينة على الخلاف ، ولا قرينة في البين ، أما القرينة المنفصلة فهي مفروضة العدم وأما القرينة المتصلة فهي أيضاً كذلك بعد فرض أنّ القدر المتيقن المذكور لا يصلح أنْ يكون مانعاً عن إنعقاد الظهور في الإطلاق . وعليه فلا مناص من التمسك به ، وبما أنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت فالإطلاق في الأول الكاشف عنه كاشف عن الإطلاق في الثاني ، ولذا لو سُئل عن مجالسة شخصٍ معينٍ في الخارج وأجيب بعدم جواز مجالسة الفاسق لم يحتمل بحسب الفهم العرفي إختصاصه بذاك الشخص المعين في الخارج فلا محالة يعمّ غيره أيضاً () .


 


المقدمة الخامسة : قابلية الموضوع للإطلاق والتقييد :


 لم يعتمد السيد الخوئي هذه المقدمة ولم يتعرّض إليها () ، وذكرها المحقق النائيني والشيخ المظفر، وهي تبتني على القول بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من نوع تقابل الملكة وعدمها كالعمى والبصر ، فإنّ الأعمى إنّما يصدق على مَنْ أمكن في حقه صدق البصير كالإنسان ، ولا يصدق على مثل الحائط الذي لا يصدق في حقه عنوان البصير . فكذا الإطلاق ، فإنّه إنّما يصدق فيما أمكن فيه التقييد ، وأما إذا لم يمكن التقييد فلا يمكن الإطلاق أيضا ، ولكنّ المحقق النائيني والشيخ محمد رضا المظفر صرّحا بأنّ هذه المقدمة لا تُعد من مقدمات الحكمة بل هي محققة لموضوع الإطلاق والتقييد () . 


يبدو مما تقدم أنّ مقدمات الحكمة التي اعتمدها السيد الخوئي هي :


1ـ أنْ يكون المتكلم متمكناً من التقييد وعدمه .


2ـ أنْ يكون المتكلم في مقام البيان .


3ـ عدم إتيان المتكلم بقرينة متصلة أو منفصلة .


وقد ناقش المقدمتين : الرابعة والخامسة ولم يعتمدهما ، أما المحقق النائيني فقد اعتمد على مقدمتين فقط من مقدمات الحكمة : هما الثانية والثالثة .


 


المطلب الرابع : التقابل بين الإطلاق والتقييد


 


 ذهب مشهور الأصوليين قبل سلطان العلماء ( ت :1064هـ) إلى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد يكون من قبيل تقابل التضاد ؛ لأنّ كلاً منهما أمر وجودي يمتنع إجتماعه مع الآخر في موضوعٍ واحد ، وأما على تقدير خروج الإطلاق عن الموضوع له كما ذهب إليه سلطان العلماء (ت : 1064هـ) () ومن تبعه من المحققين المتأخرين فلا محالة يكون الإطلاق أمراً عدمياً أي عدم التقييد ()، ولذا اختلفت أقوال الأصوليين في التقابل بين الإطلاق والتقييد إلى أقوال عدّة ، وهي :


 


الأول :  تقابل النقيضين


ذهب إلى هذا الرأي المحقق العراقي إذ قال :( إنّ جعل التقابل بين الإطلاق والتقييد مطلقاً من باب تقابل التضاد أو العدم والملكة منظور فيه ، لأنّ ما به قوام هذا الإطلاق هو عدم لحاظ التقييد ولو من جهة إستحالته فيكون التقابل بينهما من باب الإيجاب والسلب محضاً ، قبال الإطلاق والتقييد اللحاظي الراجع فيه التقابل إلى تقابل التضاد أو العدم والملكة )() .


وهذا التقابل بين الإطلاق والتقييد هو عبارة أخرى عن تقابل النقيضين وإنْ عبّر عنه المحقق العراقي بتقابل السلب والايجاب ، وعليه إذا أمكن إطلاق أحد اللفظين المتناقضين على شيءٍ إستحال إطلاق نقيضه عليه () ؛ ويترتب على ذلك أنّه إذا أمكن الإطلاق في لفظٍ إستحال التقييد ؛ لإستحالة إرتفاع النقيضين .


وقد إختار هذا القول السيد محمد باقر الصدر معللاً ذلك بقوله : ( لأنّ الإطلاق نريد به الخصوصية التي تقتضي صلاحية المفهوم للإنطباق على جميع الأفراد ، وهذه الخصوصية يكفي فيها مجرد عدم لحاظ أخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد ؛ لأنّ كل مفهومٍ له قابلية ذاتية للإنطباق على كلّ فردٍ يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابلية تجعله صالحاً لإسراء الحكم الثابت له إلى أفراده شمولياً أو بدلياً ، وهذه القابلية بحكم كونها ذاتية لازمة له ولا تتوقف على لحاظ عدم أخذ القيد ، ولا يمكن أنْ تنفك عنه ، والتقييد لا يفكّك بين هذا اللّازم وملزومه ، وإنّما يحدث مفهوماً جديداً مبايناً للمفهوم الأول - لأنّ المفاهيم كلها متباينة في عالم الذهن حتى ما كان بينهما عموم مطلق في الصدق - وهذا المفهوم الجديد له قابلية ذاتية أضيق دائرة من قابلية المفهوم الأول ، وهكذا يتضح أنّ الإطلاق يكفي فيه مجرد عدم التقييد)() .


 


وقد ذهب الى هذا الرأي الشيخ الفياض أيضا إذ قال :( إنّ الرأي القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل الإيجاب والسلب ، هو الرأي الصحيح الموافق للطبع الأولي والوجدان العقلي ، والنكتة في ذلك : أنّ إنطباق الطبيعة على تمام أفرادها من العرضية والطولية وسريانها إليها بمختلف أشكالها وأصنافها ذاتي وقهري ولا يتوقف على أي عنايةٍ زائدةٍ غير عدم لحاظ القيد فيها الذي هو نقيض لحاظ القيد ، فلذلك يكون التقابل بينهما من تقابل الإيجاب والسلب لا العدم والملكة ولا التضاد) () .  


 


الثاني : تقابل العدم والملكة


ذهب إلى هذا الرأي الشيخ النائيني مبيّناً : أنّ الإطلاق إنّما يستفاد حينئذٍ من مقدمات الحكمة ، وليس نفس اللفظ متكفلاً له ـ كما هو مقالة من يقول : بأنّ التقابل بينهما تقابل التضاد ، وعليه يُبتنى كون التقييد مجازاً ـ ومن مقدمات الحكمة عدم بيان القيد مع أنّ المتكلم كان بصدد البيان ، وأنّ هذه المقدمة إنّما تصح فيما إذا أمكن بيان القيد حتى يُستكشف من عدم بيانه عدم إعتباره ، لا فيما إذا لم يمكن ذلك ، فإنّ عدم بيان ذلك إنّما يكون لعدم إمكانه لا لعدم إعتباره  .


 بل لو قلنا : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو التضاد - كما هو مسلك من   تقدّم *على سلطان العلماء (ت : 1064هـ) ـ كان الأمر كذلك ، فإنّ الإطلاق يكون حينئذ عبارة عن الإرسال والتساوي في الخصوصيات ، وهذا إنّما يكون إذا أمكن التقييد بخصوصيةٍ خاصة ، وإلّا فلا يمكن الإرسال () .


وعلى هذا الرأي يكون الإطلاق أمر عدمي والتقييد أمر وجودي .


وذهب الى هذا القول السيد حسين البروجردي والشيخ محمد رضا المظفر والسيد محمد جعفر الشوشتري () .


 


مناقشة الخوئي للنائيني 


إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، وإنْ أصرّ عليه المحقق النائيني وإنّما هو من تقابل التضاد ، فإنّ معنى الإطلاق ليس هو الجمع بين القيود ولحاظها بأجمعها ، بل معناه رفض القيود برمّتها وعدم دخالة شيءٍ من الخصوصيات في متعلق الحكم بحيث لو أمكن بفرض المحال وجود الطبيعة معرّاة عن كل خصوصية لكفى ، فالحاكم إما أنْ يلحظ القيد أو يرفضه ولا ثالث ، وعلى تقدير تسليم كونه من تقابل العدم والملكة فالأمر أيضا كذلك . أي لا ملازمة بين الأمرين ، وإنْ اُعتبرت معه قابلية المحل فإنّ قابلية كل شيءٍ بحسبه ، والقابلية الملحوظة هنا نوعية لا شخصية وإلّا لإتّجه النقض في موارد عدّة  مثل : العلم والجهل ، والغنى والفقر ، والقدرة والعجز ، فإنّ التقابل بين هذه الأمور من العدم والملكة مع أنّ إستحالة بعضها تستلزم ضرورة الآخر ، فإنّ علمنا بذات الباري مستحيل والجهل به ضروري ، وغنانا عنه تعالى مستحيل والفقر ضروري ، كما أنّ القدرة على الطيران إلى السماء مستحيل والعجز     ضروري () . 


 


الثالث : تقابل التضاد بتفصيلٍ بين مقامي الإثبات والثبوت 


وهو رأي السيد الخوئي القائل : بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد ولكن بتفصيلٍ بين مقامي الإثبات والثبوت :   


أما في مقام الإثبات : فلا ينبغي الشك في أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق في هذا المقام : عبارة عن عدم التقييد بالإضافة إلى ما هو قابل له ، كما إذا فرض أنّ المتكلم في مقام البيان وهو متمكن من الإتيان بالقيد ومع ذلك لم يأت به فعندئذٍ تحقق إطلاق لكلامه ، ومن الطبيعي أنّ مردّ هذا الإطلاق ليس إلّا إلى عدم بيان المتكلم القيد ، فالإطلاق في هذا المقام ليس أمرا وجوديا ، بل هو أمر عدمي . وهذا بخلاف التقييد فإنّه أمر وجودي وعبارة عن خصوصيةٍ زائدةٍ في الموضوع أو المتعلّق . 


وعلى الجملة : فالمتكلم إذا كان في مقام البيان فإنْ نَصَبَ قرينةً على اعتبار خصوصيةٍ زائدةٍ فيه فلا إطلاق لكلامه من هذه الناحية ، وإنْ لم ينصب قرينة على إعتبارها فله إطلاق ، ولا مانع من التمسك به ، ومنه يستكشف الإطلاق في مقام الثبوت ، ومن الواضح أنّ الإطلاق بهذا المعنى أمر عدمي ، كما أنّ التقييد المقابل له أمر وجودي . 


فالنتيجة : إنّ إستحالة التقييد في هذا المقام تستلزم إستحالة الإطلاق ، وبالعكس .


 وأما في مقام الثبوت : فالمقابلة بينهما مقابلة الضدين لا العدم والملكة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق في هذا المقام : عبارة عن رفض القيود والخصوصيات ، ولحاظ عدم دخل شيءٍ منها في الموضوع أو المتعلق ، والتقييد : عبارة عن لحاظ دخل خصوصية من الخصوصيات في الموضوع أو المتعلق ، ومن الطبيعي أنّ كلاً من الإطلاق والتقييد بهذا المعنى أمر وجودي . 


وبيان ذلك : إنّ الخصوصيات والإنقسامات الطارئة على الموضوع أو المتعلق سواء أكانت تلك الخصوصيات من الخصوصيات النوعية أم الصنفية أم الشخصية فلا تخلو : من أنْ يكون لها دخل في الحكم والغرض ، أو لا يكون لها دخل فيه أصلاً ، ولا ثالث لهما . فعلى الأول بطبيعة الحال يتصور المولى الموضوع أو المتعلق مع تلك الخصوصية التي لها دخل فيه ، وهذا هو معنى التقييد . وعلى الثاني فلا محالة يتصور الموضوع أو المتعلق مع لحاظ عدم خصوصيةٍ من هذه الخصوصيات ورفضها تماماً ، وهذا هو معنى الإطلاق . ومن الطبيعي أنّ النسبة بين اللحاظ الأول واللحاظ الثاني نسبة التضاد ، فلا يمكن إجتماعهما في شيءٍ واحدٍ من جهةٍ واحدةٍ ().


وقد إنتهى السيد الخوئي إلى نتيجةٍ من بحثه المتقدم جعلها في نقاطٍ عدّة  :


الأولى : إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت هو تقابل الضدين ، لا العدم والملكة كما هو مختار المحقق النائيني . 


الثانية : إنّنا لو افترضنا أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا التضاد إلّا أنّ ما أفاده الشيخ النائيني : من أنّ إستحالة التقييد تستلزم إستحالة الإطلاق خاطيء ، وذلك لأنّها تقوم على أساس إعتبار القابلية الشخصية في العدم والملكة ، ولكن القابلية المعتبرة أعم من أنْ تكون شخصية أو صنفية أو نوعية .


 الثالثة : إنّ إستحالة التقييد بشيءٍ تستلزم ضرورة الإطلاق أو التقييد بغيره ، لإستحالة الإهمال في الواقع ().


وأشار السيد الخوئي إلى نقطة الإمتياز بين رأيه ورأي النائيني في المسألة،وهي : إمكان التمسك بالإطلاق على الأول ، وعدم إمكانه على الثاني . هذا إذا كان هناك إطلاق . وأما إذا لم يكن فالأصل العملي يقتضي البراءة ؛ وذلك لأنّ تعلّق الوجوب بالجامع معلوم ، وإنّما الشك في تعلقه بخصوص الحصة المقدورة . ومن الطبيعي أنّ المرجع في ذلك هو أصالة البراءة عن وجوب خصوص تلك الحصة () . 


ويترتب على ما تقدم أنّه : إذا كانت دلالة أحد الدليلين بالوضع والآخر بالإطلاق فإنّ ما بالوضع يتقدم على غيره ويكون بياناً له ؛ لأنّ المطلق يتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه التي من جملتها عدم البيان والعام يصلح أنْ يكون بياناً له فيقدّم عليه () .


ومما ينبغي أن يُشار إليه أنّ السيد محمد صادق الروحاني قد تبنّى رأي السيد الخوئي بالتفصيل المتقدم  () .


 


المطلب الخامس : مختار الخوئي في الإطلاق والأخبار العلاجية 


 


ذكر السيد الخوئي : إنّ الترجيح بالكتاب إنّما هو فيما إذا كانت دلالة الكتاب دلالةً لفظية ، وأما إذا كانت الدلالة بالإطلاق فقاعدة الترجيح بالكتاب غير جاريةٍ ؛ إذ ليس ذلك مدلولاً لفظياً للكتاب ؛ لأنّ الإطلاق مستفاد من قيد عدمي ، والعدمي ليس من القران ليكون مرجعاً أو مرجّحاً لأحد الطرفين .


 وهذا يعني أنّ مورد الرجوع إلى القرآن والترجيح به إنّما هو فيما إذا كان عدم العمل بالقران منافياً للظهور اللفظي بحيث يصدق أنّه قال الله تعالى كذا في الكتاب ، وهذا المعنى لا يصدق على مجرد الإطلاق المستفاد من مقدمات  الحكمة () .


بيان ذلك : إنّ الإطلاق ليس لفظاً وكلاماً حتى يكون كتاباً أو سنّة ، بل هو دلالة ناشئة إما عن السكوت في مقام البيان ، أو عن مقدمات الحكمة ، ويترتب على ذلك أمور : 


الأول : إنّ الرواية المخالفة لإطلاق الكتاب لا تكون مشمولةً للرواية الدالة على أنّ المخالف للكتاب زخرف أو باطل بإعتبار أنّ عنوان المخالف له لا ينطبق عليها ، لأنّ الإطلاق ليس مدلولاً للفظ لكي يكون المخالف له مخالفاً للكتاب ، بل مخالف لحكم العقل .


 الثاني : إنّ الروايتين المتعارضتين إذا كانت أحداهما موافقة لإطلاق الكتاب والأخرى مخالفة له فلا تكونا مشمولتين للروايات الدالة على ترجيح الرواية الموافقة للكتاب على الرواية المخالفة له ؛ وذلك لأنّ اطلاق الكتاب ليس من الكتاب فلا تكون الرواية الموافقة له موافقةً للكتاب لكي تكون مشمولةً لها. الثالث : إنّ التعارض بين الروايتين إذا كان بالإطلاق فلا مجال للرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة بل لا موضوع له ؛ فإنّ ما دلّ من النصوص على الترجيح بها إنّما هو في مورد كانت المعارضة بين مدلوليهما لفظاً ، وأما إذا لم تكن معارضة بينهما وكانت بين إطلاقيهما فلا تصدق المعارضة بين الروايتين لكي تكون مشمولة لتلك النصوص ، فمن أجل ذلك يسقط كلا الإطلاقين معاً من جهة المعارضة في المسألة ، فالمرجع هو العام الفوقي إنْ كان ، وإلّا فالمرجع حينئذٍ الأصل العملي () .  


 


مناقشة الصدر للخوئي


أشارالسيد محمد باقر الصدر ( ت :1400هـ) إلى أنّ ما ذكره السيد الخوئي في الإطلاق والأخبار العلاجية غير صحيح ؛ إذ فضلاً عن عدم تمامية التفصيل المذكور بين العموم والإطلاق ، فإنّ تطبيقه في المقام على موافقة السنّة قياساً على الكتاب في غير محله ؛ إذ الإطلاق ومقدمات الحكمة في الكتاب لو سُلّم أنّه ليس قرآناً فلا ريب في أنّ الإطلاق في السنّة سنّة أيضاً إذ السنّة تعمّ القول والفعل والسكوت كما هو واضح () .


وناقش السيد الصدر مبنى السيد الخوئي : القائل بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو من تقابل التضاد مبنيٌ على أنّ الإطلاق واللّا بشرط القسمي عبارة عن لحاظ عدم القيد كما أنّ التقييد عبارة عن لحاظ دخله فهما أمران وجوديان لا يجتمعان وهو معنى التضاد () .


  وبيّن السيد الصدر أنّ الصحيح هو أنّ اللّا بشرط القسمي لا يمكن جعله من أقسام لحاظ الماهية في التعقل الأول ؛ لأنّه لو كان المقصود لحاظ أنّ القيد غير دخيلٍ في ترتب الحكم على الماهية فإنّه يرد عليه :


أولاً : إنّ هذا أجنبي عن محل الكلام بالمرة ؛ فإنّ محل الكلام عن إعتبارات الماهية في نفسها وبقطع النظر عن كيفية ترتّب الحكم عليها .


وثانياً : إنّ لحاظ عدم دخل القيد مستدرك حتى في مقام ترتب الحكم ، إذ من الواضح أنّ ترتب الحكم على تمام أفراد موضوعه من نتائج عدم لحاظ القيد لا من نتائج لحاظ عدم القيد ، فإنّ الطبيعة في نفسها صادقة على كل أفرادها إذ لم يلحظ معها قيد .


ولو كان القصد لحاظ عدم تقييد الماهية بما هي هي وبقطع النظر عن ثبوت حكم لها فحينئذٍ نسأل ما المقصود من لحاظ عدم التقييد ؟ فلو كان المقصود التصديق بأنّ هذه الماهية التي تصورناها قد وجدت في ذهننا غير مقيدة ، فمن الواضح أنّ هذا خارج عن محل البحث ، فإنّنا نتكلم عن أطوار اللحاظ التصوري للماهية مع أنّ اللحاظ التصديقي في طول اللحاظ التصوري ، فكيف يمكن أنْ يكون من أطواره وبلحاظٍ واحد ؟. 


ولو كان المقصود اللحاظ التصوري لعدم التقييد بأنّ يتصور مفهوم الإنسان الذي لم يقيد بالقيد وجوداً وعدماً فمن الواضح أنّ هذا يكون من التعقّل الثاني لا من التعقّل الأول فإنّ دخل القيد وعدم دخله من شؤون الملحوظ فهو في طول أصل اللحاظ فيكون من التعقل الثاني () . 


 


مناقشة الفياض للخوئي


ردّ الشيخ الفياض ما ذكره السيد الخوئي : من أنّ الإطلاق بما أنّه غير داخلٍ في مدلول اللفظ وأنّ الحاكم به إنّما هو العقل ببركة مقدمات الحكمة فلا يكون مدلولاً للكتاب فلا تصدق على موافقته موافقة الكتاب ، ولا على مخالفته مخالفة الكتاب حتى تكون مرجحة () . 


وجاء ردّه بقوله : ( إنّ الإطلاق عبارة عن الظهور التصديقي للكلام المنعقد بسبب تمامية مقدمات الحكمة فتكون المقدمات حيثية تعليلية له .وإنْ شئت قلت : إنّ الإطلاق ليس مدلولاً لحكم العقل ومقدمات الحكمة ، بل المقدمات منشأ لظهور اللفظ فيه ، على أساس أنّها عبارة عن تحليل حال المتكلم في مقام كشف تمام مراده من كلامه الصادر منه ، وهي كونه شاعراً وملتفتاً وفي مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد الحكم فيه بحصةٍ خاصة ، فإنّ مجموع ذلك بما هو المجموع يوجب ظهور كلامه في الإطلاق ، أي ثبوت الحكم للمطلق لا لحصةٍ خاصة فيكون الإطلاق مدلولاً للفظ مباشرة ، ويكون منشأه مقدمات الحكمة لا أنّه مدلول لها ، فإذن ليس الإطلاق عبارة عن السكوت في مقام البيان وعدم ذكر القيد ، فإنّه منشأ له لا أنّه عينه ، كما هو الحال في العام الوضعي ، فإنّ دلالته على المدلول التصوري مستندة إلى الوضع ، وأما دلالته على المدلول التصديقي فلا تكون مستندة إليه ، بل هي مستندة إلى ظهور حال المتكلم الناشيء من سكوته عن الإتيان بمخصصٍ متصلٍ وإنْ كانت دلالته أقوى من دلالة المطلق لدى العرف ، بإعتبار أنّ سكوته فيه بمثابة عدم المانع عنها ، وأما في المطلق فهو بمثابة المقتضى لها . فالنتيجة أنّه لا شبهة في أنّ الإطلاق مدلول لنظر كالعموم ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ) () . 


وقال الشيخ الفياض أيضاً في موضع آخر : ( إنّ الإطلاق وإنْ كان يثبت بمعونة مقدمات الحكمة إلّا أنّ ذلك لا يوجب كون الإطلاق مدلولاً عقلياً لا لفظياً ؛ وذلك لأنّ الإطلاق لدى العرف عبارة عن ظهور اللفظ في معنى بلا قيدٍ ، غاية الأمر أنّ ظهوره فيه لا يمكن أنْ يكون بلا سببٍ ومنشأ ، فالسبب له قد يكون هو الوضع كما في ظهور العام في العموم أو نحوه ، وقد يكون مقدمات الحكمة ، فمقدمات الحكمة تؤهل اللفظ للدلالة على الإطلاق والظهور فيه . لا أنّه مدلول المقدمات نفسها ، كما أنّ الوضع يؤهل اللفظ للدلالة على العموم . فتكون النتيجة : إنّ الإطلاق مدلول اللفظ كالعموم ، ونسبة الإطلاق إلى مقدمات الحكمة بنكتة أنّها حيثية تعليلية له كالوضع الذي هو حيثية تعليلية لدلالة اللفظ على المعنى الموضوع له . فإذن مخالفة إطلاق الكتاب مخالفة له ، ومشمولة لما دل على أنّ المخالف للكتاب باطل وغير معتبر ) () .


 


ويرى الباحث : إنّ مناقشة الشيخ الفياض غير تامةٍ ؛ لشهادة الوجدان بأنّ الألفاظ المطلقة وإنْ كانت ألفاظ بالبداهة ولكن مدلولها عقلي ؛ للإعتماد فيها على مقدمات الحكمة وهي عقلية ، ولازم كلامه عدم تقديم العام على الإطلاق في حالات التعارض ؛ لأنّ كليهما مدلول لفظي ، وهذا خلاف ما يلتزم به الأصوليون من تقديم العام على الإطلاق في حالات التعارض .


 أما قوله : إنّ الإطلاق لدى العرف عبارة عن ظهور اللفظ في معنى بلا قيدٍ ، فهذا صحيح ولكن نظر العرف بما هم عقلاء ، فلا تخرج دلالة الإطلاق عن الدلالة العقلية .  


 وممّا ينبغي أنْ يُشار إليه أنّ مختار السيد الخوئي في المقام مطابق لمختار استاذه المحقق النائيني في التطبيقات الفقهية ، وذلك فيما إذا تعارض العام الأصولي والإطلاق الشمولي ودار الأمر بين تقييد المطلق أو تخصيص العام ؛ والسبب في ذلك أنّ شمول العام الأصولي لمورد الاجتماع أظهر من  شمول المطلق له ؛ لأنّ شمول العام لمادة الاجتماع يكون بالوضع وشمول المطلق له يكون بمقدمات الحكمة ، ومن جملتها عدم ورود ما يصلح أنْ يكون بياناً للتقييد ، والعام الأصولي يصلح لأنْ يكون بياناً لذلك ، فلا تتم مقدمات الحكمة في المطلق الشمولي ، ولا بدّ حينئذٍ من تقديم العام الأصولي وتقييد المطلق بما عدا مورد الإجتماع () .


يبدو مما تقدّم أنّ السيد الخوئي في مسألة التقابل بين الإطلاق والتقييد يذهب إلى القول بالتفصيل  بين مقامي الإثبات والثبوت : 


ففي مقام الثبوت : يرى أنّ التقابل بينهما تقابل الضدين .


أما في مقام الإثبات : فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة . 


وتُعدّ هذه الإضافة إضافة أفقية على ما تبنّاه البحث في ضابط المدرسة ؛ لأنّه أضاف رأياً جديداً في المقام وهو القول بالتفصيل .


بينما يرى المحقق النائيني أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ويرى المحقق العراقي والسيد الصدر والشيخ الفياض أنّ التقابل بينهما تقابل النقيضين .


وتبيّن أيضاً : إنّ مختار السيد الخوئي في المقام لم يسلم من المناقشات من قبل تلامذته . ولكنّه قد أضاف بياناً جديداً في المقام يؤكد على أنّ الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس مدلولاً لفظياً ، بل دلالة ناشئة عن مقدمات الحكمة وهي عقلية وليست لفظية ، وبالتالي فالرواية المخالفة لإطلاق الكتاب لا تكون زخرفاً أو باطلاً ؛ لأنّ عنوان المخالف له لا ينطبق عليها ، لأنّ الإطلاق ليس مدلولاً للفظ لكي يكون المخالف له مخالفاً للكتاب ، بل مخالف لحكم العقل .


 وتُعد هذه الاضافة إضافة عمودية على ما تبنّاه البحث في ضابط المدرسة . 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                           المبحث الثالث 


                           مفهوم الوصف   


 


من معالم البحث الأصولي للسيد الخوئي هو أنّ القيد في القضية الوصفية يدل على المفهوم لكن لا بمعنى دلالته على انتفاء سنخ الحكم بانتفائه ، بل بمعنى أنّه يدل على أنّ موضوع الحكم ـ أي الموصوف ـ في القضية الوصفية ليس هو الطبيعي على نحو الإطلاق ، بل حصة خاصة منه ،على أساس ظهور القيد في الإحتراز، فلو لم يدل على التحصيص كان لغواً محضاً ().


 ومن أجل بيان هذا المسألة ، ينبغي التعرّض لمعنى المفهوم وبيان المناط أو الضابط فيه ، وبيان آراء الأصوليين في مفهوم الوصف ، وبيان رأي السيد الخوئي فيه ؛ ولذا إنتظم المبحث في ثلاثة مطالب :


 


المطلب الأول : ضابط المفهوم 


 


عرّف المفهوم بتعريفات عدّة : 


1ـ ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق ، بأنْ يكون حكماَ لغير المذكور وحالاَ من أحواله ، في مقابل المنطوق وهو : ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق () .


2ـ  وعرّفه الشيخ مرتضى الأنصاري ( ت : 1281هـ ) بأنّه : حكمٌ  اُفيد لغير المذكور، والمراد من غير المذكور هو الموضوع الذي سيق له الحكم () .


 3ـ وعرّفه المحقق النائيني بأنّه : المدرك العقلاني الذي يدركه العقل عند الإلتفات الى الشيء ، وأشار إلى أنّ المراد من محل النطق وعدمه هو المدلول المطابقي والمدلول الإلتزامي ().


 أما المفهوم عند السيد الخوئي : ( يُطلق على معنى يُفهم من اللفظ بالدلالة الإلتزامية نظراً إلى العلاقة اللزومية البيّنة بالمعنى الأخص أو الأعم * بينه وبين المنطوق ، فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أولاً وبالذات وعلى المفهوم ثانياً وبالتبع ) () .


أما ضابط المفهوم للكلام فإنّه يتوقف على ظهوره في أمرين :


الأول : ظهوره في دخل القيد المذكور في ترتّب الحكم على موضوعه ، بمعنى عدم كون ذات الموضوع مجرّدةً عن القيد تمام الموضوع للحكم ، بل تمام الموضوع للحكم هو الموضوع المقيّد بذلك القيد بما هو مقيّد .


 


الثاني : ظهوره في كون القيد المذكور منحصراً في السببية ، بأنْ يدل على عدم دخل شيءٍ آخر ـ غير القيد المذكور ـ في ترتّب الحكم على موضوعه .


وعمدة الملاك في ثبوت المفهوم للكلام هو الأمر الثاني ، وعليه فكل خطابٍ وكلامٍ تحقق فيه هذا الملاك ، بأنْ كان ظاهراً فيه يثبت له المفهوم وإلّا فلا (). 


والى ذلك أشار السيد عبد الأعلى السبزواري ( ت : 1414هـ) وأنّ الضابط الكلي في تحقق المفهوم هي : تحقق العلية التامة المنحصرة لما ذُكر موضوعاً في المنطوق ، فمع تحققها لا شبهة في تحقق المفهوم ، ومع عدم العلية ، أو عدم التمامية ، أو عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة لموضوع الحكم المذكور في المنطوق بالنسبة إليه وعدمه ، فلا وجه للمفهوم أصلاً ، وإستظهار ذلك لا بدّ أنْ يكون من العرف والمحاورات () .


 


ويرى السيد الخوئي أنّ المناط في ثبوت المفهوم لقضيةٍ من دون أخرى هو رجوع القيد المذكور في القضية إلى الحكم من دون المادة ، والقضايا الشرطية حيث إنّها ظاهرة في رجوع القيد إلى الحكم الثابت في الجزاء فلها مفهوم لا محالة ، أمّا غيرها مثل : " أكرم عالماً عادلاً " أو " أكرم عالماً يوم الجمعة "  أو " أكرم عالماً حال كونه راكباً "  أو " أكرم عالماً في المسجد "  وغير ذلك من القيود ، فلا  يدل على المفهوم ، وأنّ الحكم منتفٍ بإنتفاء القيد المأخوذ في موضوعه ؛ إذ ظاهر هذه القضايا وأمثالها أنّ القيود راجعة إلى الموضوع لا إلى الحكم ، والى المادة لا الهيئة ().


 


 


 


المطلب الثاني : آراء الاصوليين في مفهوم الوصف


 


اختلف علماء الإمامية في مفهوم الوصف بين قائلٍ : إنّ للوصف مفهوماً () ، وبين قائلٍ : بعدم المفهوم للوصف ، وهو رأي مشهور الاصوليين () ، وكذا متأخري الأصوليين مثل المحقق العراقي والسيد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ النائيني والشيخ المظفر :


فقد ذكر المحقق العراقي ما نصّه : ( فالظاهر هو عدم ثبوت المفهوم لنحو هذه القضايا الوصفية بحسب طبعها ما لم يكن في البين قرينة عليه من حال أو مقال، إذ لا دلالة للقضية بطبعها على كون الحكم المعلق على الوصف هو السنخ كي يقتضي إنتفائه عند إنتفاء القيد ، بل وإنما غايتها الدلالة على مجرد ثبوت الحكم للمقيد بنحو الطبيعة المهملة غير المنافي لثبوت فردٍ آخر مثله في غير مورد القيد ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القضايا اللقبية حيث لا فرق بينهما من هذه الجهة إلّا من جهة كون الموضوع في القضايا الوصفية عبارة عن أمرٍ خاص مقيد بقيدٍ خاص ) () .


وقال السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت : 1365هـ) : (بعد تسليم كون تعليق الحكم على الوصف دليلاً على علية مأخذ الاشتقاق كون عليته بنحو الإنحصار ، بحيث لو دل دليل على ثبوت الحكم في غير مورد الوصف ممنوع ، مثلا لو قال : " أكرم العالم " نفس تعليق الحكم عليه يدل على أنّ العلم له دخل في الإكرام بحيث لو قال : أكرم الجاهل لكان معارضا له ، فلو كان مراد القائل بالمفهوم هذا المقدار فهو مسلّم ، إلا أنّه ليس من باب المفهوم ، بل من جهة عدم المقتضي للحكم ، ولو كان مراده أنّه لو قال : " أكرم الشاعر " وإنطبق عنوان الشاعر على الجاهل كان معارضاً ل: " أكرم العالم " فهو ممنوع ، ففي المثال المذكور نقول بعدم وجوب إكرام الجاهل لا من جهة المفهوم ، بل من جهة عدم ثبوت المقتضي لوجوب إكرامه ، ولا نقول بعدم وجوب إكرام الجاهل الشاعر لو كان دليل على وجوب إكرام الشاعر ، وبمعارضته مع أكرم العالم كما هو لازم قول من يدعي المفهوم ، وأما التمسك للقول بالمفهوم بأنّ الأصل في القيد الإحترازية فهو أصل لا أصل له ؛ إذ القيد يمكن أنْ يكون احترازياً وغير إحترازي، وما وردت آية ولا رواية على أنّ الأصل في القيد الاحترازية ) ().


أما المحقق النائيني فقد صرّح أنّ الحق هو عدم دلالة الوصف على المفهوم ، بعد أنْ ذكر أنّ محل الكلام في المقام هو الوصف المعتمد على موصوفه ، وبيّن حالات الوصف ، أردف ذلك بقوله : ( فدلالة الوصف على المفهوم تتوقف على كونه قيداً لنفس الحكم لا لموضوعه ولا لمتعلقه وبما أنّ الظاهر في الأوصاف أنْ تكون قيوداً للمفاهيم الأفرادية يكون الأصل فيها عدم الدلالة على المفهوم كما هو الحال في اللقب عيناً غاية الأمر أنّ الموضوع أو المتعلق في اللقب أمر واحد يمكن التعبير عنه بلفظٍ واحد بخلافهما في المقام فإنّه لا يمكن التعبير عنهما غالباً الا بلفظين وهذا لا يكون فارقاً بين الموردين بعد إشتراكهما في ملاك عدم الدلالة على المفهوم أعني به كون الحكم غير مقيدٍ بشيءٍ فكما أنّ قولنا أكرم رجلاً لا دلالة له على عدم وجوب إكرام المرأة أو الصبي كذلك قولنا أكرم الإنسان البالغ الذكر لا دلالة له على نفى الوجوب عن غير الرجل من أفراد الإنسان ، وأما ما اشتهر من أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعرٌ بالعلية فهو على تقدير تسليمه لا يثبت دلالة الوصف على المفهوم ؛ لأنّ الإشعار ما لم يصل إلى مرتبة الظهور لا يكون حجة ، نعم إذا قامت قرينة خارجية على كون مبدأ الوصف علة للحكم أو على أنّ القيد المذكور في الكلام إنّما اخذ قيداً لنفس الحكم لا لمتعلقه أو موضوعه دلّت القضية حينئذٍ على إنتفاء الحكم عند إنتفاء الوصف المزبور لكن هذا أجنبي عما نحن فيه ) () .


 


مناقشة للخوئي للنائيني


ناقش السيد الخوئي ذيل عبارة المحقق النائيني المتقدمة بقوله : ( لا يخفى أنّ توصيف متعلق الحكم أو موضوعه بقيد ما في الكلام مع إعتباره قيداً لنفس الحكم في مقام اللب ومقام الثبوت خارج عن قانون المحاورة عرفاً فلا معنى لقيام القرينة عليه من الخارج وأما كون القيد علّة لثبوت الحكم على المقيد فهو وإنْ كان أمراً ممكناً في نفسه وقابلاً لقيام القرينة عليه من الخارج إلا أنّ مجرد ذلك لا يكفي في دلالة القضية على المفهوم ما لم تقم قرينة على كون العلة علة منحصرة كما هو ظاهر) ().


ويظهر للباحث : إنّ ما ذكره السيد الخوئي من مناقشةٍ لا يخلو من المناقشة ؛ لأنّ المحقق النائيني لم يدّعِ كون هذه القرينة غير خارجة عن قانون المحاورة ، نعم هو قائل بأنّ قيامها لا يمنع ثبوت المفهوم للوصف ، وهذا ما يلتزم به السيد الخوئي نفسه فيما لو قامت قرينة كذلك وإنْ خرجت عن قانون المحاورة .


المطلب الثالث : مفهوم الوصف عند السيد الخوئي


 


تعرّض السيد الخوئي في  مقام  بحثه عن مفهوم الوصف إلى ثلاثة أمور، أذكرها تباعاً ، وهي : 


أولاً : تنقيح محل النزاع 


إنّ محل الكلام بين الأصوليين في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه إنّما هو في : الوصف المعتمد على موصوفه في القضية بأنْ يكون مذكوراً فيها كقولنا : ( أكرم انساناً عالماً ) أو ( رجلاً عادلاً ) أو ما شاكل ذلك . وأما الوصف غير المعتمد على موصوفه كقولنا : ( أكرم عالماً أو عادلاً ) أو نحو ذلك فهو خارج عن محل الكلام ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم ، ضرورة انه لو كان داخلا في محل الكلام لدخل اللقب فيه أيضا ، لوضوح أنّه لا فرق بين اللقب وغير المتعمد من الوصف من هذه الناحية ، فكما أنّ الأول لا يدل على المفهوم من دون خلاف فكذلك الثاني () . 


 ثم دفع السيد الخوئي إشكالاً ورد في المقام () على وفق ما ذهب إليه المحققان الخراساني والعراقي في بساطة المفاهيم : 


 إنّ إنحلال الوصف بتعمّل من العقل إلى شيئين : ذات ، ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الإشتقاقية لا يوجب فارقاً بينه وبين اللقب في هذه الجهة ، حيث أنّ هذا الإنحلال لا يتعدى عن أفق النفس إلى أفق آخر فلا أثر له في القضية في مقام الإثبات والدلالة أصلا حيث إنّ المذكور فيها شيءٌ واحد ، وهو الوصف من دون موصوفه . 


وجاء رد السيد الخوئي بقوله : الظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في عدم دلالة الوصف على المفهوم ؛ لأنّ الحكم الثابت في القضية هو للعنوان الإشتقاقي أو الذاتي ، فلا تدل القضية إلا على ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلاً فيه ، وأما إنتفاؤه عن غيره فلا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة ، بل لو دل على المفهوم لكان الوصف الذاتي أولى بالدلالة نظراً إلى أنّ المبدأ فيه مقوم للذات وبإنتفائه تنتفي الذات جزماً ، وهذا بخلاف الوصف غير الذاتي فإنّ المبدأ فيه جعلي غير مقوم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات بإنتفائه . فالنتيجة أنّه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف ، فإنّ ملاك عدم الدلالة فيهما واحد () .


ثانياً : حالات الوصف 


ذكر السيد الخوئي أنّ للوصف أربع حالات :


1ـ أنْ يكون الوصف مساوياً لموصوفه كقولنا :(أكرم إنساناً ضاحكاً ) وما شاكله.


 2ـ وأخرى يكون الوصف أعم من الموصوف مطلقاً كقولنا :(أكرم إنساناً ماشياً).


 3ـ أو يكون الوصف أخص من الموصوف كذلك كقولنا:( أضف انساناً عالماً ) .


4ـ أو يكون الوصف أعم من الموصوف من وجه كقول الامام الباقر :( في الغنم السائمة زكاة )() .


اما الأول والثاني فلا إشكال في خروجهما عن محل النزاع والوجه فيه ظاهر وهو أنّ الوصف في هاتين الصورتين لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف حتى يكون له دلالة على المفهوم ؛ إذ أنّ معنى دلالة الوصف على المفهوم هو إنتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه وهذا فيما لا يوجب انتفائه انتفاء الموصوف ، والمفروض أنّ في هاتين الصورتين يكون إنتفاؤه موجباً لانتفاء الموصوف فلا موضوع لدلالته على المفهوم .


 وأما الثالث فلا إشكال في دخوله في محل الكلام ، فإنّ ما ذُكر من الملاك للدلالة على المفهوم موجود فيه . 


واما الرابع فهو أيضاً داخل في محل الكلام إذ إنّه يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيّد الغنم في المثال المتقدم بخصوص السائمة ، فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدل على إنتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضية بانتفائه ، فلا زكاة في الغنم المعلوفة . نعم لا يدل على إنتفائه عن غير هذا الموضوع  كالإبل المعلوفة كما نُسب ذلك إلى بعض الشافعية () ، وجوب الزكاة عن الإبل المعلوفة إستناداً إلى دلالة وصف الغنم بالسائمة على إنتفاء حكمها يعني وجوب الزكاة عن فاقد هذا الوصف مطلقاً ولو كان موضوعاً آخر ، ووجه عدم دلالته على ذلك واضح ؛ لأنّ معنى دلالته على المفهوم هو إنتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه ، وأما غير المذكور فيها فلا يكون فيه تعرض لحكمه لا نفياً ولا إثباتاً ، فما نسب إلى بعض الشافعية لا يرجع إلى معنى محصل أصلا () .


 وأشار السيد الخوئي إلى الفارق بين القضية الوصفية والقضية الشرطية هو : أنّ الشرط في القضية الشرطية راجع إلى الحكم من دون الموضوع  فيكون الحكم مطلقا عليه فلأجل ذلك تدل على إنتفائه عند إنتفاء الشرط وهذا بخلاف الوصف في القضية الوصفية فإنّه راجع إلى الموضوع فيها من دون الحكم () .


 


فالنتيجة إنّ دلالة الوصف على المفهوم ترتكز على أنّ يكون قيداً لنفس الحكم لا لموضوعه أو متعلقه وإلّا فلا دلالة للوصف على المفهوم أصلاً () .


 


ثالثاً : أدلة القائلين بثبوت المفهوم للوصف 


 


 ذكر السيد الخوئي أدلة القائلين بثبوت المفهوم للوصف () ، وأخذ بمناقشتها تباعاً ، وهي :


 الدليل الأول : إنّ الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان الآتي به لاغياً وهو مستحيل في حق المتكلم الحكيم ، فلا مناص من الإلتزام بدلالته على المفهوم .


 


المناقشة : إنّه مبني على إحراز أنّ الداعي للآتي به ليس إلا دخله في الحكم نفياً وإثباتاً ، حدوثاً وبقاءً بمعنى انّه علة منحصرة له ، فإذا كان كذلك فبطبيعة الحال ينتفي الحكم عن الموصوف بانتفائه ،ومن المعلوم أنّ هذا الإحراز يتوقف على :


1ـ كون الوصف قيداً للحكم من دون الموضوع أو المتعلق ،مع أنّ الأمر بالعكس تماماً .


2ـ الإلتزام بأنّ إثبات حكم لموضوعٍ خاص يدل على إنتفائه عن غيره ، مع أنّه لا يدل على ذلك ، بل لا يكون فيه إشعار به فضلاً عن الدلالة .


 3ـ أنْ لا يكون الداعي له أمراً آخر لأنّ فائدته لا تنحصر بما ذكروا. 


4ـ أنّه لا يكفي في الخروج عن كونه لغواً الالتزام بدلالته على إختصاص الحكم بحصةٍ خاصة من موصوفه وعدم ثبوته له على نحو الإطلاق ، والمفروض أنّه يكفي في ذلك ولا يتوقف على الإلتزام بدلالته على المفهوم ، وهو الإنتفاء عند الإنتفاء  .


 فالنتيجة : إنّ هذا الوجه ساقط فلا يمكن الاستدلال به على إثبات المفهوم    للوصف ().


 


الدليل الثاني : إنّ الوصف الموجود في الكلام مشعر بعليته للحكم عند الإطلاق .


 


 المناقشة : إنّ مجرد الإشعار على تقدير ثبوته لا يكفي لإثبات المفهوم جزماً ، لأنّه لا يكون من الدلالات العرفية التي تكون عندهم ، بل لا بدّ في إثبات المفهوم له من إثبات ظهور القضية في كون الوصف علة منحصرة للحكم المذكور فيها ، ومن الطبيعي أنّ إثبات ظهورها في كونه علة في غاية الإشكال ، بل دونه خرط القتاد * فما ظنّك بظهورها في كونه علة منحصرة ، إذ أنّ مردّ هذا الظهور إلى كون الوصف قيداً للحكم من دون الموضوع أوالمتعلق وأنّه يدور مداره وجوداً وعدماً وبقاءً وإرتفاعاً ، وقد ثبت أنّ القضية الوصفية ظاهرة في كون الوصف قيداً للموضوع أو المتعلق من دون الحكم .


 فالنتيجة إنّ مجرد الإشعار بالعلية غير مفيد وما هو مفيد - وهو الظهور فيها - فهو غير موجود () .


 


الدليل الثالث : إنّ القضية الوصفية لو لم تدل على المفهوم وإنحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجباً لحمل المطلق على المقيد إذ أنّ السبب في هذا الحمل هو دلالة المقيد على إنحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره ، ومن الطبيعي أنّ هذا السبب موجود بعينه في دلالة الوصف على المفهوم . 


المناقشة :  إنّ السبب في حمل المطلق على المقيد غيره في دلالة الوصف على المفهوم ؛ هو دلالة القيد على المفهوم ، وهذه الدلالة غيرمتوفرةٍ في الوصف ، وأما حمل المطلق على المقيد فلا يتوقف على ذلك السبب المتقدّم ، فإنّه بحسب رأي المشهور() : يتوقف على أنْ يكون التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصرف وجوده ، فإذا تعلق التكليف في دليل آخر بحصةٍ خاصةٍ منه وعلم من القرينة أنّ التكليف واحد حمل المطلق على المقيد ؛ نظراً إلى أنّ المقيّد قرينة بنظر العرف على التصرف في المطلق ، ومن المعلوم أنّه لا صلة لهذا الحمل بدلالة القيد على المفهوم أي نفي الحكم عن غير مورده ، ضرورة أنّ المقيّد لا يدل إلا على ثبوت الحكم لموضوع خاص من دون دلالة له على نفيه عن غيره بوجه ، ومع ذلك يحمل المطلق على المقيد .


 واما إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بمطلق وجوده المستلزم إنحلاله بإنحلال وجوداته وأفراده خارجاً ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيد ؛ لعدم التنافي بينهما ، وذلك كما إذا ورد في دليل :( أكرم كل عالم ) ورد في دليل آخر : ( أكرم كل عالم عادل ) فلا موجب لحمل الأول على الثاني أصلا لأنّ العلة التي توجب حمل المطلق على المقيد غير متوفرة هنا فلا مانع من أنْ يكون كل منهما واجباً ، غاية الأمر يحمل المقيد هنا على أفضل أفراد    الواجب () .


 


 وأما بناءً على ما اختاره السيد الخوئي من عدم الفرق في حمل المطلق على المقيد بين ما كان التكليف واحداً أو متعدداً فأيضاً لا يتوقف هذا الحمل على دلالة القيد على المفهوم ونفي الحكم عن غير مورده ، بل يكفي فيه دلالته على عدم ثبوت الحكم للطبيعي على نحو الإطلاق ، ولا شبهة في دلالته على ذلك كما أنّه لا شبهة في عدم دلالته على نفي الحكم عن غير مورده . 


وعلى الجملة إنّ ظهور المطلق في الإطلاق كما يتوقف حدوثاً على عدم دليل صالح للتقييد فكذلك يتوقف بقاءً على عدم الدليل ؛ إذ أنّ ظهوره يتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الواضح أنّها لا تجرى مع وجود الدليل الصالح للتقييد ، والمفروض أنّ دليل المقيد يكون صالحا لذلك عرفا ، ومما يدل على أنّ حمل المطلق على المقيّد لا يبتني على دلالة القضية الوصفية على المفهوم هو أنّه يحمل المطلق على المقيّد حتى في الوصف غير المعتمد على موصوفه كما إذا ورد في دليل: ( أكرم عالماً ) وورد في دليل آخر: ( أكرم فقيهاً ) يحمل الأول على الثاني مع أنّه لا يدل على المفهوم أصلا () . 


 


وينتهي السيد الخوئي الى نتيجةٍ ، مفادها : إنّ الضابط الذي ذُكر في القضية الشرطية لدلالتها على المفهوم عرفاً - وهي تعليق الحكم فيها على الشرط تعليقاً مولوياً - غير متوفرة في القضية الوصفية ؛ إذ أنّ الحكم فيها غير معلّق على الوصف ، فالوصف ليس قيداً للحكم كالشرط بل هو قيد للموضوع أو المتعلق ، ومن المعلوم أنّ ثبوت الحكم لموضوعٍ خاص لا يدل على إنتفائه عن غيره ().


هكذا قرّر المشهور ثبوت المفهوم للوصف .


 


رابعاً : رأي السيد الخوئي في مفهوم الوصف


بعد أنْ ذكر السيد الخوئي أدلة القائلين بثبوت المفهوم للوصف وناقشها ، بيّن أنّ الصحيح في مفهوم الوصف هو التفصيل ؛ وذلك لأنّ النزاع في دلالة الوصف على المفهوم على نحوين :


 1ـ بمعنى ان تقييد الموضوع أو المتعلق به يدل على إنتفاء الحكم عن غيره ، فلو ورد في الدليل : ( أكرم رجلاً عالماً ) فإنّه يدل على إنتفاء وجوب الإكرام عن غير مورده يعني عن الرجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسببٍ آخر.


2ـ أو يكون بمعنى دلالته على نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الإطلاق وأنّه غير ثابتٍ له كذلك .


 فإنْ كان النزاع في المعنى الأول فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى ، ضرورة أنّ قولنا :( أكرم رجلا عالما ) لا يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة أخرى منه كالرجل العادل أو الهاشمي أو ما شاكل ذلك ؛ لوضوح أنّه لا تنافي بين قولنا :( أكرم رجلاً عالماً ) وقولنا : ( أكرم رجلاً عادلاً ) مثلا بنظر العرف أصلاً فلو دلت الجملة الأولى على المفهوم - أي نفي الحكم عن حصص أخرى منه - لكان بينهما تناف .


 وإنْ كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر أنّه يدل على المفهوم بهذا المعنى ؛ ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الإحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلقه إلّا أنْ تقوم قرينة على عدم دخله فيه ، ففي مثل قولنا :( أكرم رجلاً عالماً) يدل على أنّ وجوب الإكرام لم يثبت لطبيعي الرجل على الإطلاق ولو كان جاهلاً ، بل ثبت لخصوص حصةٍ خاصةٍ منه - وهي الرجل العالم - وكذا قولنا : (أكرم رجلا هاشمياً ) أو ( أكرم عالماً عادلاً ) وهكذا .


 والمناط فيه : إنّ كل قيدٍ أتي به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الإحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلق يعني أنّ الحكم غير ثابتٍ له إلا مقيداً بهذا القيد ، لا مطلقاً وإلا لكان القيد لغواً ، فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة . فقولنا : ( أكرم رجلاً عالماً ) وإنْ لم يدل على نفى وجوب الإكرام عن حصةٍ أخرى من الرجل كالعادل أو نحوه ولو بملاكٍ آخر إلا أنّه لا شبهة في دلالته على أنّ وجوب الإكرام غير ثابتٍ لطبيعي الرجل على نحو الإطلاق () . 


والنتيجة التي ينتهي إليها السيد الخوئي في نهاية بحثه هي :


 إنّ النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إنْ كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسببٍ آخر فإنّها لا تدل على المفهوم بوجه ، بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة . 


وإنْ كان في دلالتها على نفي الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فإنّها تدل على ذلك جزماً إذ لا شبهة في ظهورها فيه إلّا فيما قامت قرينة على خلافه . 


ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه ، وغير المعتمد عليه كقولنا : ( أكرم عالما ) مثلا ، فإنه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وان انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيءٍ له العلم الا أنه لا أثر له في مقام الاثبات بعدما كان في هذا المقام شيئا واحدا لا شيئان : أحدهما موصوف ، والآخر صفة له () . 


ثم إن هذه النقطة التي ذكرها السيد الخوئي ـ أي الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه ، وغير المعتمد عليه ـ صرّح  بأنّها قد اُهملت في كلمات الأصحاب ولم يتعرّضوا لها في المقام لا نفياً ولا إثباتاً مع أنّ لها ثمرة مهمة في الفقه منها ما في مسألة حمل المطلق على المقيد حيث أنّ المشهور() قد خصّوا تلك المسألة فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين بما إذا كان التكليف فيهما واحداً واما إذا كان متعدداً فلا يحملوا المطلق على المقيد ، وأما على ضوء ما ذكره السيد الخوئي من النقطتين فيحمل المطلق على المقيد ولو كان التكليف متعدداً كما إذا ورد في دليل ( لا تكرم عالماً ) وورد في دليل آخر ( لا تكرم عالماً فاسقاً ) فإنه يحمل الأول على الثاني مع أن التكليف فيهما انحلالي ، وكذا إذا ورد في دليل    ( أكرم العلماء ) ثم ورد في دليل آخر ( أكرم العلماء العدول ) فيحمل الأول على الثاني ، والسبب في ذلك هي ظهور القيد في الإحتراز يعني أنّه يدل على أنّ الحكم - وهو وجوب الإكرام - لم يثبت للعالم على نحو الإطلاق وإنّما ثبت لحصةٍ خاصةٍ منه - وهو العالم العادل في المثال من دون العالم مطلقاً ولو كان فاسقاً - ومن الواضح أنّه لا فرق في دلالة القيد على ذلك بين كون التكليف واحداً أو متعدداً .


 


النتيجة :  لخّص السيد الخوئي البحث في مفهوم الوصف في ضمن نقاط       عدة () ، هي :


الأولى : ان محل الكلام هنا إنما هو في الوصف المعتمد علي موصوفه واما غير المعتمد فيكون حاله حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم . 


الثانية : إنّ ملاك الدلالة على المفهوم هو أنْ يكون القيد راجعاً إلى الحكم ، وأما إذا كان القيد راجعاً إلى الموضوع أو المتعلق فلا دلالة له على المفهوم ، وبما أنّ الوصف من القيود الراجعة إلى الموضوع أو المتعلق من دون الحكم فلا يدل على المفهوم .


الثالثة : إنّه قد استدل على المفهوم بأدلة ثلاث وقد تم مناقشتها جميعا . 


الرابعة : إنّ الحق في المقام هو التفصيل .


الخامسة : إنّ لهذه الدلالة ثمرة مهمة تظهر في الفقه ().


 


يبدو ممّا تقدّم : تأثر السيد الخوئي بإسلوب عرض اُستاذه المحقق النائيني لمفهوم الوصف ؛ إذ ذكر مقدمتين ومن ثمّ رد الأدلة التي اُعتمدت للقول بمفهوم الوصف ، فضلاً عن اعتماد السيد الخوئي على المعنى العرفي في بيان المطالب الأصولية ، بخلاف أساتذته فإنّهم يعتمدون على الدقة العقلية والفلسفية البعيدة عن النظر العرفي .


ويبدو أيضاً تبنّى السيد الخوئي رأياً جديداً في مفهوم الوصف وهو : إنّ النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إنْ كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها فإنّها لا تدل على المفهوم بوجه ، بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة . 


وإنْ كان في دلالتها على نفي الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فإنّها تدل على المفهوم جزماً إذ لا شبهة في ظهورها فيه إلّا فيما قامت قرينة على خلافه.


وتُعدّ هذه الإضافة عرضية على ما تبنّاه البحث في ضابط المدرسة . 


 


كما أضاف السيد الخوئي في بحثه لمفهوم الوصف مسألة بيان الفارق الدقيق بين الوصف المعتمد على موصوفه وغير المعتمد عليه ، وهذه المسألة لم يشر إليها مَنْ سبقه من الأصوليين ، وذكر أنّ لها آثاراً فقهيةً مهمة في مسألة حمل المطلق على المقيّد ، والفارق هو :


 إنّ الوصف المعتمد على موصوفه يدلّ على نفي الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه جزماً حيث لا شبهة في ظهورها فيه إلّا فيما قامت قرينة على خلافه . بخلاف الوصف غير المعتمد على موصوفه  فإنّه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وإنْ إنحلّ بحسب مقام اللب والواقع إلى شيءٍ له العلم إلّا أنّه لا أثر له في مقام الإثبات بعدما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان : أحدهما موصوف ، والآخر صفة له . 


وتُعدّ هذه الإضافة عرضية أيضاً على ما تبنّاه البحث في ضابط المدرسة . 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                          المبحث الرابع 


                         التطبيقات الفقهية


 


للسيد الخوئي في بحثه الفقهي تطبيقات كثيرة لقوله بعدم تعارض الإطلاق للعام ، وقوله بالتحصيص في المعاني الحرفية ، وما اختاره من تفصيلٍ في مفهوم الوصف ، كل ذلك أعرضه تباعاً وفي ثلاثة مطالب ، هي : 


 


المطلب الأول : تطبيقات التعهّد


 


لنظرية التعهّد عند السيد الخوئي (قده) تطبيقات عدّة ، منها :


 


أولاً : فتح الحمامي باب الحمام


 إنّه ربما يصدر عن المالك فعل يُبرز عن رضاه الباطني بتصرفٍ خاص بحيث يكون طريقاً مجعولاً وأمارة نوعية وحكاية عملية وهذا كفتح الحمامي باب الحمام ، فإنه بمثابة الإذن العام لكل من يريد الإستحمام ولا شكّ حينئذٍ في صحة الإعتماد على ذاك المُبرز من دون حاجةٍ إلى تحصيل العلم بالرضا لإستقرار بناء العقلاء بمقتضى التعهّد الوضعي على كشف ما في الضمير بمطلق المُبرز فعلاً كان أم لفظاً . ويترتب على ذلك صحة المعاطاة * لعدم الفرق في إبراز الإنشاء بين الفعل أو القول . فمثل هذا الفعل ملحق بالإذن اللفظي الصريح في الكشف عما في الضمير أعني الرضا بالتصرف الذي جُعل اللفظ أو الفعل كاشفاً عنه نوعاً () .


وقد تقدّم أنّ السيد الخوئي جعل استقرار السيرة العقلائية على التعهّد من مؤيدات نظرية التعهّد **، كما أنّ هذا التطبيق في تسرية التعهّد من الألفاظ الى الأفعال  .


 


ثانيا : أخذ الثمن من المشتري 


إنّ الكاشفية النوعية إنّما هي في باب حجية الظواهر ، إذ أنّ الألفاظ تدل على المعاني التي وضعت عليها الألفاظ بحسب الكاشفية النوعية العقلائية ، وظاهرة في ذلك لا من جهة التعبّد ببناء العقلاء بل من جهة تعهّد الواضع ، على أنّه متى أطلق اللفظ الفلاني فقد أراد المعنى الفلاني ويكون ذلك التعهّد سبباً ؛ لكون الظواهر كواشف عن المداليل وهي مرادة للمتكلم ، وأما في مقام أخذ الثمن من المشتري فلم يتعهّد البايع بأنّه متى أخذ الثمن فإنّه رضي بالمعاملة ؛ ليكون الأخذ كاشفاً نوعياً عن الرضا بالعقد . وعليه فلا كاشفية للأخذ عن ذلك .


 إذن فلا بدّ من الإقتصار بالعلم أو الظن الإطمئناني بأنْ تقوم القرينة على الكاشفية وحصول القطع وإلّا فلا أقل من الإطمئنان على ذلك الذي هو حجة عقلائية ، ومن هنا ظهر أنّ مطالبة البايع بالثمن أيضا يكشف عن رضاه بالعقد ، فإنّ المطالبة أعم من الأخذ ، وإنّ الأخذ أعم من الرضا بالعقد وعدمه ، فكيف تكون المطالبة كاشفة عن الرضا ؟ () .


ويلحظ في هذا التطبيق أنّه بخلاف التطبيق الأول ؛ إذ لم تكن هناك تسرية للتعهّد من الألفاظ الى الأفعال .


  


ثالثاً : سقوط الخيار بالتصرف إجمالا 


إذا كان التصرف تصرفاً خارجياً من غير أنْ يكون مغيراً للعين ، فهذا على أقسام ثلاثة :


1- كون التصرف بشخصه كاشفاً عن الرضا بالعقد وكونه مُسقطاً للخيار . 


2- ما يكون بنوعه كاشفاً عنه ، مثل دلالة الألفاظ .


والقسمان المتقدمان هما محل إشكال عند السيد الخوئي () ،


3 - ما لم يكن بنفسه كاشفاً عن الرضا بالعقد ولا بنوعه بل يكون مجرد تصرف خارجي ، فهل هذا مسقط للخيار أو لا ؟ وقد صرّح العلّامة الحلي بسقوط الخيار بالتصرف () .


وعلّق السيد الخوئي على القسم الثالث بقوله :     


( ولكن الظاهر أنّ هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه ، للفرق الواضح بين اللفظ والفعل في ذلك ، فإنّ اللفظ إنّما يكون كاشفاً عن إرادة المتكلم مدلول ذلك بحسب التعهّد ، فإنّ المتكلم قد تعهّد بأنّه إذا تكلم بلفظ فلاني فإنّه أراد المعنى الفلاني . وعليه فيكون الظن الحاصل من كاشفية اللفظ نوعاً حجة ومتبعاً بحسب قيام بناء العقلاء على ذلك ، وهذا بخلاف الفعل الفلاني ، فإنّه أراد المعنى الفلاني ليكون كاشفية متبعة ، غاية الأمر أنّه يحصل الظن من ذلك فهو ليس بحجة لعدم الدليل على إعتباره من بناء العقلاء وغيره كما لا يخفى ، وهذا هو الفرق بين اللفظ والفعل في الكاشفية وعدمها ) () .


 


المطلب الثاني : تطبيقات المعنى الحرفي 


 


أولاً : وجوب مسح بعض الوجه واليدين في التيمم


استدل السيد الخوئي بقوله تعالى : (...فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ...) ()على وجوب مسح بعض الوجه واليدين في التيمم الوارد لوجود الباء في "وُجُوهِكُمْ  " والمعطوف عليها " أَيْدِيكُم " ، إذ قال : ( إنّ لفظ الباء الجارة في  " بِوُجُوهِكُمْ " دلّتنا على إرادة بعض الوجه وعدم لزوم مسح تمام الوجه في التيمم ، كذلك تدلّنا على إرادة البعض في " أَيْدِيكُم " ) () مستدلاً بالروايات الواردة في هذا الباب مثل صحيحة زرارة :( محمد بن علي بن الحسين بإسناده ، عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر  : ألا تخبرني من أين علمت وقلت ، أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك فقال : يا زرارة قاله رسول الله  ، ونزل به الكتاب من الله عز وجل ؛ لأنّ الله عز وجل قال:(...فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ...)() فعرفنا أنّ الوجه كله ينبغي أنْ يغسل ثم قال : (...وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... )() فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أنْ يُغسلا إلى المرفقين ، ثم فصل بين الكلام فقال : (...وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ... )() فعرفنا حين قال : (بِرُؤُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال : (...وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ  *... )() فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثم فسّر ذلك رسول الله  للناس فضيّعوه ) ().


وفي بيان المراد من كلمة  "من" في قوله تعالى ( وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) ذكر السيد الخوئي : إنّ كلمة "من" تدل على الإبتداء وإنّ المسح في التيمم لا يمكن أنْ يكون مثل الغسل في الوضوء لأنّه في الوضوء تغسل الأعضاء بتمامها بالماء وليست أعضاء التيمم تمسح بالتراب بل لا بدّ في التيمم من مسح الأعضاء باليدين مبدوءاً بالتراب فهو مسح نشأ وابتداء بالتراب لا أنّ المسح ببعض   التراب ().


فوجود الباء في قوله تعالى : ( ...بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم ...) في آية التيمم أفاد وجوب المسح لبعض الوجه واليدين أي لحصةٍ منه ، وكذا وجود الباء في قوله تعالى :                    ( ... بِرُؤُوسِكُمْ...) في آية الوضوء أفاد أيضاً وجوب غسل حصةٍ خاصة من الرأس ، وهذا تطبيق لما تبنّاه السيد الخوئي من قوله في التحصيص في المعنى الحرفي وإنْ اتفقت نتيجته مع باقي فقهاء الإمامية في الآيتين الكريمتين ().


 


ثانياً : الحكم بحيضية المرأة القرشية والنبطية إلى ستين  


ورد في الروايات * أنّ كل امرأة تحيض إلى خمسين إلا القرشية والنبطية ** () وأشار السيد الخوئي إلى أنّ الحكم إما أنْ يثبت لها على نحو الطبيعة المهملة ، أو الطبيعة المطلقة ، أو الطبيعة المقيدة . والأول ممتنع لامتناع الحكم على الطبيعة المهملة . والثاني غير معقول ؛ إذ لازمه ثبوت الحكم  للمستثنى منه ، والمستثنى معا ، فيتعين أنْ يكون الحكم ثابتاً لها على نحو الطبيعة المقيّدة بغير الخاص والمستثنى لا محالة وهو ليس إلا التنويع ، والتحصيص ، فإنّ الحكم بالحيض إلى خمسين ، يثبت لنوع ذي حصةٍ من المرأة ـ وهي غير القرشية والنبطية ـ في حين أنّ الحكم بعدم الحيض لحصةٍ أخرى من المرأة : وهي غير القرشية والنبطية التي اجتازت الخمسين () .


فالسيد الخوئي يرى أنّ المعنى الحرفي يفيد التحصيص ولذا أفاد مما ورد في الروايات ( إلى خمسين ) حصةً خاصة من المرأة .


 


ثالثاً : بطلان الصلاة عند التكلّم بحرف واحد


ذكر السيد اليزدي أنّ الظاهر عدم البطلان بحروف المعاني مثل ( ل ) إذ إنّه لمعنى التعليل ، أو التمليك ، أو نحوهما وكذا مثل (و) حيث يفيد معنى العطف، أو القسم ، ومثل (ب) فإنّه حرف جر وله معان ، وإنْ كان الأحوط استحباباً البطلان مع قصد هذه المعاني ، وفرق واضح بينهما وبين حروف          المباني * () . 


وعلّق السيد الخوئي على ما تقدّم بقوله : ( فإنّ هذه الحروف وإنْ افترقت عن حروف المباني في كونها موضوعة لمعنىً ما إلا أنّ ذلك المعنى لمّا كان من المعاني الحرفية التي هي غير مستقلةٍ ولا تفيد إلا لدى الإنضمام مع الغير فلا جرم كانت عند الإنفراد من مصاديق المهمل وبذلك تفترق عن مثل الأمر من     ( وعى ) أو ( وقى ) لكونها مفيدة للمعنى باستقلالها ، بل أنّها لدى التحليل مركبة من حروف ثلاثة لكون موضوع المركب أعم من المذكور والمقدر. هذا كله بناءً على اختصاص المبطل بما تركب من حرفين ، وأما على المختار من كفاية الحرف الواحد فالأمر واضح ) (). 


ويتبيّن أنّ السيد الخوئي قد أفتى ببطلان الصلاة عند التكلم عمداً ولو بحرفٍ واحدٍ سواء أكان هذا الحرف مفهم لمعنى مثل (قِ) من الوقاية أم غير مفهمٍ         لمعنى كحروف المعاني أو المباني لصدق عنوان التكلم في الصلاة() ؛ لأنّها من المعاني الحرفية التي هي غير مستقلة ولا تفيد إلا لدى الإنضمام مع الغير، بخلاف السيد اليزدي الذي يرى الأحوط إستحباباً بطلان الصلاة عند التكلم بحروف المعاني مع القصد ، بينما يرى عدم البطلان في حالة التكلم بحروف المباني . 


 


 


المطلب الثالث : تطبيقات الإطلاق


 


للسيد الخوئي في مبحث عدم أهلية الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة للتعارض مع العام الثابت بالوضع تطبيقات عديدة منها :


أولا : عدم اعتبار العصر أو التعدد في طهارة الثوب أو الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر ونفذ في جميعه


إنّ الثوب أو الفراش النجس إذا تقاطر عليه المطر ونفذ في جميعه يطهر ولا يحتاج إلى العصر أو التعدد ، وإذا وصل إلى بعضه من دون بعض طهر ما وصل إليه ، إذا لم يكن فيه عين النجاسة ، وإلا فلا يطهر إلا إذا تقاطر عليه بعد زوال عينها () ، ذكر السيد الخوئي أنّه : ( إذا كان المتنجس مما يعتبر في غسله العصر كالثياب أو التعدد كما في أواني الخمر حيث ورد الأمر بغسلها ثلاث مرات ،  فهل يعتبر ذلك في غسله بالمطر أيضا ؟ فإنْ قلنا بصحة المراسيل * واعتبارها ولو بدعوى انجبارها بعمل الأصحاب فلا نعتبر في الغسل بالمطر شيئاً من العصر والتعدد ؛ وذلك لأنّ النسبة بين مرسلة الكاهلي **  وما دل على اعتبار التعدد أو العصر *** عموم من وجه ، إذ المرسلة بعمومها دلت على أنّ كل شيءٍ رآه المطر فقد طهر سواء أكان ذلك الشيء مما يعتبر فيه العصر أو التعدد أم لم يكن ، كما أنّ مقتضى إطلاق ما دل على اعتبار العصر أو التعدد عدم الفرق في ذلك بين أنْ يصيبه المطر وأنْ يغسل بماءٍ آخر فيتعارضان في مثل غسل آنية الخمر بالمطر . والترجيح مع المرسلة لما قررناه في محله **** من أن العموم مقدم على الإطلاق في المتعارضين . فإن دلالة المرسلة بالوضع والعموم لمكان لفظة ( كل) فلا يعتبر في إصابة المطر شيءٌ من التعدد والعصر بل نكتفي في تطهيره بمجرد رؤية المطر ) ().


 


ثانيا : القيام الإضطراري في الصلاة مقدّم على الجلوس


 


في مسألة : القيام الإضطراري في الصلاة بأقسامه من كونه مع الإنحناء أو الميل إلى أحد الجانبين أو مع الإعتماد أو مع عدم الإستقرار ، أو مع التفريج الفاحش بين الرجلين مقدم على الجلوس () .


وذكر السيد الخوئي أنّه لا بدّ من مراعاة قواعد باب التعارض بتقديم الدليل اللفظي على اللبي  ، وإذا كانا لفظيين يقدّم ما كان بالوضع على ما كان بالإطلاق ، وإذا كانا بالإطلاق كما هو الغالب فيتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه في المقام هو التخيير لأصالة البراءة عن كل من الخصوصيتين () .


وأما التطبيق على المقام فهو : إذا دار الأمر بين ترك القيام رأساً وبين ترك الإنتصاب فمقتضى القاعدة حينئذٍ بعد سقوط الإطلاقين هو التخيير لكن في خصوص المقام يتعين الثاني فيصلي عن قيامٍ إنحنائي ، ولا ينتقل إلى الصلاة جالساً ، وذلك لتقييد هذا الإنتقال في غير واحدٍ من الأخبار مما ورد في تفسير قوله تعالى :( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ...)()، وغيرها ولعل أوضحها قوله  في ذيل صحيحة جميل : ( إذا قوى فليقم )() ، بالعجز عن القيام الظاهر بمقتضى الإطلاق في إرادة الطبيعي منه ، فمتى كان قادراً على طبيعي القيام صلى قائماً ، وإنْ كان عاجزاً عن بعض الخصوصيات المعتبرة فيه التي منها الإنتصاب . ولأجله يتقيد قوله صلى الله عليه وآله :         ( لا صلاة لمن لم يقم صلبه )() بالمتمكن من ذلك .


 


 وبعبارة أخرى : صحيحة جميل حاكمة *على دليل وجوب الإنتصاب إذ النظر في دليل الوجوب مثل قوله  : ( لا صلاة لمن لم يقم صلبه ) مقصور على مجرد إعتبار إقامة الصلب في الصلاة سواء أكانت عن قيام أم عن جلوس على ما هو الحق تبعاً للمشهور**  من إعتباره فيهما معاً من غير أنْ يكون لهذا الدليل نظر إلى تعيين الوظيفة ، وأنّها الصلاة قائماً أو جالساً وإنّما يستفاد ذلك من دليل آخر . وبما أنّ صحيحة جميل قد دلت على أنّ الوظيفة عند التمكن من مطلق القيام إنّما هي الصلاة قائماً فلا جرم لم يبق موضوع لدليل وجوب الإنتصاب ؛ إذ المفروض عدم التمكن منه إلا مع الجلوس وقد دلت الصحيحة على أنّه لا تصل النوبة إلى الصلاة جالساً . ومما يدل على ذلك صحيحة علي بن يقطين الواردة في الصلاة في السفينة . فقد روى الشيخ في الصحيح عنه عن أبي الحسن ـ الإمام الكاظم ـ  قال : سألته عن السفينة لم يقدر صاحبها على القيام يصلي فيها وهو جالس يوميء أو يسجد ؟ قال يقوم وإن حنى ظهره () وهي صريحة في المدّعى ، وإنّ من تمكن من الصلاة عن قيامٍ ولو بغير الإنتصاب تعين وقدم على الصلاة جالسا . وفيما إذا دار الأمر بين الصلاة جالساً وبين الصلاة قائماً من غير إستقلال قدم الثاني أيضا بلا إشكال :


 


 أما أولا : فلأنّ وجوب الإستقلال مقيد بالتمكن وحالة الإختيار ، فإنّ عمدة الدليل عليه هو صحيحة إبن سنان () وموثقة *** إبن بكير() وكل منهما مقيّد بذلك .


و ثانيا : لو لم نبنِ على الإنصراف فأيضاً لا تكون موافقة السنة مرجّحة في أمثال المقام ، لأنّ موافقة الكتاب والسنة إنّما توجب الترجيح فيما إذا كان عمومها لفظيا. وأما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة فلا أثر لموافقتهما ؛ لأنّ الإطلاق ليس من الكتاب والسنة فالموافقة معه ليست موافقة لهما ().


ثالثاً : حكم الحج لمن كان من أهل مكة وخرج إلى بعض الامصار ثم رجع اليها:


 ذكر اليزدي في مسألة : من كان من أهل مكة وبعد عنها ثم أراد الحج فهل يحج تمتعاً أو إفراداً ؟ () ، وبيّن السيد الخوئي () أنّ في المسألة رأيين :


الاول : للمشهورالذي ذهب إلى جواز حج التمتع له وإمكان إجراء حكم النائي عليه .


الثاني : لإبن أبي عقيل العماني * الذي ذهب إلى عدم جواز ذلك له وأنّه يتعيّن عليه فرض المكي () ، فبعد أنْ ذكر أدلة الطرفين وهي : الصحيحتين ،الأولى : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي عبد الله  قال:( سألته عن رجل من أهل مكة يخرج إلى بعض الأمصار ثم يرجع إلى مكة ، فيمر ببعض المواقيت أله أن يتمتع ؟ قال : ما أزعم أن ذلك ليس له لو فعل وكان الاهلال أحبّ إلي **) () ، والثانية عن عبد الرحمن بن الحجاج وعن عبد الرحمن بن أعين قالا : سألنا أبا الحسن  عن رجل من أهل مكة خرج إلى بعض الأمصار ، ثم رجع فمر ببعض المواقيت التي وقت رسول الله  له أن يتمتع ؟ فقال :ما أزعم أنّ ذلك ليس له ، والإهلال بالحج أحب إليّ )() ، فما ورد من أنّه : لا متعة للحاضر وليس لأهل مكة متعة () يخصَّص بهاتين الصحيحتين . فبعد أنْ ذكر السيد الخوئي ذلك علّق عليه :


 بأنّ  ظاهر الخبرين الصحيحين هو الحج الواجب وبهما تقيد العمومات المانعة ؟ عن المتعة لأهل مكة ، فالنتيجة جواز التمتع له وإنْ كان الافراد أفضل وأحب . وأنّه لو سلّمنا عدم ظهور الصحيحين في الحج الواجب فلا أقل من إطلاقهما للواجب والمندوب لاسيّما الصحيحة التي رواها الكليني () مع إختصاصهما بإرادة الحج من الخارج ، كما لا ريب في اطلاق ما دل على المنع من التمتع الواجب لأهل مكة من جهة إرادة الحج من مكة أو من خارجها فمقتضى إطلاق الصحيحين جواز التمتع له حتى في الحج الواجب من الخارج كما أنّ مقتضى إطلاق ما دل على أنّه لا متعة لأهل مكة عدم جواز التمتع له وإنْ حج من الخارج ، ويتعارض الإطلاقان من الطرفين ويتساقطان،ولا يمكن الرجوع إلى إطلاق الآية الكريمة : (... ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...)() ؛ لأنّها في جانب الأخبار المعارضة ، وحينئذ لا يكون إطلاق الآية مرجعاً ولا مرجّحاً لأحد الطرفين كما توهمه السيد اليزدي ( ت : 1337هـ)() ؛ وذلك لأنّ الترجيح بالكتاب العزيز إنّما هو فيما إذا كانت دلالته دلالة لفظية ، وأما إذا كانت الدلالة بالإطلاق فقاعدة الترجيح بالكتاب غير جارية ، إذ ليس ذلك مدلولا لفظيا للكتاب ، لأنّ الإطلاق مستفاد من قيد عدمي ، والعدمي ليس من القران الكريم ليكون مرجعاً أو مرجّحاً لأحد الطرفين .


 إنّ مورد الرجوع إلى القران الكريم والترجيح به إنّما هو فيما إذا كان عدم العمل بالقرآن منافيا للظهور اللفظي بحيث يصدق أنّه قال الله تعالى كذا في الكتاب ، وهذا المعنى لا يصدق على مجرد الإطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة . 


وعليه فلا مجال للرجوع إلى إطلاق الكتاب ولسقوطه بالتعارض ، فالمرجع إطلاق ما دل على أصل وجوب الحج المقتضي للتخيير بين الأقسام الثلاثة ، فإنّ الواجب إنّما هو طبيعي الحج ، والتقييد ببعض الأقسام قد سقط بالمعارضة على الفرض () .


 


المطلب الرابع : تطبيقات مفهوم الوصف


 


أولاً : حرمة أكل الدم المتخلّف في الذبيحة وإنْ كان طاهراً


ذكر السيد الخوئي الوجوه التي إعتمدها المحقق البحراني في عدم حرمة الدم المتخّلف في الذبيحة ، والتي منها قوله تعالى : ( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ...)() ، بدعوى أنّه يقتضي حلية أكل الدم المتخلّف في الذبيحة () ، ثم أخذ السيد الخوئي بمناقشة هذا الوجه بقوله : (وإنْ كان نظره ( قده ) إلى توصيف الدم في الآية المباركة بكونه مسفوحاً وإنّ مفهوم الوصف يقتضي حلية غير المسفوح منه فيتوجه عليه : إنّا وإنْ إلتزمنا بمفهوم الوصف أخيراً إلا أنّ مفهومه على ما شرحناه في محله  أنّ الحكم لم يترتب على طبيعة الموضوع أينما سرت لإستلزام ذلك لغوية التوصيف إلا فيما إذا كان له فائدة ظاهرة ، فيستفاد منه أنّ الحكم مترتب على حصةٍ خاصةٍ منها ، مثلا : إذا ورد ( أكرم الرجل العادل) يدل توصيف الرجل بالعدالة على أنّ طبيعيّه على إطلاقه غير واجب الإكرام وإلا لم يكن وجه لتقييده بالعدالة بل إنّما يجب إكرام حصة خاصة منه وهو الرجل المتصف بالعدل ، ولكن لا دلالة له على أنّ فاقد الوصف أعني المتصف بصفةٍ أخرى غير محكوم بذلك الحكم ولو بسبب وصف آخر ، وعلى الجملة أنّ التوصيف وإنْ كان ظاهراً في الإحتراز إلا أنّه لا يدل على نفي الحكم عن غير موصوفه فالآية لا دلالة لها على عدم حرمة الدم غير المسفوح ) () .


 


ثانياً : يجوز للمريض الإقتصار على الفاتحة وحدها في الصلاة 


يذهب السيد الخوئي الى الأحتياط في وجوب السورة الأخرى غير سورة الفاتحة ، ولذا لا ريب في سقوطها في بعض الحالات مثل حالتي المرض والإستعجال().


وفي سقوط السورة الأخرى في حالة المرض ذكر السيد الخوئي  روايات، منها : 


صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله   قال : ( يجوز للمريض أنْ يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها ، ويجوز للصحيح في قضاء صلاة التطوّع بالليل والنهار) ()، فإنّ التقييد بالمريض يدل على عدم جواز الاقتصار على الفاتحة في حال الصحة .


 وأورد عليه : بأنّ مفهوم الوصف ليس بحجة ، ومن الجائز أنْ تكون النكتة في التعرض للمريض بخصوصه عدم تأكد الإستحباب في حقه () .


 


وبيّن السيد الخوئي أنّ هذا الإيراد يندفع بما حقّقه في الأصول *  من ثبوت المفهوم للوصف لا بالمعنى المصطلح ، أعني انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، بل معنى عدم كون الطبيعي على اطلاقه وسريانه موضوعا للحكم وإلا كان التقييد لغواً محضاً ، وعليه فتدل الصحيحة بمقتضى المفهوم على أنّ الموضوع لجواز الاقتصار على الفاتحة ليس هو مطلق المكلفين وأنّ السورة واجبة على بعضهم في الجملة وهو المطلوب إذ لا ندّعي وجوبها على الإطلاق ، ولذا تسقط لدى الاستعجال .


 ويؤيد ذلك - أعني عدم الوجوب على الإطلاق والسقوط في بعض الأحوال - ما في ذيل الصحيحة من جواز الإقتصار على الفاتحة أيضاً للصحيح في قضاء صلاة التطوع ، أي في النوافل الليلية والنهارية والمراد بالقضاء معناه اللغوي ، أعني مطلق الإتيان بالشيء من دون المعنى المصطلح ، فإنّ سقوط وجوب السورة عن النوافل تعم الأداء والقضاء () . 


 


ثالثاً : إذا شكّ المصلي في القيام المتصل بالركوع


إذا شك المكلّف في الركوع بعد الدخول في السجود فلا إشكال في عدم الإعتناء لقاعدة التجاوز الجارية في المقام ، أما إذا كان في حال الهوي قبل الدخول في السجود ، فإذا كان المراد من القيام الواجب بعد الركوع خصوص المتصل من غير تخلل الفصل ،فلا إشكال أيضاً في عدم الاعتناء ، لعدم إمكان التدارك بعد فرض تخلل الفصل بالهوي إلى السجود .


وإنْ كان المراد بالقيام الواجب بعد الركوع مطلق القيام ، سواء أكان موصولاً أم مفصولاً فيبتني عدم الإعتناء على جريان قاعدة التجاوز عند الدخول في مقدمات السجود ، والهوي منها ، فبناءً على تعميم الغيرـ أدى المكلف واجباً ودخل في غيره ـ الذي يعتبر الدخول فيه في جريان قاعدة التجاوز للمقدمات يُحكم بجريان القاعدة ، أما بناءً على الإختصاص بالدخول في الأجزاء نفسها كما هو الأقوى عند السيد الخوئي فلا تجري القاعدة ولا بدّ من الإعتناء لكونه من الشك في  المحل ().


ويمكن إستفادة عدم كفاية الدخول في المقدمات من جملة من النصوص ، إذ قيّد فيها عدم الإعتناء بالشك في الركوع فيما إذا كان ذلك بعد الدخول في السجود ، الظاهر في لزوم الإعتناء قبله ، ولو كان في حال الهوي . ومن هذه النصوص :  


صحيحة إسماعيل بن جابر قال : قال أبو جعفر  : إنْ شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض وإنْ شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيءٍ شكّ فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ().


وقرّب السيد الخوئي الإستدلال بهذه الصحيحة على عدم كفاية الدخول في الهوي من جهة مفهوم الوصف بقوله : ( حيث قيّد عدم الإعتناء بالشك في الركوع بما إذا كان ذلك بعد الدخول في السجود ، وقد ذكرنا في الأصول أنّ الوصف وإنْ لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح أعني العلية المنحصرة المساوقة للإنتفاء عند الإنتفاء لكنّها تدل على أصل العلية أعني عدم كون الطبيعة على إطلاقها وسريانها موضوعاً للحكم ، وإلا كان التقييد بالوصف لغواً محضاً ، فالتقييد في المقام يدل على أنّ طبيعي الشك في الركوع أينما سرى وحيثما تحقق ولو كان في حال الهوي ليس موضوعا لعدم الإعتناء ، وإلا كان التقييد بما بعد السجود لغواً ) () .


 


رابعاً : بطلان بيع الفضولي


ذكر الشيخ الأنصاري ( ت : 1281هـ) أنّه : اُستدل على بطلان بيع الفضولي وعدم صحته بالإجازة اللّاحقة بوجوهٍ عديدة من الأدلة الأربعة : أما الكتاب ، فقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ...)()، ووجه الإستدلال بها على المقصود بوجهين :


 1- إنّها قد دلّت على إنحصار أكل مال الناس بالتجارة عن تراضٍ ، فالمعنى أنّه لا يتصرف بعضكم في أموال بعضكم الآخر بوجهٍ من الوجوه ، فإنّه باطل إلا بوجه التجارة عن تراض فإنه جائز ، ولا شبهة في أنّه لو لم يقصد هذا المعنى لزم الإجمال ، وقلة الإرتباط بين المستثنى والمستثنى منه . ومن الظاهر أنّ بيع الفضولي ليس تجارة عن تراض فيكون أكل المال به أكلاً له بالباطل . 


2- سياق التحديد ، فإنّ كل وصفٍ ورد في مقام التحديد يدل على إختصاص الحكم بمورد الوصف وإنْ لم نقل بمفهوم الوصف ، فإنّ البحث عن ذلك إنّما هو في ورود الوصف في غير مورد التحديد وإلا فلا شبهة في ثبوت مفهومه ، ومن الظاهر أنّ قيد التراضي وصف ورد في مورد التحديد فيدل على إنحصار جواز الأكل بمورد القيد فقط () .


 أما الوجه الأول فقد ناقشه الشيخ مرتضى الأنصاري ، بأنّ دلالة الآية على الحصر متوقفة على كون الإستثناء متصلاً مع أنّه منقطع ، إذ لا يصح إستثناء التجارة الصحيحة من التجارة الفاسدة ، فلا يستفاد حصر أكل المال بالتجارة عن تراض لكي يستفاد منه بطلان بيع الفضولي ().


 


وقد ناقش السيد الخوئي كلامَ الشيخ الأنصاري المتقدم بأنّه : يتوجه على الوجه الأول أنّه لا شبهة في ثبوت مفهوم الوصف وإلا لكان القيد لغواً ، ولكن فائدة القيد ليست إنتفاء الحكم عند إنتفائه بل فائدته إنّما هي الدلالة على عدم ثبوت الحكم للطبيعة السارية . ولو سلّمنا عدم دلالة الوصف على المفهوم ولكن ذلك فيما لا قرينة على إنتفاء الحكم عند إنتفاء القيد ، وإلا فلا شبهة في ثبوته ، كما إذا ذكر الوصف في مقام التحديد ؛ لأنّ وقوعه في مقام التحديد قرينة مقامية على إختصاص الحكم بمورد الوصف ، ولو قلنا بعدم ثبوت المفهوم له . والوجه في ذلك هو أنّ الحدّ لا بدّ وأنْ يكون جامعاً للأفراد ومانعاً عن الأغيار ، ومن الظاهر أنّه لو لم يكن مفهوم للوصف لما كان كذلك ، ومن هذا القبيل قوله  : ( كرٌ من الماء)() ، في جواب السائل عن الماء الذي لا ينجّسه شيء ، فإنّ الإمام  ذكره في مقام تحديد الماء الذي لا ينفعل ، فيدل على إنتفاء الحكم عند إنتفاء القيد ، وذكر التراض في الآية الكريمة من القبيل المذكور ؛ لأنّه متوجّه إلى فصل الأسباب الصحيحة للمعاملة عن الباطلة لها وحصر أسبابها الصحيحة بالتجارة عن تراض فلا شبهة في قيام القرينة على كون قيد التراض مسوقاً إلى تحديد الأسباب الصحيحة للتجارة وحصرها بالتجارة عن تراض(). 


 


أما الوجه الثاني فقد ناقشه بأنّه :( يتوجه على الوجه الثاني أنّه لا يفرّق في دلالة الآية على إعتبار التراضي في التجارة وتقييدها به بين كون لفظ عن تراض قيداً للتجارة وبين كونه خبراً ثانياً لـ " تكون " ، فإنّه على كل تقدير تدل الآية الشريفة على بطلان التجارة غير الناشئة من الرضا وطيب النفس . نعم إذا كان لفظ عن تراض خبراً بعد خبر لـ " تكون " خرج ذلك عن دائرة مفهوم   الوصف )().


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                              


الفصل الثاني : مباحث الظن


 


 


المبحث الأول : حجيّة الإجماع


      المطلب الأول : الإجماع لغةً واصطلاحاً 


       المطلب الثاني : حجية الإجماع المنقول


       المطلب الثالث : أدلة حجية الإجماع المحصّل


 


المبحث الثاني : حجية الشهرة الفتوائية


     المطلب الأول : الشهرة لغةً واصطلاحاً 


     المطلب الثاني : أدلة الشهرة بأقسامها ومناقشتها


 


المبحث الثالث : تطبيقات فقهية


     المطلب الأول:  تطبيقات الإجماع 


    المطلب الثاني : تطبيقات الشهرة


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


الفصل الثاني


مباحث الظن


 


تتضمن مباحث الظن مسائل عدّة ، هي : إمكان التعبد بالظن ووقوعه ، حجية  الظواهر ، حجية قول اللغوي ، الإجماع المنقول ، حجية الشهرة ، حجية خبر الواحد ، حجية الظن المطلق ، حجية الظن بالأصول الاعتقادية .


وبما أنّ السمة الواضحة للبحث الفقهي عند السيد الخوئي هي كثرة المناقشات في الإجماعات المنقولة والشهرة الفتوائية ، أوصلته الى نتائج تختلف وتخالف مًنْ سبقه من الفقهاء في موارد عديدة ؛ لذا جاء هذا الفصل لبيان هاتين المسألتين الأصوليتين ، مع الإعراض عن بقية المسائل الأصولية في مباحث الظن ؛ لأنها لا تشكّل معلماً مميّزاً وبارزاً للبحث الأصولي عند السيد الخوئي يؤثر في بيان معالم مدرسته الأصولية.


 


                 المبحث الأول : حجية الإجماع 


 


يشتمل مبحث الإجماع على ثلاثة مطالب هي :


 


المطلب الأول : الإجماع لغةً واصطلاحاً


 


الإجماع لغةً  : العزم والاتفاق () .


 أما الإجماع إصطلاحاً : فقد عرّف بتعريفات عدّة أهمها :


1ـ   إتفاق أهل الحَلّ والعقد () .


 2ـ إتفاق أمة محمد صلّى الله عليه وآله خاصة على أمرٍ من الأمور الدينية () . 


3ـ اتفاق المجتهدين منهم في عصر من العصور () .


4ـ اتفاق الصحابة () .


 


 5ـ اتفاق أهل المدينة () ، وقيل : غير ذلك () .


6ـ  إجماع الأمة بشرط أنْ يُعلم منه دخول المعصوم فيه () ، وقريب من تعريف المحقق القمي ( ت : 1231هـ )() . 


7ـ  هو إتفاق أهل الحَلّ والعقد الذين منهم الإمام الملازم لوجوده فيهم () .


8ـ إتفاق جماعةٍ لإتفاقهم شأنٌ في إثبات الحكم الشرعي () .


 


ومال السيد الخوئي في تعريف الإجماع  إلى ما ذكره الشيخ الطوسي والمحقق القمي ، ويُستظهر ذلك من كلامه في بيان المناط في حجية الإجماع ، إذ قال :  ( فمناط حجية الإجماع إنّما هو كشف أقوال المُجمعين عن قول الإمام عليه السلام بحيث تكون أقوالهم سبباً للقطع بقوله عليه السلام ) () .


يتبيّن مما تقدم : إنّ المعنى الاصطلاحي مأخوذ من المعنى اللغوي وهو الإتفاق ولكن مع الإختلاف في نوع المتّفقين ، وأنّهم : مطلق الأمة أو خصوص المجتهدين منهم ، أو خصوص أهل الحَلّ والعقد ،...الى آخر ما تقدم من الأقوال في هذه المسألة . 


والأرجح في تعريف الإجماع هو ما ذكره الشيخ الطوسي والمحقق القمي ومال إليه االسيد الخوئي ؛ لكونه أكثر دقةً من بقية التعاريف ، وتضمّنه المناط في حجية الإجماع وهو الكشف عن قول المعصوم .


مع أنّه يُلحظ عليه : عدم بيان نوع المُجمعين : أعني بذلك هل هم الفقهاء أو غيرهم ؟ ومع فرض كونهم من الفقهاء هل هم من المتقدّمين على المحقق الحلي           ( ت : 676هـ) ـ أمثال الشيخ محمد بن علي الصدوق ( ت :381 هـ) والشيخ المفيد ( ت :413هـ) والسيد المرتضى( ت : 436هـ) والشيخ الطوسي            ( ت : 460هـ) ـ  أو من المتأخرين ـ أي ما بعد المحقق الحلي والعلّامة الحلي    ( ت : 726هـ) ـ من الفقهاء ؟ 


ولذا يرى الباحث أنّه ينبغي تعريف الإجماع بـ : إتفاق جماعة ، يكون إتفاقهم سبباً للكشف عن رأي المعصوم عليه السلام ، وأنْ يقييد بـ  : شريطة أنْ يكون هذا الإجماع محكياً عن المحقق الحلي أو العلّامة الحلي أو الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ( ت :786هـ) ؛ لأنّهم يحكون نفس الفتاوى وبلسان الإجماع الكاشفة عن وجود دليلٍ معتبر، كما ذهب إلى ذلك المحقق النائيني() .


 


المطلب الثاني : حجية الاجماع المنقول


 


يتفرّع البحث عن حجية الإجماع المنقول على القول بحجية خبر الواحد ؛ إذ لو قلنا بعدم حجية الخبر لا تصل النوبة إلى البحث عن حجية الإجماع المنقول . نعم بعد ثبوت حجية الخبر يقع الكلام في شمول أدلتها للإجماع المنقول وعدمه ، إلا أنّ السيد الخوئي تعرّض له قبل بحثه عن حجية خبر الواحد تبعاً للشيخ مرتضى الأنصاري( ت : 1281هـ ) ومَن سبقه من الأصوليين () .


والمقصود من الإجماع المنقول : هو الإجماع الذي لم يحصّله الفقيه بنفسه وإنّما ينقله له من حصّله من الفقهاء ، سواء أكان النقل له بواسطةٍ أم بوسائط () .


ولأجل أنّ حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد متفرعٌ على حجية خبر الواحد وبيان حال الإجماع المنقول وأنّه ينطبق على أيّ حالٍ من حالات الإخبار؟ ذكر علماء الأصول ومنهم السيد الخوئي أنّ الإخبار عن الشيء له خمس        حالات () :


 


الأولى : أنْ يكون إخباراً عن حسٍ ومشاهدة : ولا إشكال في حجية هذا القسم من الأخبار ببناء العقلاء ؛ فإنّ إحتمال تعمّد المُخبِر بالكذب مدفوع بعدالته أو وثاقته ، وإحتمال غفلته مدفوع بأصالة عدم الغفلة التي استقر عليها بناء العقلاء .


 


الثانية : أنْ يكون إخباراً عن أمرٍ محسوس مع احتمال أنْ يكون إخباره مستنداً إلى الحدس لا إلى الحس، كما إذا أخبر عن المطر مثلا ، مع إحتمال أنّه لم يره ، بل أخبر به إستناداً إلى المقدمات المستلزمة للمطر بحسب حدسه ، كالرعد والبرق مثلا: وهذا القسم أيضا ملحق بالقسم الأول ؛ إذ مع كون المخبَر به من الأمور المحسوسة العين فظاهر الحال يدل على كون الإخبار إخباراً عن الحس ، فيكون حجة كما ذكر في الحالة الأولى .


 


الثالثة : أنْ يكون إخباراً عن حدسٍ قريب من الحس ، بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة ، كالإخبار بأنّ حاصل ضرب عشرة في خمسة يصير خمسين مثلا : وهذا القسم من الأخبار أيضا ملحق بالقسم الأول في الحجية ؛ لأنّ إحتمال الخطأ في هذه الأمور القريبة من الحس بعيد جداً ، ومدفوع بالأصل العقلائي وإحتمال تعمّد الكذب مدفوع بالعدالة أو الوثاقة ، كما تقدم في الحالة الأولى .


 الرابعة : أن يكون إخباراً عن حدسٍ مع كون حدسه ناشئاً من سببٍ كانت الملازمة بينه وبين المخبَر به تامة عند المنقول إليه أيضاً ، بحيث لو فرض إطلاعه على ذلك السبب لقطع بالمخبَر به ():


 ويرى السيد الخوئي : إنّ هذا القسم من الأخبار أيضا حجة ، فإنّه إخبار عن الأمر الحسّي ، وهو السبب ، والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين المُخبَر به في نظر المنقول إليه أيضا ().


 


الخامسة : يكون إخباراً عن حدسٍ مع كون حدسه ناشئاً من سببٍ كانت الملازمة بينه وبين المُخبَر به غير تامةٍ عند المنقول إليه (): 


بيّن السيد الخوئي أنّ هذا القسم من الإخبار لم يدل دليل على حجيته ، فإنّ إحتمال تعمّد الكذب ، وإنْ كان مدفوعاً بالعدالة أو الوثاقة ، إلا أنّ إحتمال الخطأ في الحدس مما لا دافع له ، إذ لم يثبت بناءٌ من العقلاء على عدم الإعتناء بإحتمال الخطأ في الأمور الحدسية (). 


وصرّح السيد الخوئي بأنّ الإجماع المنقول هو من الحالة الخامسة ؛ لأنّ الناقل للإجماع لا يُخبر برأي المعصوم عليه السلام عن الحس ،أو ما يكون قريبا منه، ولا عن حدسٍ ناشيءٍ عن سببٍ كان ملازماً لقول المعصوم عليه السلام ، فإنّ الإجماع المدّعى في كلام الشيخ الطوسي ( ت : 460هـ ) مبني على كشف رأى المعصوم عليه السلام من إتفاق علماء عصرٍ واحدٍ بقاعدة اللطف () ، وهي غير تامةٍ ، وأوهن منه الإجماع المدّعى في كلام السيد المرتضى () ، فإنّه كثيراً ما ينقل الإجماع على حكمٍ يراه مورد قاعدةٍ اُجمع عليها ، أو مورد أصلٍ كذلك مع أنّه ليس من موارد تلك القاعدة أو الأصل حقيقة ، كدعواه الإجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف () إستناداً إلى أصالة البراءة ، مع أنّه لا قائل به فيما نعلم من فقهاء الإمامية ، وليس الشك في جواز الوضوء بالمائع المضاف من موارد أصالة البراءة () . 


وكذا الحال في الإجماع المدّعى في كلمات جماعةٍ من المتأخرين () المبني على الحدس برأي المعصوم من إتفاق جماعةٍ من الفقهاء ؛ إذ لا ملازمة بين هذا الإتفاق ورأي المعصوم بوجه .


 نعم لو علم إستناد ناقل الإجماع إلى الحس ، كما إذا كان معاصراً للإمام عليه    السلام ، وسمع منه الحكم ، فنقله بلفظ الإجماع ، فلا مجال للتوقف في الأخذ به وكان مشمولاً لأدلة حجية الخبر بلا إشكال ، إلا أنّ الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة ، بل نقطع بعدمها ، فإنّا نقطع بأنّ الإجماعات المنقولة في كلمات الأصحاب غير مستندةٍ إلى الحس ، ونرى أنّ ناقلي الإجماع ممن لم يدرك زمان الحضور. وأما زمان الغيبة فإدّعاء الرؤية فيه غير مسموعٍ مع أنّهم أيضا لم يدّعوها () .


 


رأي المحقق العراقي


وهو إلتزام حجية الإجماع المنقول في كلمات القدماء ؛ بدعوى أنّه يحتمل أنْ يكون مستند القدماء هو السماع من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة ، لقرب عصرهم من زمان الحضور ، فضمّوا إلى قول المعصوم أقوال العلماء ، ونقلوه بلفظ الإجماع ، فيكون نقل الإجماع من المتقدمين من القسم الثاني من الإخبار ـ وهو ما كان الإخبار عن أمرٍ حسي ـ مع إحتمال أنْ يكون الإخبار به مستنداً إلى الحدس().


ولم ينسب السيد الخوئي هذا الرأي الى قائله بل اكتفى بالتعبير عنه بـ (بعض الأعاظم) ، وتبيّن للباحث أنّه للمحقق العراقي ( ت :1361هـ ) () .  


المناقشة 


ناقش السيد الخوئي  رأي المحقق العراقي في محورين :


المحور الأول : إنّ هذا الاحتمال - أي إستناد القدماء في نقل الإجماع إلى الحس - إحتمال موهوم جداً ، بحيث يكاد يلحق بالتخيّل فلا مجال للإعتناء به ،  وأما ما ذُكر من أنّ إحتمال كون الإخبار مستنداً إلى الحس كافٍ في حجية ، فهو فيما إذا كان الإحتمال عقلائياً ، لا الإحتمال البعيد غاية البعد الملحق بأمرٍ خيالي .


 ووجه بُعد هذا الإحتمال وكونه موهوماً أمران :


  أولا : تتبّع إجماعات القدماء كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي ، وإستناد االثاني في دعوى الإجماع إلى قاعدة اللطف لا إلى الحس من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة ، وإستناد الأول إلى أصلٍ أو قاعدةٍ كان تطبيقهما بنظره ، فلو لم ندّع القطع بعدم إستنادهما إلى الحس من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة ، لا أقل من عدم الإعتناء بإحتمال الإستناد إلى الحسّ . 


ثانيا : إنّه لو كان الأمر كذلك كان المتعيّن هو النقل عن المعصوم  ، كبقية الروايات ، لا نقل الإجماع ، فإنّ نقل الإجماع - بعد كونه كاشفاً عن قول المعصوم  مع كون نفس قول المعصوم محسوساً له ولو بالواسطة - يكون شبيها بالأكل من القفاء .


المحور الثاني : إنّه على فرض التنزّل وتقدير تسليم ذلك وإنّ إجماع  القدماء مستند إلى الحس بالواسطة فيكون الإجماع المنقول منهم بمنزلة رواية مرسلة ، فإنه لا يصح الإعتماد عليه ؛ لعدم المعرفة بالواسطة بينهم وبين المعصوم  ، وعدم ثبوت وثاقتها . 


فتحصّل مما ذُكر في المقام أنّه لا ملازمة بين حجية خبر الواحد وحجية الإجماع المنقول بوجه . 


 


المطلب الثالث : أدلة حجية الإجماع المحصّل


 


 الإجماع المحصّل : هو الإجماع الذي يحصّله الفقيه بنفسه بتتبّع أقوال أهل الفتوى ، وهو أحد الأدلة الأربعة () . 


وقد تعرّض السيد الخوئي الى الأدلة المدعاة في حجية الإجماع المحصّل ، وهي :


 


الدليل الأول : الملازمة العقلية بين الإجماع وقول المعصوم 


وتقريب هذه الملازمة  بوجهين :


الوجه الأول : قاعدة اللطف


وهو ما إستند إليه الشيخ الطوسي ( ت :460هـ ) من أنّه يجب على المولى سبحانه وتعالى اللطف بعباده ، بإرشادهم إلى ما يقرّبهم إليه تعالى من مناهج السعادة والصلاح ، وتحذيرهم عمّا يبعّدهم عنه تعالى من مساقط الهلكة والفساد. وهذا هو الوجه في إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام  وهذه القاعدة تقتضي - عند إتفاق الأمة على خلاف الواقع في حكمٍ من الأحكام - أنْ يُلقي الإمام المنصوب من الله تعالى الخلافَ بينهم ، فمن عدم الخلاف يُستكشف موافقتهم لرأي الإمام عليه السلام () .


المناقشة 


ناقش السيد الخوئي الوجه الذي ذكره الشيخ الطوسي في حجية الإجماع والمستند على قاعدة اللطف *، وكانت مناقشته في ثلاث نقاط () ، هي  :


الأولى : عدم تمامية القاعدة في نفسها ، إذ لا يجب اللطف عليه تعالى بحيث يكون تركه قبيحاً يستحيل صدوره منه سبحانه ، بل كل ما يصدر منه تعالى مجرد فضل ورحمة على عباده .


الثانية : إنّ قاعدة اللطف على تقدير تسليمها لا تقتضي إلا تبليغ الأحكام على النحو المتعارف ، وقد بلّغها وبيّنها الأئمة عليهم السلام للرواة المعاصرين لهم ، فلو لم تصل إلى الطبقة اللّاحقة لمانعٍ من قبل المكلفين أنفسهم ليس على الإمام  إيصالها إليهم بطريق غير عادي إذ أنّ قاعدة اللطف لا تقتضي ذلك ، وإلا كان قول فقيهٍ واحدٍ كاشفاً عن قول المعصوم  ، إذا فرض إنحصار العالم به في زمان . وهذا واضح الفساد .


 الثالثة : إنّه إنْ كان المراد إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام  مع إظهار أنّه الامام ، بأنْ يعرّفهم بإمامته ، فهو مقطوع العدم ، وإنْ كان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء كونه إماماً فلا فائدة فيه ؛ إذ لا يترتب الأثر المطلوب من اللطف ، وهو الإرشاد على خلاف شخصٍ مجهولٍ كما هو ظاهر .


 


الوجه الثاني : القطع الناشيء من الملازمة بين إتفاق الفقهاء ورأي الإمام


يستند هذا الوجه إلى أنّ إتفاق جميع الفقهاء يستلزم القطع بقول الإمام  عادةً ؛ إذ من قول فقيهٍ واحدٍ يحصل الظن ولو بأدنى مراتبه بالواقع ، ومن فتوى الفقيه الثاني يتقوى ذلك الظن ويتأكد ، ومن فتوى الفقيه الثالث يحصل الإطمئنان ، ويضعف إحتمال مخالفة الواقع ، وهكذا إلى أنْ يحصل القطع بالواقع كما هو الحال في الخبر المتواتر ، فإنّه يحصل الظن بإخبار شخصٍ واحد ، ويتقوى ذلك الظن بإخبار شخصٍ ثانٍ وثالث ، وهكذا إلى أنْ يحصل القطع بالمُخبَر به () .


وقد ذكر السيد الخوئي هذا الوجه من دون أنْ ينسبه إلى قائله ، وتبيّن للباحث أنّه للمحقق العراقي ( ت :1361هـ ) () .


وأشار السيد محمد باقر الصدر( ت :1400هـ )  إلى هذا الوجه وفق مبناه في حساب الاحتمالات ، إذ أنّ ( بتراكم الفتاوى تتجمّع القرائن الإحتمالية لإثبات الدليل الشرعي بدرجةٍ كبيرةٍ تتحول بالتالي إلى يقين لتضاؤل إحتمال الخلاف)() .


 


المناقشة


أخذ السيد الخوئي بمناقشة هذا الوجه بأنّ ذلك مسلّم في الإخبار عن الحسّ كما في الخبر المتواتر ؛ لأنّ إحتمال مخالفة الواقع في الخبر الحسي إنّما ينشأ من إحتمال الخطأ في الحس أو احتمال تعمّد الكذب ، وكلا الإحتمالين يضعف بكثرة المخبرين إلى أنْ يحصل القطع بالمُخبَر به وينعدم الإحتمالان . وهذا بخلاف الإخبار الحدسي المبني على البرهان ، كما في المقام ، فإنّ نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد ، إذ إحتمال كون البرهان غير مطابقٍ للواقع لا يفرّق فيه بين أنْ يكون الإستناد إليه من شخصٍ واحدٍ أو أكثر، الا ترى أنّ إتفاق الفلاسفة على أمرٍ برهاني كامتناع إعادة المعدوم مثلاً لا يوجب القطع به ؟ 


نعم لو تم ما نُسب إلى النبي  : من قوله :( لا تجتمع أمتي على الخطأ )() على فرض أنّ المراد من الأمة هو خصوص الإمامية ، ثبتت الملازمة بين إجماع علماء الإمامية وقول المعصوم  ، ولكنّه غير تام سنداً ودلالة :


 أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف () . 


وأما من حيث الدلالة فلعدم اختصاص الأمة بالامامية كما هو ظاهر في نفسه ، ويظهر أيضاً من قوله صلى الله عليه وآله : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة )() . 


الدليل الثاني : الملازمة العادية بين الإجماع وقول المعصوم 


 


إنّ العادة تحكم بأنّ إتفاق المرؤوسين على أمرٍ لا ينفكّ عن رأي الرئيس ، فإنّ إتفاق جميع الوزراء وجميع أركان الحكومة على أمرٍ لا ينفكّ عن موافقة رأي السلطان بحكم العادة ().


 وقد ذكر هذا الدليل أكثر المتأخرين من الأصوليين () وعبّر المحقق العراقي             ( ت :1361هـ ) عن رأيه في هذا الدليل بأنّه ليس ببعيد ؛ لكونه من الحدس القريب إلى الحس () .


 


المناقشة 


بيّن السيد الخوئي في مناقشة هذا الدليل : إنّ ذلك إنّما يتم فيما إذا كان المرؤوسون ملازمين لحضور رئيسهم كما في المثال ، وأنّى ذلك في زمان الغيبة . 


نعم الملازمة الإتفاقية - بمعنى كون الإتفاق كاشفاً عن قول الإمام  أحياناً من باب الإتفاق - مما لا سبيل إلى إنكارها إلا أنّه لا يثبت بها حجية الإجماع بنحو الإطلاق ، فإنّ إستكشاف قول الإمام عليه السلام من الإتفاق يختلف بإختلاف الأشخاص والأنظار ، فرب فقيهٍ لا يرى الملازمة أصلاً ، وفقيهٍ آخر لا يرى إستكشاف رأي المعصوم إلا من إتفاق علماء جميع الأعصار ، وفقيهٍ ثالث يحصل له اليقين من إتفاق الفقهاء في عصرٍ واحد ، أو من إتفاق جملةٍ منهم . وقد شاهدنا بعض الأعاظم أنّه كان يدّعي القطع بالحكم من إتفاق ثلاثة نفرٍ من العلماء ، وهم الشيخ الأنصاري( ت :  1281هـ) والسيد محمد حسن الشيرازي الكبير(ت :1312هـ) والمرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي (ت : 1338هـ ) ؛ لإعتقاده بشدّة ورعهم ودقّة نظرهم ().


 


 


 


الدليل الثالث : كاشفية الإجماع عن الدليل المعتبر


 إنّ الإجماع كاشف عن وجود دليلٍ معتبر، بحيث لو وصل إلينا لكان معتبراً عندنا أيضا () .


  وينبغي أنْ يشار إلى أنّ المحقق النائيني ( ت : 1355هـ ) مال إلى هذا الدليل ولكن بشرط أنْ يكون الإجماع منقولاً عن المحقق الحلي أو العلّامة الحلي أو الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ( ت :786هـ) ؛ وذلك ( لأنهم يحكون نفس الفتاوى وبلسان الإجماع الكاشفة عن وجود دليلٍ معتبرٍ مع عدم وجود أصلٍ أو قاعدةٍ أو دليلٍ في البين ) () ، وكذا مال إلى هذا الدليل كل من : المحقق العراقي ( ت :1361هـ) والسيد أبي الحسن الأصفهاني ( ت : 1365هـ) () ، أما المحقق محمد حسين الأصفهاني ( ت : 1361هـ)  فقد ذكر أنّه لا يُراد من الإجماع المنقول إلا المقدار الكاشف عن حجة معتبرة ؛ لجلالة المفتين وعلوّ قدرهم علماً وعملاً ().


 


المناقشة 


 أخذ السيد الخوئي بمناقشة هذا الدليل مبيّناً أنّ الإجماع وإنْ كان كاشفاً عن وجود أصل الدليل كشفاً قطعياً ؛ إذ الإفتاء بغير الدليل غير محتملٍ في حقّهم فإنّه من الإفتاء بغير العلم وهو حرام ، وعدالتهم مانعة عنه ، إلا أنّه لا يستكشف منه أنّ الدليل معتبرعندنا ؛ إذ من المحتمل أنْ يكون إعتمادهم على قاعدةٍ أو أصلٍ لا نرى تمامية القاعدة المذكورة أو الأصل المذكور، أو عدم انطباقهما على الحكم المجمع عليه ، كما هو الحال في الإجماع المدّعى في كلام السيد المرتضى().


 


 يظهر للباحث : إنّ هذه المناقشة قد اتفق فيها السيد الخوئي مع اُستاذه المحقق النائيني () .


 ويمكن أن يُقال : لمّا كان الإفتاء بغير دليلٍ غير محتملٍ في حقّهم كان وجود الدليل لابدياً ، وحينئذٍ يكون احتمال إعتمادهم على قاعدةٍ أو أصلٍ بعيداً في نفسه لاسيّما إذا لاحظنا أنّهم مختلفون في الأنظار والمشارب فضلاً عن التطبيق .


 


مناقشة الصدر للخوئي


ناقش السيد محمد باقر الصدر مناقشة السيد الخوئي المتقدّمة : بأنّ المأخذ ليس هو إستكشاف مدرك روائي وصلهم ولم يصل إلينا ليُلحظ عليه بما تقدم آنفاً ، بل إستكشاف ما هو أقوى من الرواية وهو الإرتكاز الكاشف تكويناً وقطعاً عن رأي المعصوم () .


ويظهر للباحث : إنّ ما ذكره السيد الصدر قوي متين ؛ إذ أنّ المستكشف عن طريق الإجماع هو أعم من الرواية وهو الإرتكاز ، فما ذكره السيد الخوئي أخصّ من المدّعى .


 


وبعد أنْ ناقش السيد الخوئي جميع الأدلة المدّعاة لحجية الإجماع  المحصّل والمنقول إنتهى إلى نتيجة ، هي : 


إنّه لا مستند لحجية الإجماع أصلاً ، فلا يكون حجة ().


إلا أنّه إستدرك على هذه النتيجة التي توصّل إليها بقوله :( إلا أنّ مخالفة الإجماع المحقَّق من أكابر أصحاب وأعاظم الفقهاء مما لا نجتريء عليه فلا مناص في موارد تحقق الإجماع من الإلتزام بالإحتياط اللازم كما إلتزمنا به في بحث     الفقه * )() .


 


ويرى الباحث : إنّه لمّا كان الإجماع بأقسامه ليس بحجة معتبرة عند السيد الخوئي ، إذن لماذا يلتزم بالإحتياط اللازم تجنباً لمخالفة الإجماع المحقّق ؟ صحيح أنّ الإحتياط حسن على كل حال ، أما كونه لازماً فهو بلا مدرك .


 


 


 


 


 


 


 


المبحث الثاني


حجية الشهرة


 


من المسائل الأصولية التي تُعد معلماً من معالم البحث الفقهي للسيد الخوئي هي كثرة المناقشة في الشهرة العملية والفتوائية ، ممّا أثّر بشكل جلي على فتاواه في البحث الفقهي ؛ ولذا انعقد هذا المبحث في بيان الشهرة في اللغة ، وبيان المعنى الإصطلاحي لكافة أقسام الشهرة ، وعرض الأدلة المذكورة لكل قسمٍ منها ، مع بيان مناقشات السيد الخوئي لها ، وانتظم في مطلبين :


 


المطلب الأول : الشهرة لغةً واصطلاحاً 


أولاً: الشهرة لغةً


 الشهرة : ظهور الشيء في شنعة حتى يشهره الناس ،وشهر سيفه إذا انتضاه()، وهي بمعنى وضوح الأمر ، ولفلان فضيلة إشتهرها الناس () ، والشهر في كلام العرب : الهلال ثمّ سُمّي كل ثلاثين يوماً بإسم الهلال () .


 فالشهرة لغةً بمعنى مطلق ظهور الشيء ووضوحه وذيوعه ، كما أشار إليه السيد  الخوئي () .


 ويرى الباحث لا داعي لتقييدها بظهور الشيء في شنعة أو فضيلة  .


ثانياً : الشهرة إصطلاحاً


وقد أطلقت الشهرة بإصطلاح أهل الحديث على كل خبرٍ كثُر راويه على وجهٍ لا يبلغ حد التواتر() . والخبر يُقال له حينئذ : " المشهور " كما قد يُقال له :        "مستفيض " . وكذلك يطلقون " الشهرة " بإصطلاح الفقهاء على ما لا يبلغ درجة الإجماع من الأقوال في المسألة الفقهية . فهي عندهم لكل قول كَثُر القائل به في مقابل القول النادر . والقول يقال له : " مشهور " كما أنّ المفتين الكثيرين أنفسهم يُقال لهم : " المشهور " فيقولون : ذهب المشهور إلى كذا ، وقال المشهور بكذا() .


ويختلف تعريف الشهرة عند الأصوليين ومنهم السيد الخوئي () ؛ وذلك بحسب أقسامها ؛ فإنّ الشهرة على ثلاثة أقسام :


 


1ـ الشهرة الروائية


 وهي في الإصطلاح : إشتهار الرواية بكثرة نقلها ، وتكررها بين الرواة والمحدّثين ، ويقابلها الشذوذ والندرة ، بمعنى قلة الناقل لها . وهذه الشهرة من المرجّحات عند تعارض الخبرين على المسلك المشهور ().


وذكر السيد الصدر في تعريفها أنّها :( تعدّد رواة الحديث بدرجةٍ دون التواتر)().


2ـ الشهرة العملية 


وهي عبارة عن إشتهار عمل الفقهاء على روايةٍ وإستنادهم اليها في مقام الفتوى ، ولذا يُعبّر عنها بالشهرة في الإستناد .


  والنسبة بين الشهرة بهذا المعنى والشهرة بمعناها الأول ـ أي الشهرة الروائية ـ بحسب الأثر هي التباين ؛ فإنّها بهذا المعنى توجب ترجيح إحدى الروايتين في مقام التعارض بعد تمامية حجيتها في أنفسهما بخلافها بالمعنى الأول فإنّها بذاك المعنى توجب ثبوت أصل الحجية لها بعد عدم حجيتها في نفسها مع قطع النظر عنها ، كما أنّ النسبة بحسب المورد عموم من وجه ؛ فإنّ الرواية قد تكون مشهورة بحسب العمل من دون النقل ، وقد تكون مشهورة بحسب النقل والعمل معاً () .


3ـ الشهرة الفتوائية 


عبارة عن إشتهار الفتوى بحكمٍ من الأحكام من دون أنْ يُعلم مستند الفتوى ، إما لعدم الرواية رأساً أو عدم إحراز إستنادهم إليها في مقام الفتوى .


والفرق بين الشهرة بهذا المعنى وبينها بالمعنيين الأولين هو أنّ لها بالمعنيين الأولين مساس بالرواية أمّا من جهة نقلها في مقام الرواية ، أو من جهة الإستناد إليها في مقام الفتوى بخلافها بهذا المعنى إذ لا مساس لها حينئذٍ بالرواية فلا تكون جابرة لضعف روايةٍ واردةٍ على طبقها وإنْ قلنا بأنّ عمل المشهور على طبق روايةٍ يوجب جبر ضعفها ، نعم هي بهذا المعنى بناءً على كون إعراض المشهور عن رواية موجباً لوهنها ـ تشترك مع الشهرة بمعناها السابق في كونها موجبة لوهن الرواية الواردة على خلافها ().


وعرّفها السيد الصدر بأنّها :( إنتشارالفتوى بين الفقهاء وشيوعها بدرجةٍ دون الإجماع ) () . 


 


المطلب الثاني : أدلة الشهرة بأقسامها ومناقشتها


 


أولاً : أدلة الشهرة الروائية ومناقشة السيد الخوئي لها 


ذكر السيد الخوئي ما اُستدل به على الشهرة الروائية () ، وهما دليلان : 


الدليل الأول : ما ورد في مقبولة  عمر بن حنظلة ** من قول الإمام الصادق   : ( يُنظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به )() ، بدعوى أنّ المراد بالمُجمع عليه فيها المشهور لا الإجماع الإصطلاحي ، بقرينة المقابلة في نفس الرواية بقوله  : ( ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهورٍ عند أصحابك ) (). 


وهذه الشهرة توجب جبر ضعف سند الرواية لو كانت ضعيفة السند ، كما إنّ إعراض المشهور يوجب ضعف الرواية الصحيحة بإعتبار أنّ عمل المشهور بروايةٍ مع علمهم بضعفها كاشف عن كونها محتفّةً بقرينةٍ أوجبت صيرورتها موثوقاً بها عندهم ، وإلا لم يعملوا بها ، كما أنّ إعراضهم عن روايةٍ مع علمهم بصحة سندها كاشف عن كونها ضعيفة عندهم بوجهٍ لا نعلمه .


نعم لا بدّ من علمهم بالضعف في الرواية في حالة عمل المشهور بها ، ولا بد من علمهم بالقوة بها في حالة إعراضهم عنها ؛ لكونها بمرأى ومسمع منهم وإلا لا تكون جابرة أو كاسرة () .


 


المناقشة 


أخذ السيد الخوئي بمناقشة الدليل الأول للمشهور على الشهرة الروائية ، ويمكن جعل مناقشته في نقطتين : 


 


   1ـ مناقشة سند الرواية


 عدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة ؛ فإنّه لم يذكر له توثيق في كتب الرجال (). 


نعم وردت رواية في باب الوقت تدل على توثيق الإمام  له ونعم التوثيق ، فإنّ توثيق الإمام إمام التوثيقات ، وهي ما نقله في الوسائل عن الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة ، قال قلت لأبي عبد الله  : ( إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقتٍ ، فقال  إذا لا يكذب علينا ) () . إلا أنّ هذه الرواية بنفسها ضعيفة من حيث السند ، فلا يمكن إثبات وثاقة عمر بن حنظلة ().


2ـ مناقشة متن الرواية 


أنّ  المراد بالمجمع عليه في المقبولة هو الخبر الذي أجمع على صدوره من المعصوم ، فيكون المراد منه الخبر المعلوم صدوره ، لقوله :( فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه )()، وقوله  بعد ذلك : ( الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيُجتنب ، وأمر مشكل يُردّ حكمه إلى الله )() فإنّ الإمام عليه السلام طبّق الأمر البيّن رشده على الخبر المجمع عليه ، وحينئذٍ يكون الخبر المعارض له ساقطاً عن الحجية في نفسه ، لما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، والمراد بالسنّة كل خبرٍ مقطوع الصدور لا خصوص النبوي . ولا ينافي ما ذُكر آنفاً فرض الراوي الشهرة في كلتا الروايتين بعد أمر الإمام  بالأخذ بالمجمع عليه ؛ وذلك لأنّ القطع بصدور أحدهما لا يستلزم القطع بعدم صدور الآخر ، بل يمكن أنْ يكون كلاهما صادراً من المعصوم  ، ويكون أحدهما صادراً لبيان الحكم الواقعي ، والآخر للتقية () .


 


 الدليل الثاني : ما ورد في مرفوعة  زرارة بن أعين من قول الإمام الباقر : (خُذْ بما اُشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ) () .


 


 المناقشة


ناقش السيد الخوئي الإستدلال بهذه المرفوعة ، ويمكن جعل مناقشته ضمن ثلاثة نقاط () : 


 


1ـ مناقشة سند الرواية 


إنّ هذه المرفوعة هي من المراسيل التي لا يصحّ الإعتماد عليها ، فإنّها مروية 


في كتاب عوالي اللئالي () عن العلّامة الحلي ( ت : 726 هـ ) مرفوعة إلى زرارة. فضلاً عن أنّها لم توجد في كتب العلّامة ولم يثبت توثيق راويها ، بل طعن فيه * وفي كتابه ** مَنْ ليس دأبه الخدشة في سند الرواية ، كالمحدّث البحراني ( ت : 1186هـ ) () .


 


2ـ مناقشة متن الرواية 


عدم صحة الإستدلال بالمرفوعة ؛ إذ المراد من قوله : ( خذ بما اُشتهر بين أصحابك ) هو الشهرة بالمعنى اللغوي ، أي الظاهر الواضح ، كما يقال : شهر سيفه وسيفٌ شاهر ، فيكون المراد به الخبر الواضح صدوره ، بأنْ كان مقطوع الصدور أو المطمأنّ بصدوره ، ويكون حينئذ الخبر المعارض له ساقطاً عن الحجية في نفسه .


 


3ـ مناقشة المبنى


ردّ دعوى إنجبار المرفوعة بعمل المشهور: ذكر السيد الخوئي أنّ هذه الدعوى ممنوعة صغرىً وكبرىً :


أما من حيث الصغرى فلأنّه لم يثبت إستناد المشهور إليها ، بل لم نجد عاملاً بما في ذيلها *** من الأمر بالإحتياط .


 وأما من حيث الكبرى فلعدم كون عمل المشهور جابراً لضعف السند .


 


النتيجة : عدم كون الشهرة الروائية من المرجّحات عند تعارض الخبرين().


بينما يرى المحقق النائيني أنّه لا إشكال في كون الشهرة الروائية موجبة لأقوائية تلك الرواية وترجيحها على الرواية المعارضة ().


 


 


ثانيا : أدلة الشهرة العملية ومناقشتها


 


ذهب مشهور الأصوليين () إلى أنّ الشهرة العملية للرواية موجبة لجبر ضعف سند الرواية ؛ إذ أنّ عملهم بها يكشف عن وجود قرينةٍ فيها تدل على صدورها عن المعصوم  وقد خفيت علينا ، كما أنّ إعراض المشهور عن العمل بروايةٍ ما يكشف ـ لو كانت تامّة سنداً ـ عن وجود خللٍ فيها وقد خفي علينا .


ويترتب على هذا القول الإستغناء عن علم الرجال وعدم الحاجة الى معرفة أحوال الرواة بدعوى أنّ كل رواية عمل بها المشهور يُعمل بها وإنْ كانت ضعيفة لإنجبار ضعفها بعملهم  ، وكل رواية أعرض عنها  المشهور يُعرض عنها وإنْ كانت صحيحة لأنّ إعراضهم يكشف عن وجود خللٍ فيها ، ويترتّب على ذلك أنّه لا تبقى حاجة إلى معرفة أسانيد الروايات (). 


  


المناقشة


بيّن السيد الخوئي : إنّ جعل عمل المشهور على رواية جابراً لضعفها وإعراضهم عنها موجباً لوهنها مما لا يسعنا الإلتزام به ؛ فإنّ الرواية بعد فقد شرائط الحجية عنها لا يمكن العمل بها لكونه عملاً بالظن فإنّ عمل المشهور بها لا يزيد على الظن شيئاً وقد نُهينا عن العمل به والإعتماد عليه ، كما أنّه بعد إجتماع شرائط الحجية فيها لا يمكن طرحها والعمل بغيرها ؛ لأنّه طرحٌ لما أوجب الشارع العمل بها .


نعم لو أعرض الكل عنها ولم يكن في الفقهاء من عمل بها فحينئذٍ يُقطع أو يُطمأن بعدم صدورها بداعي بيان الحكم الواقعي ، لكن أين هذا من إعراض مشهورهم عنها ؟ وعليه فلا غناء لنا من علم الرجال ومعرفة أسانيد الروايات () .


 


ويظهر للباحث : إنّ كلام السيد الخوئي المتقدّم : لو أعرض الكل عن رواية ... يستدعي أنْ يقيّد دليل حجية خبر الواحد بما لو أعرض الكل عن الرواية ؛ لأنّ الدليل الدال على حجية خبر الواحد هو السيرة فهو من البداية لا يشمل صورة إعراض الكل ؛ لأنّ السيرة دليل لبّي وهو غير قابل للتقييد ، وإنْ كان الدليل الدال على الحجية هو الأدلة اللفظية فلا بأس بما أفاده (قده) وإنْ لم يكن الدليل المقيّد للإطلاق لفظياً بأنْ كان لبّياً .


 


ويضيف الباحث الى كلام السيد الخوئي المتقدّم : فلا غناء لنا من علم الرجال ... 


إنّ الحاجة الى علم الرجال تظهر حتى لو لم تكن هناك شهرة روائية من القدماء في حكم من الأحكام ، كما هو الحال في المسائل المستحدثة ، وكذا فيما لو إنقسم المشهور الى قسمين : بعضهم يعمل برواية والآخر يعمل برواية أخرى ، فالحاجة باقية الى علم الرجال على أيّ حال .  


 


وقد فصّل السيد الخوئي القول في ردّ كون الشهرة العملية جابرة لضعف الرواية أو أنّ إعراض المشهورعن الرواية كاسرة لها ، وذلك عند تعرّضه لمسألة حجية خبر الواحد () .


 


مناقشة الكبرى : إنّ عمل المشهور موجب لإنجبار ضعف الخبر


أما ردّ كون الشهرة جابرة : قد ذكرها في معرض ردّه لقول المحقق النائيني : بأنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجة بمقتضى منطوق آية النبأ *: إذ أنّ مفاده حجية خبر الفاسق مع التبيّن ، وعمل المشهور من التبيّن ().  


 وبيّن السيد الخوئي أنّ التبيّن عبارة عن الإستيضاح وإستكشاف صدق الخبر ، وهو تارة يكون بالوجدان ، كما إذا عثرنا بعد الفحص والنظر على قرينة داخلية أو خارجية موجبة للعلم أو الإطمئنان بصدق الخبر وهذا ممّا لا كلام في حجيّته ، وأخرى يكون بالتعبّد ، كما إذا دل دليل معتبر على صدقه فيؤخذ به أيضا ، فإنّه تبيّن تعبّدي وحيث أنّ فتوى المشهور لا تكون حجة ، فليس هناك تبيّن وجداني ولا تبيّن تعبّدي يوجب حجية خبر الفاسق . 


وهذا يعني أنّ الخبر الضعيف لا يكون حجة في نفسه على هذا الفرض : وكذلك فتوى المشهور غير حجة أيضا ، وانضمام غير الحجة إلى غير الحجة لا يوجب الحجية ، فإنّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلا العدم (). 


 


نقض مفترض


ثم ذكر السيد الخوئي إشكالاً قد يرد في المقام وهو : إنّ عمل المشهور بخبرٍ ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه ثقة ، فيدخل في  موضوع    الحجية ().


 


جواب النقض


 إنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه ، فيُحتمل أنْ يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب نظرهم واجتهادهم ، لا لكون المخبِر ثقة عندهم ، فالعمل بخبرٍ ضعيف لا يدل على توثيق المخبِر به ، ولا سيما أنّهم لم يعملوا بخبرٍ آخر لنفس هذا المخبِر() . 


هذا كله من حيث الكبرى وأنّ عمل المشهور موجب لإنجبار ضعف الخبر أو لا . 


مناقشة الصغرى : إستناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى


وأما الصغرى فإثباتها أشكل من إثبات الكبرى ؛ لأنّ مراد القائلين بالإنجبار هو الإنجبار بعمل المتقدّمين من الأصحاب باعتبار قرب عهدهم بزمان المعصوم  والقدامى لم يتعرضوا للإستدلال في كتبهم ليعلم إستنادهم إلى الخبر الضعيف ، وإنّما المذكور في كتبهم مجرد الفتوى والمتعرض للإستدلال إنّما هو الشيخ الطوسي () ، وتبعه مَنْ تأخر عنه في ذلك *، من دون المتقدّمين من الأصحاب ، فمن أين يُستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبرٍ ضعيفٍ وإستنادهم إليه ؟ والحال إنّنا نجد فتوىً منهم مطابقةً لخبرٍ ضعيفٍ ، ومجرد المطابقة لا يدل على أنّهم إستندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر ، إذ يُحتمل كون الدليل عندهم غيره .


 فتحصّل إنّ القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تامٍ صغرىً  وكبرىً .


أما ردّ كون الشهرة كاسرة


بمعنى أنّ الخبر إنْ كان صحيحاً أو موثقاً في نفسه هل يكون إعراض المشهور عنه موجباً لوهنه وسقوطه عن الحجية أو لا ؟ 


وقد ذهب المشهور إلى كون الشهرة كاسرة ()، بل صرّحوا بأنه كلّما إزداد الخبر صحةً ازداد ضعفاً ووهناً بإعراض المشهور عنه . 


وردّ السيد الخوئي هذا المبنى : بأنّ التحقيق عدم تمامية ذلك أيضا ؛ إذ بعد كون الخبر صحيحاً أو موثقاً يكون مورداً لقيام السيرة ومشمولاً لإطلاق الأدلة اللفظية ، فلا وجه لرفع اليد عنه لإعراض المشهور عنه .


 نعم إذا تسالم جميع الفقهاء على حكم مخالفٍ للخبر الصحيح أو الموثّق في نفسه ، يحصل لنا العلم أو الاطمئنان بأنّ هذا الخبر لم يصدر من المعصوم  أو صدر عن تقيةٍ فيسقط الخبر المذكور عن الحجية لا محالة ، ولكنّه خارج عن محل الكلام . وأما إذا إختلف العلماء على قولين ، وذهب المشهور منهم إلى ما يخالف الخبر الصحيح أو الموثق ، وأعرضوا عنه . واختار غير المشهور منهم ما طابق الخبر المذكور فلا دليل لرفع اليد عن الخبر الذي يكون حجة في نفسه لمجرد إعراض المشهور عنه () .


 


ثالثا : أدلة الشهرة الفتوائية ومناقشتها


في حجية الشهرة الفتوائية ذُكرت ثلاثة من الأدلة ، تعرّض إليها السيد الخوئي مع مناقشتها :


 


 الدليل الأول : إنّ مقبولة عمر بن حنظلة * ومرفوعة زرارة ** تدلان على حجيتها ، بتقريب أنّ المراد من المُجمع عليه في المقبولة ليس هو الإجماع المصطلح بل المراد منه المشهور بقرينة المقابلة في قوله  :( واترك الشاذ النادر ) () وإطلاقه يشمل الشهرة الفتوائية أيضا ، وكذا قوله  : ( يُنظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ) () في المرفوعة ، فإنّ الموصول *** من المبهمات ومعرِّفه الصلة ، وإطلاقها يشمل الشهرة الفتوائية أيضا .


المناقشة 


ناقش السيد الخوئي هذا الدليل ضمن نقاط ثلاثة () :


1ـ  ما تقدم عند مناقشة الشهرة الروائية : من عدم تمامية المقبولة والمرفوعة من حيث السند فلا يصح الإستدلال بهما .


 2ـ  ما تقدم أيضا من أنّ المراد بالمجمع عليه هو الخبر المقطوع صدوره ، لإنّ الإمام  قد أدخله في أمر بيّن رشده ، وكذا المراد بالمشهور في المرفوعة هو المشهور اللغوي ، أي الظاهر الواضح ، فالمراد بهما هو الأخذ بالمقطوع ، فلا ربط لهما بالشهرة الفتوائية . 


3ـ  إنّه مع الغضّ عمّا تقدّم لا إطلاق لهما ليشمل الشهرة الفتوائية ؛ لأنّ المراد من الموصول هو خصوص الخبر المشهور ، بقرينة أنّ السؤال إنّما هو عن الخبرين المتعارضين ، ولا مانع من أنْ يكون معرّف الموصول ومبيّن المراد منه غير صلته ، والسؤال عن الخبرين قرينة على أنّ المراد منه خصوص الخبر المشهور لا مطلق المشهور، كما يظهر بالتأمل في نظائره من الأمثلة .


 فإذا قيل : أي المسجدين تحب ، فقال في الجواب : ما كان الاجتماع فيه أكثر . كان ظاهرا في خصوص المسجد الذي كان الاجتماع فيه أكثر ، لا مطلق المكان الذي كان الاجتماع فيه أكثر ، وكذا لو قيل : أي الرمانتين تريد ؟ فقال في الجواب : ما كان أكبر ، كان ظاهرا في أن المراد هو الأكبر من الرمانتين لا مطلق الأكبر . وهذا ظاهر ، فحينئذ لا إطلاق للصلة ليشمل مطلق المشهور . 


ومما ينبغي أن يُشار إليه أنّ السيد الخوئي قد اتفق في رد هذا الدليل مع استاذيه المحقق النائيني والمحقق العراقي () .


 


الدليل الثاني : إنّ الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من خبر الواحد ، فالذي يدل على حجية الخبر يدل على حجية الشهرة بالأولوية .


 


المناقشة 


ناقش السيد الخوئي المبنى الذي إستند عليه هذا الدليل : بأنّه مبني على أن يكون ملاك حجية الخبر إفادته الظن ، وعليه وجب الالتزام بحجية كل ظن مساوٍ للظن الحاصل من الخبر أو أقوى منه ، سواءً حصل من الشهرة أم من فتوى جماعةٍ من الفقهاء ، أم من فتوى فقيهٍ واحد ، أو غير ذلك ، فاللازم ذكر هذا الدليل في جملة أدلة حجية الظن المطلق لا أدلة الشهرة .


 ولكن المبنى المذكورـ بأنّ ملاك حجية الخبر إفادته الظن ـ غير تام، نقضاً وحلاً


 أما الجواب النقضي  : 


فإنّ لازم ذلك هو القول بحجية فتوى فقيه واحد أو أكثر إذا حصل منها ظن مساوٍ للظن الحاصل من الخبر الواحد او أقوى منه مع أنه لا يمكن الالتزام به () .


 وأما الجواب الحَلّي  :


فإنّه يُحتمل أنْ يكون ملاك حجية الخبر كونه غالب المطابقة للواقع ؛ لكونه إخباراً عن حس ، واحتمال الخطأ في الحس بعيد جداً ، بخلاف الإخبار عن حدس كما في الفتوى ، فإنّ احتمال الخطأ في الحدس غير بعيد ، ويحتمل أيضا دخل خصوصية أخرى في ملاك حجية الخبر . ومجرد احتمال ذلك كافٍ في منع الأولوية المذكورة ؛ لأنّ الحكم بالأولوية يحتاج إلى القطع بالملاك وكل ما  له دخل فيه () .


 


مناقشة العراقي للدليل الثاني


 ردّ المحقق العراقي ( ت :1361هـ ) الدليل الثاني من أدلة الشهرة الفتوائية : بأنّ مناط الحجية في الخبر الواحد ليس هو الظن الشخصي حتى يقال : بأولوية الشهرة في الحجية لأقوائية الظن الحاصل منها من الظن الحاصل من الخبر الواحد ، وإنما ذلك من جهة قيام دليل بالخصوص على حجيته من السيرة وغيرها ولو من جهة كونه مفيداً للظن النوعي ولذلك نقول : بحجيته حتى في مورد قيام الظن الشخصي على خلافه ().


 


مناقشة الصدر للخوئي


ناقش السيد محمد باقر الصدر كلامَ السيد الخوئي المتقدّم  بقوله : ( وهذا الكلام غير صحيح اذ لو فرض أنّ الشهرة تفيد الظن وأنّه ظن نوعي عقلائي لا شخصي وأنّه يساوي فى درجة كشفه لدرجة كشف الخبر فلا محالة يكون درجة مطابقة مجموع ‏الشهرات للواقع بمقدارها فى مجموع الأخبار، وهذا مضافاً الى أنّه وجداني واضح مبرهن عليه فى منطق الإستقراء وحساب الإحتمالات فالتفكيك بين درجة الكشف النوعي وغلبة المطابقة ‏للواقع غير فني . نعم يمكن دعوى أنّ الشارع بعلمه الغيبي ربما أحرز أنّ مجموع أخبار الآحاد أكثر مطابقة للواقع من مجموع الشهرات )(). 


 ثم يذكر السيد الصدر جواباً لهذا الدليل بقوله : فالجواب عنه إما انْ يكون على أساس إحراز الشارع بعلمه الغيبي أغلبية مطابقة الخبر للواقع من الشهرة وهذا إنّما يتجه إذا كانت حجية الخبر تأسيسية ‏شرعية لا إمضائية عقلائية . أو إنكار إفادة الشهرة الحدسية للظن بمقدار خبر الثقة الحسي .أو أنّ التزاحم الحفظي الذي هو ملاك جعل الحجية والحكم الظاهري يكفي فيه فى نظر الشارع ‏أو العقلاء جعل الحجية بمقدار خبر الثقة وأما في غيره من الدوائر فيرجع الى القواعد والأصول الأخرى ، فالملاكات المتزاحمة يستوفى الأهم منها بمقدار جعل الحجية للخبر بلا حاجة إلى ‏جعلها للشهرة أيضا () .


 


الدليل الثالث :عموم التعليل الوارد في ذيل آية النبأ ، وهو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) () ، بتقريب : إنّ المراد بالجهالة فيها السفاهة والإقدام على ما لا يُحسن الاقدام عليه عند العقلاء ، كما في مورد العمل بخبر الفاسق فإنّه لا يُحسن عند العقلاء لعدم وجود رادع في الفاسق عند التعمّد بالكذب ؛ ولذا نهى سبحانه وتعالى عن العمل به قبل تبيّن ما يخبره ، فيكون مفهومه جواز العمل وعدم لزوم التبيّن فيما لم يكن العمل به سفاهة ، إذ التعليل قد يكون مخصِّصاً للحكم المعلل به ، كما في قولنا : لا تأكل الرمان لأنّه حامض ، وقد يكون معمِّماً له كما في قولنا : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، فإنّه يحكم بحرمة كل مسكر ولو لم يكن خمراً . 


ومفاد التعليل في الآية الشريفة :عدم لزوم التبيّن في كل ما ليس العمل به سفاهة ، والعمل بالشهرة لا يكون سفاهة ، فلا يجب فيها التبيّن بمقتضى عموم       التعليل ().


 


المناقشة 


 ناقش السيد الخوئي هذا الدليل بمنع الصغرى والكبرى فيه  :


أما منع الصغرى فلأنّ المراد من الجهالة في الآية الشريفة إما السفاهة بمعنى العمل بشيءٍ بلا لحاظ مصلحة وحكمة فيه ، المقابل للعمل العقلائي الناشيء من ملاحظة المصلحة ، وإما الجهل المقابل للعلم ، ولفظ الجهالة قد استعمل في كل من المعنيين ، فان كان المراد منها السفاهة كان العمل بالشهرة من السفاهة ؛ إذ العمل بما لا يؤمّن معه من الضرر المحتمل أي العقاب يكون سفاهة بحكم العقل ، فإنّ العقل يحكم بتحصيل المؤمِّن من العقاب ، والعمل بالشهرة بلا دليل على حجيتها لا يكون مؤمّناً ، فيكون سفاهةً وغير عقلائي ، وإنْ كان المراد منها الجهل بمعنى عدم العلم ، فالأمر أوضح ، إذ الشهرة لا تفيد العلم فيكون العمل بها جهالة لا محالة .


وأما منع الكبرى فلأنّ التعليل وإنْ كان يقتضي التعميم ، إلا أنّه لا يقتضي نفي الحكم عن غير مورده مما لا توجد فيه العلة ، إذ لا مفهوم له ؛ لأنّه فرع انحصار العلة ، وهو لا يستفاد من التعليل ولا ربط له بعموم التعليل ، فإنّ التعدّي إلى غير الخمر من المسكرات ، والحكم بحرمتها لعموم التعليل لا يوجب الحكم بحلية كل ما ليس بمسكر ، بل قد يكون الشيء حراماً مع عدم كونه مسكراً كما إذا كان نجساً أو كان مال الغير مثلا . فالحكم بوجوب التبيّن - في كل ما كان العمل به سفاهة لعموم التعليل - لا يدل على عدم وجوب التبيّن في كل ما ليس العمل به سفاهة ، بل يمكن أنْ يكون التبيّن فيه واجباً مع عدم كون العمل به سفاهة () .


ونبّه السيد الخوئي إلى أنّ المراد من الشهرة في محل الكلام هي الشهرة من المتقدّمين من الفقهاء وليس من المتأخرين () .


وينبغي أن يُشار إلى أنّ السيد الخوئي قد اتفق في رد هذا الدليل مع اُستاذيه المحققين النائيني والعراقي () .


 


رأي النائيني في الشهرة الفتوائية


يرى المحقق النائيني أنّه لا إشكال في كون الشهرة الفتوائية على خلاف مضمون الرواية تكون موهنة لها على كل حال ؛ لأنّ إعراض الأصحاب عن الرواية أقوى موهن لها ، وإنّما الاشكال في كونها مرجّحة لأحد المتعارضين أو جابرة لضعف سند الرواية ولو لم يكن لها معارض ، فإنّ الترجيح والجبر يتوقف على الإستناد والإعتماد إلى الرواية .


 ولا يكفي في ذلك مجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية ، كما لا يكفي في الترجيح والجبر عمل المتأخرين بالرواية وإستنادهم إليها ، فإنّ العبرة على عمل المتقدّمين من الأصحاب بالرواية ، لقرب زمانهم بزمان الأئمة - عليهم السلام - ومعرفتهم بحال الرواة وتشخيصهم غث الرواية عن سمينها ، فلا أثر لشهرة المتأخرين وإستنادهم إلى الرواية ما لم تتصل بشهرة المتقدمين .


فإذا توافقت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى على خلاف ما تقتضيه القاعدة وكان فيما بأيدينا من الكتب - ولو لم تكن من الكتب المعتبرة ـ كدعائم الإسلام والأشعثيات والفقه الرضوي () - رواية على فتوى المشهور ، فهذه الشهرة تكون مرجّحة للرواية إذا كانت معارضة مع غيرها وجابرة لضعف سندها ولو مع عدم المعارضة . وأما إذا خالفت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى - كما إتفق ذلك في عدة مواضع منها جواز الصلاة في السنجاب() - فالعبرة إنّما تكون بشهرة المتقدمين () .


 


ويبدو ممّا تقدم : إنّه بعد أنْ ناقش السيد الخوئي جميع الأدلة المدعاة لإثبات الشهرة بأقسامها فتكون النتيجة : عدم حجية الشهرة عنده وأنّها غير جابرة للخبر الضعيف ولا كاسرة للخبر وإنْ كان صحيحاً ، وليست هي من المرجّحات عند تعارض الخبرين ؛ لعدم قيام الدليل على حجيتها .


 


 ويتفق السيد الخوئي مع المحقق النائيني في أنّ الشهرة الفتوائية على خلاف مضمون الرواية تكون كاسرة ، ويتفق معه أيضاً في كونها جابرة أو مرجّحة في حال التعارض إذا صدرت من المتقدّمين أو من المتأخرين بشرط موافقتها  للشهرة عند المتأخرين() .


 


 ويرى المحقق العراقي أنّ الشهرة الفتوائية إذا كانت من المتقّدمين تكون كاسرة  وموهنة للرواية التي على خلاف الشهرة ، كما أنّها ليست جابرة لضعف الرواية التي على وفاقها ، بعكس الشهرة العملية الاستنادية إذ أنّها جابرة لضعف     الرواية () .


 


 


 


 


 


 


المبحث الثالث


     التطبيقات الفقهية


 


يُعنى هذا المبحث بالتطبيقات الفقهية لموضوعي الإجماع والشهرة الفتوائية في الكتب الاستدلالية للسيد أبي القاسم الخوئي ، ويقع في مطلبين : 


 


المطلب الأول : تطبيقات الإجماع 


 


من أبرز معالم البحث الأصولي للسيد أبي القاسم الخوئي هي مناقشاته العديدة في الإجماعات المذكورة في كتب الفقهاء من المتقدّمين والمتأخّرين ، ولذا سيعرض البحث نماذجاً من تلك المناقشات ، وهي :


 


1ـ وجوب الإعادة أو القضاء عند قيام الحجة على الخلاف 


فرض المسألة : لو قامت الحجة عند مجتهدٍ على خلاف ما أفتى به أو عدل المكلّف إلى مجتهدٍ آخر مختلف في الفتوى أو غير ذلك من الموارد التي يجمعها إنكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية ، فهل القاعدة تقتضي الإجزاء إلا فيما دلّ الدليل على عدمه ، أو أنّ القاعدة تقتضي عدم الإجزاء في الأحكام الظاهرية وبالتالي وجوب الإعادة والقضاء إلا أنْ يدلّ دليل على عدمه ؟ ().


ومن الأدلة التي اُستدلّ بها على الإجزاء هو الإجماع ، وقد ردّه السيد الخوئي بقوله : إن الإجماع المدّعى لو كان محصلاً لم نكن نعتمد عليه فما ظنك بما إذا كان إجماعاً منقولاً بالخبر الواحد ؛ والسبب في ذلك أنّ تحصيل الإجماع في المسألة دونه خرط القتاد *، إذ كيف يمكن استكشاف قوله - ع - في المقام ولم يتعرض أكثر الأصحاب للمسألة ولم يعنونوها في كلماتهم ؟ ! هذا على أنّا لو سلّمنا إتفاقهم أيضا لم يمكننا الإعتماد عليه لأنّا نعلم أو نظن ولا أقل من أنّا نحتمل إستنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدل بها في المقام ومعه لا يكون الإجماع تعبديا كاشفاً عن قوله  () . 


وقد ذهب السيد الخوئي إلى عدم الإجزاء ووجوب الإعادة أوالقضاء عند قيام الحجة على الخلاف ، إلا في الصلاة إذا كان الإخلال بغير الوقت والقبلة والركوع والسجود والطهور وذلك لحديث لا تعاد ()على ما هو الصحيح ().


 


2ـ عدم جواز تقليد الميت إبتداءً 


فقد ذُكر الإجماع من ضمن أدلة هذا الحكم وقد ردّه السيد الخوئي بقوله :( إنّ الإجماع المدّعى على تقدير تحققه ليس إجماعاً تعبدياً قابلاً لاستكشاف قول المعصوم - ع - به كما إذا وصل إليهم الحكم يداً بيد عنهم - ع - لاحتمال أنْ يستندوا في ذلك إلى أصالة الإشتغال أو إلى ظهور الأدلة في إشتراط الحياة في من يجوز تقليده أو غير ذلك من الوجوه، ومعه لا يمكن الإعتماد على   إجماعهم  ، لوضوح أن الاتفاق بما هو كذلك مما لا اعتبار به ، وإنما نعتبره إذا استكشف به قول المعصوم "ع " ) () .


 


3ـ وجوب تقليد الأعلم 


ذكر السيد الخوئي عند مناقشته للإجماع المدّعى على عدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم : إنّ ذلك من الإجماعات المنقولة التي لا إعتبار بها . على أنّ المسألة لا يحتمل أنْ تكون إجماعية مع ذهاب جمع () إلى جواز تقليد المفضول ، ولو سلّمنا أنّ المسألة إتفاقية فإنّه لا يمكننا الإعتماد على ذلك الإجماع لإحتمال إستناد المجمعين إلى بعض الوجوه المستدلّ بها ومعه لا يكون الإجماع تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم  () .       


 


4ـ منجسيّة المتنجّس لملاقيه 


إنّ النجاسات العينية منجّسة لملاقياتها وموجبة للسراية بحيث لا تزول النجاسة الحاصلة بملاقاتها إلا بغسلها بالماء .


والمشهور أنّ المتنجِّسات كالنجاسات منجِّسات مطلقاً : أي إذا كانت ماءً أو مائعاً أو جامداً ، ومع تعدّد الواسطة وعدمه () . 


وقد عرض السيد الخوئي أدلة المشهور في هذه المسألة في بحثٍ يطول ذكره ، والذي يهم البحث الدليل الثاني وهو الإجماع على تنجيس المتنجّس ، وقد جاءت مناقشة السيد الخوئي للإجماع المدّعى في المسألة ضمن محورين : 


 


الأول : مناقشة كبرى حجية الإجماع 


إنّ دعوى الإجماع في المسألة إنّما تتم لو قلنا بحجيته بقاعدة اللطف - التي اعتمدها الشيخ الطوسي - فإنّ الحكم بتنجيس المتنجّس قد وقع الإتفاق عليه في عصرٍ مثلا ولم يظهر خلافه الإمام  في ذلك العصر فمنه يُستكشف أنّه مرضي عنده . ولكنّا قد أبطلنا هذه القاعدة وذكرنا أنّها على تقدير تماميتها في نفسها لا يمكن أنْ تكون مدركاً لحجية الإجماع بوجه (). 


على أنّ إظهاره الخلاف مما لا يكاد أنْ يترتب عليه ثمرة ؛ لأنّه إنْ ظهر وعرّف نفسه وأظهر الخلاف فهو وإنْ كان موجباً لإتباع قوله   إلا أنّه خلاف ما قدّره الله سبحانه حيث عيّن وقتاً لظهوره لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه . وأما إذا أظهر الخلاف من غير أنْ يظهر ويعرّف نفسه فأي أثرٍ يترتب على خلافه   حينئذٍ ؟ لأنه لم يُعرف بالعلم فضلاً عن إمامته .                             


وأما على طريقة المتأخرين في حجية الإجماع أعني الحدس بقوله  من إجماع المجمعين() فلا يتم دعوى الإجماع في المسألة فإنّه كيف يُستكشف مقالة الإمام عليه السلام من فتوى الأصحاب في المسألة مع ذهاب الحلّي ونظرائه إلى عدم تنجيس المتنجّسات ؟  بل ظاهر كلامه أنّ عدم تنجيس المتنجّس كان من الأمور المسلَّمة في ذلك الزمان إذ يظهر من محكيّ كلامه أنّ المنجسية من آثار عين النجس ، والمتنجّسات الخالية منها نجاسات حكميات(). وكيف كان فإنْ الإتفاق على حكمٍ في زمانٍ لا يوجب العلم بمقالة الإمام  ().


 


 


الثاني : مناقشة الصغرى : تحقّق الإجماع في المسألة


إنّ دعوى الإجماع في المسألة لو تمّت فإنّما تتمّ في حقّ المتأخرين، وأما علمائنا المتقدّمون فلا تعرّض في شيءٍ من كلماتهم إلى تلك المسألة ولم يفتِ أحدٌ منهم بتنجيس المتنجّس مع كثرة الإبتلاء به في اليوم والليلة وفي القرى والبلدان ، ومعه كيف تتمّ دعوى الإجماع على تنجيس المتنجّسات ؟.


وعليه فلا يمكن الإعتماد على الإجماعات المنقولة في المسألة ؛ وذلك للقطع بعدم تحقّق الإجماع من المتقدمين . 


فضلاً عن أنّ الإجماع على تقدير تحققه ليس من الإجماع التعبّدي في شيء لأنّا نحتمل إستناد المُجمعين على الأخبار أو غيرها من الوجوه المستدَلّ بها في المقام () ، وبالتالي يُحتمل أن يكون الإجماع مدركياً .                


وفي نهاية بحث السيد الخوئي عن أدلة منجّسيّة المتنجّس قال:( ولولا مخالفة الإجماع المدعى والشهرة المتحققة على تنجيس المتنجّس مطلقاً  لاقتصرنا في الحكم بتنجيس المتنجّس على خصوص الماء أو المائعات ، ولذا إستشكلنا في تعاليقنا على المتن في تنجيس المتنجّس على إطلاقه  لما عرفت من عدم دلالة الدليل على منجسية المتنجّس ـ في غير الماء والمائعات ـ مع الواسطة ، ومعه فالحكم بمنجسيّته على إطلاقه مبني على الإحتياط ***) ().


ثم يتعرّض السيد الخوئي إلى أدلة عدم منجسية المتنجس وينتهي به البحث إلى عدم تماميتها ويخلص بالقول : ( فالصحيح ما ذكرناه من أنّ المتنجّس بلا واسطة مما لا مناص من الالتزام بمنجسيّته في المائعات وأما المتنجس مع الواسطة فأيضاً لا كلام في منجسيّته في المائعات ، وأما في الجوامد فقد   عرفت ****عدم ثبوتها بدليل وإن ذهب المشهور***** إلى منجسيّته كالمتنجّس بلا واسطة ، ولكن الإفتاء بمنجسيّته مشكل ومخالفة المشهور أشكل ، ومعه يكون الحكم بمنجسيّة المتنجّس مبنيٌ على الإحتياط * ) () .


 


5ـ إعتبار الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر في الغسل 


بعد أنْ ذكر السيد الخوئي أدلة إعتبار الترتيب وأدلة عدم إعتباره وناقشها نقاشاً مستفيضاً ، إنتهى في ختام بحثه إلى نتيجة هي : إنّ الترتيب بين الجانبين مما لا دليل عليه سوى الإجماعات المنقولة والشهرة المحققة() ، والشهرة لا نقول بحجيّتها وكذا الإجماعات المنقولة ؛ لأنّها إخبارات حدسية لا يشملها أدلة إعتبار الخبر الواحد،والإجماع المحصّل غير حاصل لنا ولا سيّما مع مخالفة الصدوقين بعد مراجعة عبارته ولم نرها دالة على إعتبار الترتيب بين الطرفين () ، فالصحيح عدم إعتباره بين الجانبين ولكن الاحتياط **مع ذلك في محلّه (). 


 


6ـ حرمة ترك وطء الزوجة الشابة أكثر من أربعة أشهر


ذكر السيد الخوئي أنّ هذه الحكم في الجملة موضع وفاق ، بل لم ينقل الخلاف فيه عن أحد ()، وأستدل له في الجواهر() فضلاً عن الإجماع ، وكونه مدة الايلاء بصحيحة صفوان بن يحيى عن الرضا: ( أنّه سأله عن الرجل تكون عنده المرأة الشابة ، فيمسك عنها الأشهر والسنة لا يقربها ليس يريد الإضرار بها يكون لهم مصيبة يكون في ذلك آثماً ؟ قال: إذا تركها أربعة أشهر كان آثماً بعد ذلك إلّا أن يكون بإذنها ) (). مؤيداً بنفي الحرج والإضرار وبالمروي عن الصادق  :    ( قال : من جمع من النساء ما لا ينكح فزنى منهن شيء فالإثم عليه ) () . ولكن في جميع ما استدل به صاحب الجواهر باستثناء صحيحة صفوان نظر ، إذ لا ينبغي الشك في عدم كون الإجماع تعبدياً ، فإنّه بعد ورود الصحيحة يكون مثل هذا الإجماع مدركياً فلا يمكن الإعتماد عليه لأنّه لا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام ) () . 


 


7ـ نجاسة كل مسكرٍ مائعٍ بالأصالة 


ناقش السيد الخوئي الإجماع الذي ذُكر في بداية بحثه في المسألة ، وبعد ذكر الأدلة ومناقشتها إنتهى إلى القول بالإحتياط  ، بقوله : ( ... إلا أنّ الإجماع التقديري المتقدم في صدر المسألة وإنعقاد الشهرة الفتوائية على نجاسة جميع المسكرات أوقفنا من الحكم بطهارة غير الخمر من المسكرات التي يتعارف شربها وألزمنا بالإحتياط اللازم في المقام ) () .


 


وهناك نماذج أخرى ذُكر فيها الإجماع ـ سواء أكان منقولاً أم محصّلاً ـ كأحد الأدلة وقد ناقشها السيد الخوئي وردّها ، اُشير إلى بعضها إجمالاً طلباً   للإختصار : 


8ـ تخيير المصلي بين إتمام الصلاة أو قطعها والمبادرة لأزالة النجاسة لو إلتفت إليها أثناء الصلاة () .


9ـ عدم الفرق في الدم المعفوّ عنه في الصلاة بينما إذا كان من نفسه أو غيره ، وسواء أكان في البدن أم اللباس ، أم كان من الحيض او النفاس او      الإستحاضة ().


10ـ يجوز للمربيّة للصبي أنْ تصلي في ثوبها النجس بشرط إستلزام ذلك الحرج الشخصي مما يُعفى عنه في الصلاة () . 


11ـ جواز بيع العذرة للإنتفاع بها منفعة محللة ، أما الكلب غير الصيود والخنزير والخمر والميتة فإنّه لا يجوز بيعها بحال() .


12ـ جواز مسح القدمين مع وجود الحائل عند الضرورة * وعدم التمكن العرفي من المسح على البشرة () . 


13ـ جواز نقل الميت إلى الأماكن المتبركة والمشاهد المقدسة () .


14ـ عدم ثبوت الإجماع المدّعى على إلحاق الجاهل بشرط أو جزء في الصلاة  بالعامد ()  .


15ـ إتمام صلاة الليل إذا صلّى منها أربع ركعات وطلع الفجر () .


16ـ صحة المضاربة * بالأوراق النقدية وعدم إختصاصها بالذهب والفضة المسكوكين ()  .


17ـ عدم إنعقاد الإجماع على إشتراط إمتزاج المالين في الشِّرْكة () .


18ـ حرمة الزوج على زوجته الصغيرة دواماً أو متعةً إذا دخل بها قبل إكمالها تسع سنين وأفضاها ()  .


19ـ مَنْ زنى بذات بعلٍ دواماً أو متعةً حرمت عليه مؤبداً على الأحوط      وجوباً () .


20ـ عدم إنعقاد الإجماع على أنّ المعاطاة لا تفيد الملكية () .


 


ويبدو مما تقدّم أنّ السيد الخوئي قد رتّب الأثر على الإجماع مع أنّه ليس بحجة عنده ، ولذا نجده يقول بالإحتياط اللزومي في الموارد التي ثبت بها الإجماع ** ، مع أنّه حتى لو قلنا بأنّ الإحتياط حسنٌ على كلّ حال ـ وهو كذلك ـ ولكن لمَ لا يكون هذا الإحتياط  إستحبابياً ؟ فقوله بالإحتياط اللزومي بلا مدرك .


 


 


 


 


المطلب الثاني : تطبيقات الشهرة 


   


 إمتاز السيد الخوئي خلال بحثه الفقهي بمناقشاته الكثيرة للشهرة الإستنادية ، وإنعكس ذلك على النتائج التي توصّل إليها من الإفتاء بخلاف المشهور تارة أو القول بالإحتياط  حذراً من مخالفة المشهور تارة أخرى ، أو موافقة المشهور أحياناً أخر . وسيعرض  البحث هذه الحالات  الثلاثة تباعاً .


 


الحالة الأولى : نماذج تطبيقية لمخالفة المشهور


1ـ  لو قدّم المكلف صلاة العصر على الظهر أو صلاة العشاء على المغرب سهواّ


  فقد ذهب المشهور إلى أنّه : إنْ كان في الوقت المختص* بطلت ، وإنْ كان في الوقت المشترك : فإنْ كان التذكّر بعد الفراغ صحّت ، وإنْ كان في الأثناء عدل بنيّته إلى السابقة إذا بقي محل العدول ، وإلا - كما إذا دخل في ركوع الركعة الرابعة من العشاء - بطلت ، وإنْ كان الأحوط الإتمام والإعادة بعد الإتيان بالمغرب () .


وذكر السيد الخوئي عند تعرّضه لهذه المسألة () أنّ لها ست صور ، ومحل الشاهد هو الصورة الأولى منها وهي : ما إذا أتى باللاحقة في الوقت المشترك قبل السابقة وكان التذكر بعد الفراغ عنها كما إذا أتى بصلاة العشاء قبل المغرب وبعد الفراغ عنها تذكر عدم إتيانه بالمغرب قبل العشاء فهل يحكم بصحة اللاحقة حينئذ أو لا ؟ .


والمعروف بين الأصحاب صحة اللّاحقة وقتئذ وذلك بمقتضى الأخبار الخاصة الواردة في ذلك (1) ، فضلاً عن حديث لا تعاد(2) إذ لم يعد الإخلال بالترتيب فيه من جملة المستثنيات ، ومعه لا حاجة في الحكم بصحة اللاحقة إلى الروايات الواردة في المقام .


وفي خصوص صلاتي الظهرين نزاعٌ آخر وهو أنّ ما أتى به المكلف من اللاحقة هل تحتسب عصراً ويجب أنْ يؤتى بعدها بصلاة الظهر أو لا بدّ من أنْ يعدل بنيّتها إلى السابقة ويجعلها ظهراً ، ثم يأتي بصلاة العصر بعد ذلك ؟


 والمشهور أنْ ما يأتي به يُحتسب عصراً لا محالة . وهو الذي يقتضيه حديث لا تعاد ؛ لأنّه إنّما أتى بها بنية العصر ، فلا مقتضي لوقوعها ظهراً أبداً ، فالقول بأنّه يعدل بنيّته إلى الظهر ولو بعد الصلاة ثم يأتي بصلاة العصر شاذ غير قابل للإعتناء به .


ويستدرك السيد الخوئي قائلاً : نعم هناك صحيحتان تدلان على أنّ ما أتى به من اللاحقة تقع ظهراً ثم يصلي العصر بعدها ، وهذا القول وإنْ كان شاذاً إلا أنّه تدل عليه صحيحتان :


1ـ  صحيحة زرارة عن أبي جعفر: (... وقال : إذا نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فأنوها الأولى ثم صل العصر فإنّما هي أربع مكان أربع. .. ) (3).


2ـ صحيحة الحلبي المضمرة * قال : سألته عن رجل نسي أنْ يصلي الأولى حتى صلى العصر قال : فليجعل صلاته التي صلى الأولى ثم ليستأنف العصر (4) .


فإنّ مقتضى هاتين الصحيحتين وجوب العدول بعد العصر إلى صلاة الظهر معينة ثم الإتيان بصلاة العصر والشهرة على خلافهما ؛ لكبرى أنّ إعراض المشهور عن رواية صحيحة إذا كانت بمرئي ومسمع منهم يوجب وهنها وسقوطها عن الحجية ، إذ لو لم تكن فيها مناقشة في شيء من الجهات لم يكن وجه لإعراضهم عن الرواية مع فرض صحتها وتماميتها أو أنّ اعراضهم عن رواية غير مؤثر في وهنها ولا يوجب سقوطها عن الحجية والإعتبار ، وأنّ عملهم على طبق رواية ضعيفة ليس بجابر لضعفها  ؟


فعلى الأول تسقط الصحيحتان عن الحجية ولا مناص من الرجوع حينئذ إلى ما تقتضيه القاعدة ، ومقتضى قاعدة لا تعاد إحتساب ما أتى به من اللاحقة عصراً - كما أتى به - والإتيان بصلاة الظهر بعدها .


 وأنّه على الثاني لا بدّ من العمل على طبق الصحيحتين والعدول بعد صلاة العصر إلى الظهر بنيته ثم الإتيان بصلاة العصر .


ويرى السيد الخوئي : إنّ العمل على طبق الصحيحتين وإنْ أعرض المشهور عنهما هو الأقوى عنده لأنّ أعراض المشهور عن رواية صحيحة غير موجب لوهنها وسقوطها عن الحجية كما أنّ عملهم على طبق رواية ضعيفة غير جابر لضعفها () .


 مع أنّ الإحتياط يقتضي العدول بعد العصر إلى صلاة الظهر بنيته والإتيان بعدها بأربع ركعات بقصد ما في الذمة الأعم من الظهر والعصر من غير أنْ ينوي إحداهما هذا كله في الظهرين . وأما إذا أتى بالعشاء قبل المغرب - من غير عمد - فلا خلاف في أنّها تقع عشاء ولا بدّ من أنْ يأتي بالمغرب بعدها ؛ وذلك لأنّه مقتضى حديث لا تعاد () .


وبذلك يكون السيد الخوئي قد أفتى وفق الصحيحتين بعدول المصلي بنيته إلى صلاة الظهر بعد أن صلّى بنية العصر سهواّ ثم يصلي العصر ، ولم يعتنِ بإعراض المشهور عن الصحيحتين ،  وإفتائهم بأنّ الصلاة التي صلّاها هي العصر ثم يصلّي الظهر بعدها .


 


2ـ  وجوب سجود السهو عند الشك في كل زيادة أو نقيصة 


أنكر مشهور الأصوليين () وجوب سجدة السهو لمجرّد الشك في الزيادة ، أو الشك في النقيصة عدا الصدوق والعلّامة الحلي، والشهيد الثاني ().


 


 


وذكر السيد الخوئي أنّه : يستدل للوجوب بطائفة من الأخبار() : 


منها صحيحة زرارة : عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إبن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر  يقول: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ، وسمّاهما رسول الله  المرغمتين () . 


وصحيحة الحلبي : محمد بن الحسن ، بإسناده عن سعد ، عن أبي جعفر ، عن إبن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن عبيد الله بن علي الحلبي ، عن أبي عبد الله  قال : إذا لم تدر أربعاً صليت أم خمساً أم نقصت أم زدت فتشهّد وسلّم واسجد سجدتين بغير ركوع ولا قراءة فتشهد فيهما تشهداً خفيفاً (). 


وصحيحة الفضيل بن يسار : محمد بن علي بن الحسين الصدوق ، بإسناده عن الفضيل بن يسار، أنّه سأل أبا عبد الله عن السهو فقال : من حفظ سهوه فأتمه فليس عليه سجدتا السهو ، وإنّما السهو على من لم يدر أزاد في صلاته أم نقص منها() . 


وموثقة سماعة : محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة قال : قال : من حفظ سهوه فأتمه فليس عليه سجدتا السهو إنّما السهو على من لم يدر أزاد أم نقص منها (). 


 وهذه الأخبار المتحدة في المفاد مطلقة من حيث تعلق الشك بالأفعال أو بأعداد الركعات ، فقالوا إنّها تدل على وجوب السجود لمجرد الشك في أنّه زاد أم لا ، أو الشك في أنّه نقص أم لا ، وبما أنّ سجدة السهو المجعولة لإرغام الشيطان إنّما تشرّع في صلاة محكومة بالصحة من دون البطلان ، فينبغي أنْ تُحمل على  فرض كون الشك بزيادة جزء غير ركني أو نقيصته كالسجدة الواحدة  . 


فهذه الروايات بعد التقييد المذكور ظاهرة الدلالة على الوجوب في الفرض المذكور ، قوية السند ، فلا مانع من الأخذ بها والحكم بوجوب سجدة السهو لدى العلم الاجمالي بالزيادة أو النقص عدا إعراض المشهور عنها ، فإنْ بنينا على أنّ الإعراض مسقط  للصحيح عن الإعتبار كما هو المعروف عند مشهور الأصوليين () إتّجه القول بعدم الوجوب الذي عليه المشهور ، وإلا كان العمل بها متعيّناً ، وحيث أنّ المختار هو الثاني فالأقوى وجوب سجدة السهو       لذلك ().


ويتبيّن مما تقدّم أنّ السيد الخوئي أفتى وفق الروايات الواردة في المقام بوجوب  سجدة السهو عند الشك في الزيادة أو النقيصة ، وإنْ أعرض المشهور عن هذه الروايات وأفتوا بعدم وجوب سجدة السهو ؛ وذلك إستناداً إلى مبناه الأصولي بأنّ إعراض المشهور عن رواية صحيحة غير كاسر لها كما أنّ عملهم على وفق رواية غير جابر لضعفها .


وبالتالي يكون السيد الخوئي قد وافق الصدوق والعلّامة الحلي والشهيد الثاني . 


 


3ـ  خيار التأخير فيما يفسد من يومه


ذهب المشهور إلى أنّ من جملة الخيارات التأخير بالثمن فيما يفسد من يومه ().


 تحقيق السيد الخوئي في مدرك الحكم () :


 إستدل المشهورعلى هذا الحكم بمرسلة محمد بن أبي حمزة البطائني : (عن محمد بن أبي حمزة أو غيره عمن ذكره عن أبي عبد الله وأبي الحسن ( عليهما السلام ) في الرجل يشتري الشيء الذي يفسد من يومه ويتركه حتى يأتيه بالثمن ، قال : إنْ جاء فيما بينه وبين الليل بالثمن وإلا فلا بيع له ) () .


وناقش السيد الخوئي الرواية من جهة السند والدلالة ، مع مناقشة مبنى المشهور :


 أما مناقشة السند :فالرواية مرسلة ؛ بقوله : (أو غيره عمّن ذكره)، فالسند غير تام ، فضلاً عن ضعف علي بن أبي حمزة البطائني* .


 وأما الدلالة : فإنّ ظاهرها أنّ الخيار إنّما هو من أول الليل لا قبله ، مع أنّه من اللغو الظاهر، فإنّ المفروض أنّ المبيع يفسد من يومه ففي الليل يشرع في الفساد فأيّ فائدة في كون البائع متمكناً من الفسخ ، فإنّ الظاهر أنّ حكمة جعل هذا الخيار هي عدم تضرر البائع من جهة فساد المبيع ، وأما ما يُذكر في المقام من أنّ الخيار يثبت للبائع من النهار فهو ممّا لا تدل عليه الرواية .


 فإنْ قلنا بما هو ظاهر الرواية من جعل الخيار للبائع من الليل فهو أمر لا ثمرة له ، وإنْ قلنا بما هو ظاهر بعض الأصحاب من ثبوت الخيار للبائع من النهار ممّا لا تدل عليه الرواية ، ومن هنا عبّر الشهيد الأول ()عن هذا الخيار بخيار التأخير فيما يفسده المبيت ، لحمل اليوم على اليوم وليلته الآتية كما ربما يطلق ويراد منه ذلك أعني أربعة وعشرين ساعة ، وبهذا يرتفع المحذور، فإنْ جعل الخيار للبائع من الليل فيما لم يفسده النهار وإنّما يفسده المبيت ممّا لا لغوية فيه ، وثمرته تمكّن البائع من فسخ المعاملة قبل فساد المبيع ، وبهذا يرتفع الإشكال في دلالة الرواية وتنحصر المناقشة في السند .


 


أما مناقشة المبنى : فإنّ مبنى المشهور هو أنّ عملهم برواية يجبر ضعف السند فيها ، مع أنّ الشهرة الإستنادية لم يثبت حجيّتها عند السيد الخوئي ولذا فإنّها لا توجب جبر ضعف الرواية المذكورة . 


 وعرض السيد الخوئي مدركاً آخر ذكره الشيخ الأنصاري وهو قاعدة لا ضرر() وناقشه وردّه ، وبذلك ينتهي السيد الخوئي إلى أنّ ثبوت الخيار في المسألة لا مدرك له باعتبار إعتماد المشهورعلى المرسلة غير المنجبرة   بعملهم .


ثم ذكر السيد الخوئي طريقاً آخر لإثبات الخيار في المقام وهو الرجوع إلى سيرة العقلاء وإرتكازهم ، وبذلك لا نخصّص الخيار بما إذا كان المبيع ممّا يفسد من يومه كما خصّوه ، بل يُتعدّى الى ما يفسد من ساعته كالثلج، بل إلى ما لا يعرضه الفساد أصلاً كما في الأقمشة ، بل إلى ما كان التأخير موجباً لذهاب سوقه () . 


 


وهناك نماذج تطبيقية أخرى اُشير إليها إجمالاً طلباً للإختصار  :  


4 ـ ماء البئرالنابع بمنزلة الماء الجاري لا يتنجّس إلا بالتغيّر () .


5 ـ عدم إعتبار التوالي والإستمرار في دم الحيض () .


6 ـ عدم إعتبار الدعاء بالكيفية المتعارفة في صلاة الجنائز () .


7 ـ عدم ثبوت ولاية الوصي على تزويج الصغير () .


8 ـ  وجوب  الخمس على الجائزة () .


9 ـ  جواز بيع العين المرهونة () .


10 ـ  ثبوت خيار المجلس للوكيل () .


11 ـ  ثبوت القصاص على القاتل : لو قال أحد لغيره إقتلني فقتله () .


12 ـ  عدم جواز إحلاف الحاكم أحداً إلا في مجلس قضائه () .


13ـ  ثبوت مطلق حقوق الناس بشاهد ويمين ولا يختص ذلك بالمال () .


14 ـ عدم إختصاص الحلف بصاحب الحق () .


 15ـ قبول دعوى أب المرأة المتوفاة أو غيره عارية بعض ما كان عندها من الأموال() .


 


الحالة الثانية : القول بالإحتياط حذراً من مخالفة المشهور


  هناك نماذج عديدة خالف بها السيد الخوئي رأي المشهور في بحثه الفقهي من خلال النظر في أدلتهم ولكن قال بموافقة المشهور بالإحتياط  حذراً عن  مخالفتهم ، ومن هذه الموارد :


   1 ـ الأحوط وجوباً عدم جواز السجود على العقيق والفيروزج 


يشترط الفقهاء في مسجد الجبهة من مكان المصلي فضلاً عن طهارته أنْ يكون من الأرض أو ما أنبتته غير المأكول والملبوس ، فلا يصح السجود على ما خرج عن اسم الأرض .


 وقد ذهب المشهور إلى عدم صحة السجود على المعادن مثل الذهب والفضة والعقيق والفيروزج لخروجها عن إسم الأرض () .


وكان تحقيق السيد الخوئي كالآتي : 


أما الذهب والفضة فلا شكّ في عدم صحة السجود عليهما ؛ لخروجهما عن اسم الأرض ونباتها ؛ لأنّهما ليسا من الأرض ، وإنّما هما فلزّان مخصوصان يتكوّنان في الأرض بقدرته تعالى .


وأما العقيق والفيروزج ونحوهما من الأحجار الكريمة ، ففي خروجها عن اسم الأرض تأمل بل منع ؛ إذ لا نرى فرقاً بينها وبين بقية الأحجار كالحصاة ونحوها في صدق إسم الأرض عليها ، غايته أنّها تشتمل على صفات خاصة من الصفاء والجلاء واللون الخاص الموجب لرغبة العقلاء إليها ، وبذل المال بإزائها ، وبذلك أصبحت من الأحجار الكريمة ، فإتصاف تلك الأحجار بكونها كريمة وشرائها بأغلى الثمن لعلّه لا نعرفها لا يستوجب خروجها عن صدق إسم  الأرض .


وعليه فالأقوى خلافا للمشهور جواز السجود عليها وإنْ كان الاحتياط لا ينبغي تركه ، حذراً عن مخالفة المشهور () .


 


2 ـ الأحوط وجوباً نجاسة أهل الكتاب


المشهور بين المتقدّمين والمتأخرين هو نجاسة أهل الكتاب () .


 وتعرّض السيد الخوئي إلى الأدلة في المسألة مبيّناً أنّ الروايات مختلفة منها ما يُستدل بها على طهارتهم ومنها ما يُستدل بها على نجاستهم ، وإنتهى إلى نتيجة في ختام بحثه : ( أنّ طهارة أهل الكتاب كانت إرتكازية عند الرواة إلى آخر عصر الأئمة عليهم السلام  وإنّما كانوا يسألون عما يعمله أهل الكتاب أو يساوره من أجل كونهم مظنّة النجاسة العرضية ، ومن هنا يشكل الإفتاء على طبق أخبار النجاسة إلا أنّ الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل ، لأنّ معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخرين على نجاسة أهل الكتاب ، فالاحتياط اللزومي مما لا مناص عنه في المقام ) ().


وفي موضع آخر يقول أيضا : ( ولو كنّا نحن وهذه الروايات لحملنا الأخبار المانعة على التنزّه وقلنا بطهارتهم جمعاً بين ما دل على نجاسة أهل الكتاب وما دلّ على طهارتهم وإنّما لا نلتزم بذلك للشهرة العظيمة القائمة على نجاسة أهل الكتاب وإرتكازها في أذهان المسلمين ) () .


 وفي موضع ثالث يقول أيضاً : ( ... لأنّا إنْ قدّمنا الأخبار الدالة على طهارة أهل الكتاب ولم نعمل بالأخبار الدالة على نجاستهم ـ وإنّما لم نفت بذلك لعدم الإجتراء على مخالفة المشهور ـ وقلنا أن ّنجاستهم عرضية ) () .


وبهذا يتبيّن أنّ الذي دعا السيد الخوئي إلى القول بالاحتياط بنجاسة أهل الكتاب هو الحذرعن مخالفة المشهور وإلا لو بقي والأدلة لحكم بطهارتهم . 


وهناك نماذج أخرى اُشير إلى بعضها إجمالاً : 


 


3ـ منجسيّة المتنجّس لملاقيه في الجوامد مع الواسطة () .


4ـ إذا تعذّر السدر أو الكافور للميت فالأحوط الجمع بين التيمم والغسل بالماء القراح ().


5ـ ترك الإعتماد على عصا أو جدار في قيام الصلاة () . 


6ـ  عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم سورة الحمد والسورة الأخرى للصلاة ().


7ـ ضمّ الإنحناء بالقدر الممكن إلى الإيماء لمنْ يعجز منه بالوجه المطلوب ().  


8ـ التكتّف بقصد الخضوع والعبودية مُبطل للصلاة () .


9ـ إستحباب سجدة السهو للقيام موضع القعود () .


10ـ كفّارة خدش المرأة في المصاب *، وشقّ الرجل ثوبه على زوجته أو       ولده ().


11ـ وجوب المتابعة في صيام الكفارات () .


 


 


 


12ـ الجمع بين الإشعار* والتلبية والتقليد ** في إنعقاد الإحرام () .


13ـ الوقوف في يوم عرفة من الزوال إلى الغروب () .


14 ـ جواز فسخ الإجارة المعاطاتية () .


 


الحالة الثالثة : موافقة المشهور 


 


وافق السيد الخوئي مشهور الأصوليين في فتاوى لمسائل فقهية عديدة ، وذلك بعد النظر في الأدلة التي استندوا إليها ، فإذا لاحظ تماميتها إتّبع تلك الادلة وإن كانت نتيجتها فتوىً تطابق ما ذهب إليه المشهور، ومن تلك المسائل :


 


1ـ إستحباب الأذان والاقامة للفرائض اليومية


بيّن السيد الخوئي أنّ المشهور بين الفقهاء قديماً وحديثاً () إستحباب الأذان والإقامة جماعة وفرادى ، سفراً وحضراً ، للرجال وللنساء ، أداءً وقضاءً ، في جميع الفرائض الخمس ، وإنْ كان الإستحباب في الإقامة آكد ، ويتأكدان في بعض الفرائض كالمغرب والفجر () .  


وبعد أنْ عرض السيد الخوئي الأقوال في المسألة قال : ( الأقوى ما عليه المشهور) () .


 


 


2ـ عدم جواز المسح في الوضوء على الحائل 


في مسألة عدم جواز المسح على الحائل من العمامة أو القناع أو غيرهما وإنْ كان شيئاً رقيقاً لم يمنع عن وصول الرطوبة إلى بشرة الرأس عند مسح الرأس في الوضوء ذكر السيد الخوئي الروايات التي إعتمدها الفقهاء في الإستدلال وجوب المسح على مقدَّم الرأس ، والتي منها صحيحة زرارة وبكير عن الإمام الباقر : (... ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقية بلّة يمناه...) () ؛ إذ لا يطلق على الحائل عنوان المقدّم والرأس ، فلا المسح عليهما مسحاً على الرأس أو المقدّم () .


ومرفوعة محمد بن يحيى الصريحة في عدم الجواز: ( محمد بن يحيى رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام في الذي يخضّب رأسه بالحنّاء ثم يبدو له في الوضوء، قال : لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء ) () .


ثم ذكر السيد الخوئي روايتين تجوّزان المسح على الحنّاء وهما : صحيحة عمر بن يزيد قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الرجل يخضّب رأسه بالحنّاء ثم يبدو له في الوضوء ، قال : يمسح فوق الحنّاء ، وصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام :(في الرجل يحلق رأسه ثم يُطليه بالحنّاء ثم يتوضأ للصلاة، فقال :لا بأس بأنْ يمسح رأسه والحنّاءعليه )().


وبعد ذلك علّق السيد الخوئي على هاتين الروايتين : بأنّهما متعارضتان مع الروايات المشهورة المعروفة ، ولا مناص من إلغائهما لندرتهما ، ويجب الأخذ بالمشهورة () .


 


وبهذا يتّضح أنّ السيد الخوئي في مورد الشهرة الروائية يرجّح الروايات المشهورة على الشاذة والنادرة في مقام التعارض .


وهناك نماذج أخرى أذكر بعضها إجمالاً :


 


3ـ تحديد الكُرّ بالوزن *: قال السيد الخوئي في هذه المسألة : ( فما ذهب إليه المشهور هو الحق الصراح ) () .


4ـ عدم وجوب غسل الشعر في الغسل الواجب : صرح السيد الخوئي برأيه هذا في هذه المسألة بقوله : ( فتحصّل : إنّ غسل الشعر غير واجب كما ذهب إليه المشهور إلا إذا كان خفيفاً ومعدوداً من توابعه ) ().  


5ـ عدم جواز السجود على القير والزفت : ذكر السيد الخوئي ما نصّه :( الأقوى عدم جواز السجود على القير والزفت كما عليه المشهور ) () .  


6ـ سقوط القضاء عمّن فاته شهر رمضان أو بعضه لمن يستمر به المرض : بعد أنْ عرض السيد الخوئي للأدلة ومناقشة الأقوال الأخرى في المسألة إنتهى إلى أنّه : ( الصحيح ما عليه المشهور من سقوط القضاء والإنتقال إلى الفداء )() .


7ـ عدم دخول الليلة الأولى في مدة الاعتكاف : قال السيد الخوئي في هذه المسألة : (...إنّما الكلام في الليلة الأولى ، فالمشهور عدم الدخول ،... ، والصحيح ما عليه المشهور، فإنّ اليوم ظاهر لغةً وعرفاً في بياض النهار في مقابل قوس الليل ، قال تعالى :( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ... * ) () .


8ـ إستحباب إخراج الزكاة في الحبوب ممّا يُكال أو يوزن : قال السيد الخوئي :    ( فما ذهب إليه المشهور من الحكم بالإستحباب في سائر الحبوب ـ ما عدا الحنطة والشعير ـ ممّا يُكال أو يوزن هو الصحيح ) () .


9 ـ جواز دفع الشاة الهرمة أو المعيبة في الزكاة إذا كان النصاب متألفاً منه فقط : ذكر السيد الخوئي في هذه الفرض من فروض المسألة أنّه : ( والصحيح ما عليه المشهور ، فإنّ الزكاة حقٌّ متعلّقٌ بالعين كيف ما قلنا في كيفية التعلّق ، فالواجب إبتداءً الدفع من نفس العين وإنْ جاز التبديل بالقيمة ، بمقتضى الدليل        الثانوي) () . 


10ـ ثبوت الولاية للجد في تزويج الصغير مطلقاً (أي مع وجود الأب أو عدمه ):   قال السيد الخوئي : ( فالصحيح في المقام هو ما ذهب إليه المشهور من ثبوت الولاية للجد مطلقاً ) () .


11ـ المبيع يُملك بالعقد لا بإنقضاء زمن الخيار : إنتهى السيد الخوئي إلى نتيجة عند بحثه لهذه المسألة : (مقتضى القاعدة هو الأخذ بقول المشهور )() .


12ـ الحوالة *عقد وليس إيقاع : ذكر السيد الخوئي في هذه المسألة : ( فالصحيح في المقام ما ذهب إليه المشهور من كون الحوالة عقداً بين المحيل والمحتال ، لكونها تبديلاً لما في ذمته للمحتال بما في ذمة المحال عليه )() . 


13ـ قبول شهادة المتبرع بها **: ذكر السيد الخوئي ما نصّه : ( المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة القبول ... وما ذكره المشهور هو الصحيح لإطلاقات الأدلة وعموماتها )().


 


ويبدو مما تقدّم : أنّ السيد الخوئي في تطبيقاته الفقهية لم يكن على وتيرةٍ واحدة فتارةً يوافق المشهور ، لا من أجل أنّ المشهور ذهب إلى ذلك الرأي في مسألةٍ ما بل لأنّ الدليل قاده إلى ذلك الرأي ويصرّح بأنّ المتّبع هو الدليل ()، وتارةً أخرى يخالفهم صريحاً لنفس السبب المتقدّم ، وهذا هو ديدن الباحث الموضوعي ، ولكن نراه في بعض المسائل الفقهية ـ كما مرّ آنفاً ـ يذهب إلى القول بالإحتياط حذراً من مخالفة المشهور ، فقول المشهور إمّا أنْ يكون له إعتبار عنده أو لا ؟ فإذا كان له اعتبار فليوافقهم دائماً ، وإنْ لم يكن له إعتبار فليتبّع الدليل          وهو الأجدر بنظر الباحث القاصر، فمسألة القول بالإحتياط ـ وإنْ كان حسناً على حال ـ حذراً عن مخالفة المشهور ، تبقى ملاحظة يسجّلها البحث على السيد الخوئي على جلالة قدره وعمقه العلمي . 


 


 


 


 


           الفصل الثالث : مباحث الاستصحاب  


 


المبحث الأول : أمارية الاستصحاب 


      المطلب الأول : الاستصحاب لغةً واصطلاحاً


      المطلب الثاني : الفرق بين الأصل والإمارة 


      المطلب الثالث : تقديم الأمارات على الاستصحاب


 


المبحث الثاني : عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية


       المطلب الأول : تبنّي الخوئي لرأي النراقي


       المطلب الثاني : مناقشة الإشكالات الواردة على رأي النراقي


       المطلب الثالث : استثناء الأحكام غير الإلزامية والشبهات الحكمية الوضعية


                     


المبحث الثالث : استصحاب الكلي


     المطلب الأول : أقسام استصحاب الكلي


    المطلب الثاني : مناقشات القسم الرابع من استصحاب الكلي


 


المبحث الرابع :  تطبيقات فقهية


                            


  


 


 


 


 


 


 


الفصل الثالث


مباحث الإستصحاب


 


تتضمّن الأصول العملية موضوعات عدة : أصالة البراءة وأصالة التخيير وأصالة الإحتياط  والإستصحاب ، ولم يمتاز السيد الخوئي برأي أصولي على نحو الإبداع والتجديد بحيث يُعدّ ذلك معلماً بارزاً له في مدرسته الأصولية فيما ذُكر عدا موضوع الإستصحاب على ما ذكره تلامذته (1) . 


 ولذا عنى هذا الفصل بمباحث الإستصحاب على نحو الخصوص من دون غيرها من موضوعات الأصول العملية ، وتضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث ، وهي :


 


المبحث الأول : أمارية الإستصحاب


 


يُعدّ القول بأنّ الإستصحاب أمارة وليس أصلاً من معالم البحث الأصولي عند السيد الخوئي ، ولذا جاء هذا المبحث لتسليط الضوء على هذه المسألة ، وقد تضمن ثلاثة مطالب :


 


المطلب الأول : الإستصحاب لغةً واصطلاحاً


 


الإستصحاب لغةً :  


 إستفعال من مادة ( صحب ) التي تدل على مقارنة شيءٍ من صاحبه ، وكل شيءٍ لازم شيئاً فقد استصحبه ، واستصحب الشيء لازمه ، ومن هنا قيل : إستصحبت الحال ، إذا تمسكت بما كان ثابتاً ، كأنك جعلت تلك الحال مصاحبة غير مفارقة () . 


 


 


  الإستصحاب اصطلاحاً :


 عرّف السيد الخوئي الإستصحاب بتعريفاتٍ عدة بناءً على إختلاف مباني الأصوليين في الإستصحاب ، فبناءً على كونه من الأمارات المفيدة للظن النوعي* فقد عرّفه بأنّه : كون الحكم متيقناً في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ؛ فإنّ كون الحكم متيقناً في الآن السابق أمارة على بقائه ومفيدة للظن النوعي ، فيكون الإستصحاب كسائر الأمارات المفيدة للظن النوعي ـ كخبر الثقة ـ ويكون المثبت منه حجة أيضاً على ما هو المعروف بين الأصوليين .


وبناءً على كونه من الأمارات المفيدة للظن الشخصي **، فقد عرّفه بأنّه : الظن ببقاء حكمٍ يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق .


 فيكون الإستصحاب كبعض الظنون الشخصية المعتبرة شرعاً في بعض المقامات ، كالظن في تشخيص القبلة والظن بالركعات في الصلوات الرباعية . 


وأما على القول بكون الإستصحاب من الأصول العملية ، فلا بدّ من تعريفه بأنّه : حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من حيث الجري العملي ().


ولقد أورد السيد الخوئي هذه التعريفات للإستصحاب بعد أنْ أجمل ما ذكره الشيخ مرتضى الأنصاري من تعريفات عدّة للإستصحاب مبيّناً مختار الأنصاري في المقام بجعله الإستصحاب من الأصول العملية ، إذ قال عند تعرضه لتعاريف الإستصحاب :( إنّ أسدها وأخصرها إبقاء ما كان ، والمراد بالإبقاء الحكم  بالبقاء )() .


 وقد علّق السيد الخوئي على كلامه : بأنّ المراد من الإبقاء هو الإبقاء بحكم الشارع لا الإبقاء التكويني () .


وذكر كلاماً للمحقق الآخوند الخراساني في تعريف الإستصحاب ، إذ قال :( ولا يخفى أنّ عباراتهم في تعريفه وإنْ كانت شتّى ، إلا أنّها تشير إلى مفهومٍ واحدٍ ومعنى فارد ، وهو الحكم ببقاء حكمٍ أو موضوعٍ ذي حكمٍ شُكّ في بقائه )(). 


وقد علّق السيد الخوئي على كلام الخراساني المتقدّم بقوله : (إنّ ما ذكره من كون التعاريف مشيرةً إلى معنى واحد ، فغير صحيحٍ ،لإختلاف المباني في الإستصحاب ، وكيف يصحّ تعريف الإستصحاب بأنّه حكم الشارع بالبقاء في ظرف الشك بناء على كون الإستصحاب من الأمارات ؟ فإنّ الأمارات ما ينكشف الحكم بها فلا يصح تعريفها بالحكم) () .


أما المحقق النائيني فقد عرّف الإستصحاب بأنّه :(عبارة عن عدم إنتقاض اليقين السابق المتعلق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشك في بقاء متعلّق اليقين) () ، وهذا التعريف إستناداً على مبناه من أنّ الإستصحاب من الأصول العملية .


أما بناءً على كون الإستصحاب من الأمارات فإنّ أحسن التعريفات له هو:( كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللّاحق)() ، منبّهاً إلى أنّ الإستصحاب كان معدوداً من الأمارات الكاشفة عن الواقع إلى زمن الشيخ حسين عبد الصمد العاملي ( ت :984هـ) والد الشيخ البهائي ( ت :1031هـ) .


ورجّح المحقق العراقي ما اختاره االشيخ الأنصاري من تعريفٍ للإستصحاب ، مبيّناً وجهي أخصريّته وأسدّيته ، وقد تبنّى كون الإستصحاب من الأصول ().


وبمناقشة السيد الخوئي لتعريف الأنصاري للإستصحاب تتبيّن مناقشته لأستاذه المحقق العراقي .


وذهب المحقق محمد حسين الأصفهاني في تعريف الإستصحاب إلى أنّه : ( إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأول ) () ، وهو مختار الشيخ البهائي ( ت :1031هـ)  في المقام () .


وأما السيد محمد باقر الصدر فقد ذكر في تعريف الإستصحاب أنّه : ( حكم الشارع على المكلف بالإلتزام عملياً بكل شيءٍ كان على يقين منه ثم شُكّ في بقائه) () .


 


ويبدو ممّا تقدم أنّ أدق التعريفات وأشملها هو ما ذكره السيد الخوئي ؛ للتفصيل المذكور فيها ومراعاة المباني المختلفة عند الأصوليين في الإستصحاب .


 


 


المطلب الثاني : الفرق بين الأصل والامارة 


 


إختلف الأصوليون في أنّ الإستصحاب هل هو أصل * أو أمارة ** ؟ فذهب السيد الخوئي إلى أنّه أمارة ويُعد ذلك من معالم مدرسته الأصولية ، ويبدو من الشيخ الأنصاري أنّ ظاهر أكثر المتقدمين عليه حتى زمن الشيخ حسين عبد الصمد العاملي ( ت :984هـ) والد الشيخ البهائي ( ت :1031هـ) أنّه أمارة عندهم ، وأما الشيخ مرتضى الأنصاري فقد إختار كونه أصلاً () .


وقد ذُكرت وجوه عدّة في بيان المائز بين الأصل والأمارة ، وهي :


 


الوجه الأول : كيفية الإستدلال 


 جعل الشيخ مرتضى الانصاري المعيار في كون الإستصحاب أمارةً أو أصلاً ، كيفية الاستدلال عليه ، فإنْ اُستدل عليه بالعقل وكان حجةً من باب إفادته الظن ، كان دليلاً ظنياً اجتهادياً كالقياس والإستقراء ***- بناء على القول بحجيتهما ـ فيكون أمارة .


 وإنْ استدل عليه بالأخبار واستفيد منها حكم ظاهري ثابت للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ، كالبراءة والإشتغال والتخيير كان أصلاً . ولما كان أكثر الفقهاء من السيد المرتضى( ت : 436هـ) حتى زمن والد الشيخ البهائي لم يتمسكوا في حجية الإستصحاب بالأخبار ، فهو أمارة عندهم () . 


نعم ، تمسك بعضهم بالأخبار : مثل إبن إدريس الحلي (ت: 598 هـ) والشيخ حسين عبد الصمد العاملي ( ت :984هـ) () . وأما المتأخرون عنهم () فلما كان عمدة الأدلة على الإستصحاب عندهم هي الأخبار ، واستفيد منها حكم ظاهري ثابت للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ، وهو التعبّد ببقاء ما كان، والجري والعمل على طبقه ، وعدم جواز نقضه ، فيكون الإستصحاب عندهم من الأصول العملية () . 


وذكر السيد الخوئي ثلاثة أوجه أخرى في بيان المائز بين الأصل والأمارة وهي :


 


الوجه الثاني : الجهل بالواقع وعدمه


ذهب مشهور الأصوليين إلى أنّ المعيار في الفرق بين الأصل والأمارة هو أخذ الجهل بالواقع والشك فيه وعدمه ، فإنّه مأخوذ في موضوع الأصول من دون الأمارات() . قال السيد الخوئي :( المشهور بينهم أنّ الفرق بين الأصول والأمارات : إنّ الجهل بالواقع والشك فيه مأخوذ في موضوع الأصول دون الأمارات ، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلة حجيتها هو نفس الذات بلا تقييدٍ بالجهل والشك ، كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ...) فإنّ الموضوع للحجية بمفاد المفهوم هو إتيان غير الفاسق بالنبأ من دون اعتبار الجهل فيه ، وكذا قوله  : لا عذر لأحدٍ في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا  فإنّ موضوع الحجية فيه هو رواية الثقة بلا تقييدٍ بأمرٍ آخر) () .


 


مناقشة الخوئي لرأي المشهور


أخذ السيد الخوئي بمناقشة رأي المشهور في مقام الثبوت تارة ، وأخرى في مقام الإثبات :


أما في مقام الثبوت : فقد بيّن أنّ الأدلة الدالة على حجية الأمارات وإنْ كانت مطلقة بحسب اللفظ ، إلا أنّها مقيدة بالجهل بالواقع بحسب مقام الثبوت ؛ وذلك لأنّ الإهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول ، فلا محالة تكون حجية الأمارات على محتملات ثلاث : 


1ـ إما مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل .


2ـ  أو مقيّدة بالعالم .


3ـ  أو مختصة بالجاهل .


 ولا مجال للالتزام بالأول والثاني ، فإنّه لا يُعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع ، وكيف يُعقل أنْ يجب على العالم بوجوب شيءٍ أنْ يعمل بالأمارة الدالة على عدم الوجوب مثلا ، فبقي الوجه الأخير ، وهو كون العمل بالأمارة مختصاً بالجاهل ، وهو المطلوب . 


أما في مقام الإثبات : فدليل الحجية فيه وإنْ لم يكن مقيداً بالجهل ، إلا أنّ الحجية مقيّدة به بحسب اللب ومقام الثبوت . مع أنّه ورد في مقام الإثبات مقيداً به في لسان بعض الأدلة ، كقوله تعالى :(...فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ        تَعْلَمُونَ )() فقد استدل به على حجية الخبر تارة ، وعلى حجية فتوى المفتي أخرى . وكلاهما من الأمارات وقيّد بعدم العلم بالواقع . فلا فرق بين الأمارات والأصول من هذه الجهة . فما ذكره  المشهور من وجهٍ في بيان الفارق مما لا أساس له () . 


 


الوجه الثالث : حجيّة مُثبتات الأمارة من دون الأصل


ذكر السيد الخوئي وجهاً آخرَ عن المحقق الخراساني وهو : إنّ الأدلة الدالة على حجية الأمارات تدل على حجيتها بالنسبة إلى مدلولها المطابقي ومدلولها الإلتزامي ، فلا قصور من ناحية المقتضي في باب الأمارات . بخلاف الإستصحاب فإنّ مورد التعبّد فيه هو المتيقن الذي شك في بقائه ، وليس هذا إلا الملزوم من دون لازمه ، فلا يشمله دليل الإستصحاب .


 ولا يمكن الإلتزام بترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية - لأجل القاعدة المعروفة ، وهي أنّ أثرَ الأثر أثرٌ على طريقة قياس المساواة ؛ لأنّ هذه الكلية مسلّمة فيما كانت الآثار الطولية من سنخٍ واحدٍ ، بأنْ كان كلها آثاراً عقلية ، أو آثاراً شرعية ، كما في الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ونجاسة ملاقي الملاقي وهكذا ، فحيث أنّ لازم نجاسة الشيء نجاسة ملاقيه ولازم نجاسة الملاقي نجاسة ملاقي الملاقي وهكذا ، فكل هذه اللوازم الطولية شرعية ، فتجري قاعدة أنّ أثرَ الأثر أثرٌ ، بخلاف المقام ، فإنّ الأثر الشرعي لشيءٍ لا يكون أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلاً أو عادةً ، فلا يشمله دليل حجية الإستصحاب ().


 


مناقشة الخوئي للخراساني


ناقش السيد الخوئي الوجه الذي ذكره المحقق الخراساني مبيّناً أنّ عدم دلالة أدلة الإستصحاب على التعبّد بالآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية - وإنْ كان مسلّماً - إلا أنّ دلالة أدلة حجية الخبر على حجيته حتى بالنسبة إلى اللازم غير مسلّم ؛ لأنّ الأدلة تدل على حجية الخبر - والخبر والحكاية من العناوين القصدية - فلا يكون الإخبار عن الشئ إخباراً عن لازمه ، إلا إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأخص ، وهو الذي لا ينفك تصوّره عن تصور الملزوم ، أو كان لازماً بالمعنى الأعم مع كون المخبر ملتفتاً إلى الملازمة . فحينئذ يكون الإخبار عن الشيء اخباراً عن لازمه ، بخلاف ما إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأعم ولم يكن المخبر ملتفتاً إلى الملازمة ، أو كان منكراً لها ، فلا يكون الإخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه ، فلا يكون الخبر حجة في مثل هذا  اللازم ؛ لعدم كونه خبراً بالنسبة إليه ، فإذا أخبر أحد عن ملاقاة يد زيدٍ للماء القليل مثلا ، مع كون زيد كافراً في الواقع ، ولكن المخبر عن الملاقاة منكر لكفره ، فهو مخبر عن الملزوم وهو الملاقاة ، ولا يكون مخبراً عن اللازم وهو نجاسة الماء ؛ لأنّ الإخبار من العناوين القصدية ، فلا يصدق إلا مع الإلتفات والقصد ، ولذا فإنّ الإخبار - عن شيء يستلزم تكذيب النبي أو الإمام عليهم السلام - لا يكون كفراً ، إلا مع التفات المخبر بالملازمة .


وعليه فما أفاده المحقق الخراساني في وجه عدم حجية المُثبت في باب الإستصحاب متين ، إلا أنّ ما ذكره في وجه حجيته في باب الأمارات ـ من أنّ الإخبار عن الملزوم إخبارعن لازمه فتشمله أدلة حجية الخبر ـ غير سديد () .


 


 الوجه الرابع : الفرق بين الأمارة والأصل من ناحية المجعول


ذكر السيد الخوئي وجهاً ثالثاً وهو ما ذكره المحقق النائيني في المقام وهو: إنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقية واعتبارها علماً بالتعبّد ، كما يظهر ذلك من الأخبار المعبِّرة - عمن قامت عنده الأمارة - بالعارف كقول الإمام جعفر بن محمد الصادق  : ( اُنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ...)() ، فيكون من قامت عنده الأمارة عارفاً تعبدياً بالأحكام ، فكما أنّ العلم الوجداني بالشيء يقتضي ترتب آثاره وآثار لوازمه ، فكذلك العلم التعبدي الجعلي ، بخلاف الإستصحاب ، فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق ، وبما أنّ اللازم لم يكن متيقناً ، فلا وجه للتعبّد به ، فالفرق بين الأمارة والأصل من ناحية المجعول().


 


مناقشة الخوئي للنائيني


جاءت مناقشته ضمن نقطتين :


أولا : عدم صحة المبنى ، فإنّ المجعول في باب الإستصحاب أيضاً هو الطريقية ، وعدّ غير العالم عالماً بالتعبّد ، فإنّه الظاهر من الأمر بإبقاء اليقين وعدم نقضه بالشك ، فلا فرق بين الأمارة والإستصحاب من هذه الجهة ، بل التحقيق أنّ الإستصحاب أيضاً من الأمارات ، ولا ينافي ذلك تقديم الأمارات عليه ، لأنّ كونه من الأمارات لا يقتضي كونه في عرض سائر الأمارات ، فإنّ الأمارات الاُخر أيضاً بعضها مقدّم على بعض ، فالبيّنة مقدّمة على اليد ، وحكم الحاكم مقدّم على البيّنة ، والإقرار مقدّم على حكم الحاكم . 


ثانيا : لا دليل على حجية مثبتات الأمارات : إنّ ما ذكره المحقق النائيني- من أنّ العلم الوجداني بشيء يقتضي ترتب جميع الآثار حتى ما كان منها بتوسط اللوازم العقلية أو العادية ، فكذا العلم التعبّدي - غير تامٍ ؛ لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك ؛ لأنّه من العلم بالملزوم يتولد العلم باللازم بعد الإلتفات إلى الملازمة ، فترتب آثار اللازم ليس من جهة العلم بالملزوم ، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولد من العلم بالملزوم . ولذا يقولون : إنّ العلم بالنتيجة يتولد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ، فانّ العلم بالصغرى هو العلم بالملزوم ، والعلم بالكبرى هو العلم بالملازمة ، فيتولد من هذين العلمين العلم الوجداني باللازم وهو العلم بالنتيجة ، بخلاف العلم التعبّدي المجعول ، فإنّه لا يتولد منه العلم الوجداني باللازم - وهو واضح - ولا العلم التعبّدي به ؛ لأنّ العلم التعبّدي تابع لدليل التعبّد ، وهو مختص بالملزوم من دون لازمه ؛ لأنّ المخبِر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه ().


 ثم يُنهي السيد الخوئي كلامه لمناقشة المحقق النائيني في المقام ببيان محصّل ما تقدّم وهي : إنّ الصحيح عدم الفرق بين الأمارات والإستصحاب ، وعدم حجية المثبتات في المقامين ، فإنّ الظن في تشخيص القبلة وإنْ كان من الأمارات المعتبرة بمقتضى روايات خاصة واردة في الباب ، لكنّه إذا ظنّ المكلف بكون القبلة في جهةٍ ، وكان دخول الوقت لازماً لكون القبلة في هذه الجهة لتجاوز الشمس عن سمت الرأس على تقدير كون القبلة في هذه الجهة ، فلا ينبغي الشك في عدم صحة ترتيب هذا اللازم وهو دخول الوقت ، وعدم جواز الدخول في الصلاة . 


نعم تكون مثبتات الأمارة حجة في باب الأخبار فقط ، لأجل قيام السيرة القطعية من العقلاء على ترتيب اللوازم على الإخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة ، ففي مثل الإقرار والبيّنة وخبر العادل يترتب جميع الآثار ولو كانت بوساطة اللوازم العقلية أو العادية ، وهذا مختص بباب الأخبار ، وما يصدق عليه عنوان الحكاية من دون غيره من الأمارات مثل قاعدة التجاوز والفراغ () ، ولذا عُدّ الإستصحاب عند السيد الخوئي من أضعف الأمارات ؛ لأنّ التعبّد ببقاء اليقين السابق في ظرف الشك تعبّد عملي لا حكائي ، كما  أشار إلى ذلك الشيخ الفياض (). 


ويبدو مما تقدم : إنّ السيد الخوئي قد أثبت عدم صحة ما ذُكر من الوجوه في بيان الفارق بين الأصل والأمارة ، كما أنّه قد تبنّى كون الإستصحاب من الأمارات ، وأنّ مُثبتات الأمارات ليست جميعها حجة ، مفصلاً في ذلك بين ما كان منها في باب الإخبار كالبيّنة والإقرار وخبر العادل فتكون مثبتاتها حجة ، وبين غيرها من الأمارات مثل الإستصحاب وقاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة فتكون مثبتاتها غير حجة .


 


المطلب الثالث : تقديم الأمارات على الإستصحاب 


 


ذكر السيد الخوئي أنّه لا إشكال ولا خلاف في عدم جريان الإستصحاب مع قيام الامارة على إرتفاع المتيقن ، بل يجب العمل بها . 


وإنّما الكلام في وجه تقديم الأمارة على الإستصحاب ، وأنّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة ؟ () .


وقبل عرض الأقوال في المسالة بيّن السيد الخوئي هذه الإصطلاحات (): 


التخصيص : هو رفع الحكم عن الموضوع بلا تصرف في الموضوع ، كقول الإمام علي بن موسى الرضا  عن آبائه عن الإمام علي بن أبي طالب أنّه قال : ( نهى النبي  عن بيع المضطر وعن بيع الغرر)() فإنّه تخصيص لقوله تعالى : (...وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...)() لكونه رافعاً للحلّية بلا تصرف في الموضوع بأنْ يقال : البيع الغرري ليس بيعاً مثلا.


ويقابله التخصّص مقابلةً تامة ، إذ هو عبارة عن الخروج الموضوعي التكويني الوجداني بلا إعمال دليلٍ شرعي ، كما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء ، فالجاهل خارج عنه خروجاً موضوعياً تكوينياً بالوجدان بلا إحتياج إلى دليلٍ شرعي . وما بين التخصيص والتخصّص أمران متوسطان : وهما الورود ، والحكومة . 


والورود : هو عبارة عن الخروج الموضوعي بالوجدان ، غاية الأمر أن الخروج الموضوع من جهة التعبّد الشرعي . وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الأصول العقلية : كالبراءة العقلية والإحتياط العقلي والتخيير العقلي ، فإنّ موضوع البراءة العقلية عدم البيان . وبالتعبّد يثبت البيان وينتفي موضوع حكم العقل بالبراءة بالوجدان . وموضوع الإحتياط العقلي إحتمال العقاب . وبالتعبّد الشرعي وقيام الحجة الشرعية يرتفع إحتمال العقاب ، فلا يبقى موضوع للإحتياط العقلي . وموضوع التخيير العقلي عدم الرجحان مع كون المورد مما  لا بدّ فيه من أحد الأمرين : كما إذا علم بتحقق الحلف مع الشك في كونه متعلقاً بفعل الوطء أو تركه ، فإنّه لا بدّ من الفعل أو الترك ، لإستحالة إرتفاع النقيضين كاجتماعهما . ومع قيام الأمارة على أحدهما يحصل الرجحان وينتفي موضوع حكم العقل بالتخيير وجداناً . 


وأما الحكومة فهي عبارة عن إنتفاء الموضوع لثبوت المتعبّد به بالتعبّد الشرعي . وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الأصول الشرعية التي منها الإستصحاب ، فإنّه بعد ثبوت إرتفاع المتيقن السابق بالتعبّد الشرعي لا يبقى موضوع للإستصحاب ، إذ أنّ موضوعه الشك . وقد إرتفع تعبداً . وإنْ كان باقياً وجداناً لعدم كون الأمارة مفيدة للعلم على الفرض . وكذا سائر الأصول الشرعية ، فإنّه بعد كون الأمارة علماً تعبدياً لما في تعبير الأئمة عليهم السلام عمّن قامت عنده الأمارة بالعارف والفقيه والعالم () لا يبقى موضوع لأصل من الأصول الشرعية   تعبداً . 


أما الآراء في مسألة تقديم الأمارات على الإستصحاب فهي : 


الرأي الأول : إنّه من باب التخصيص     


 بدعوى أنّ النسبة بين أدلة الإستصحاب وأدلة الأمارات وإنْ كانت هي العموم من وجه ، إلا أنّه لا بدّ من تخصيص أدلة الإستصحاب بأدلة الأمارات وتقديمها عليها ، لأنّ النسبة المتحققة بين الأمارات والإستصحاب هي النسبة بينها وبين جميع الأصول العملية ، فلو عمل بالأصول لم يبق مورد للعمل بالأمارات ، فيلزم إلغاؤها ، إذ من الواضح أنّه لا يوجد مورد من الموارد إلا وهو مجرى لأصل من الأصول العملية مع قطع النظر عن الأمارة القائمة فيه .


ولم يذكر السيد الخوئي صاحب هذا الرأي ، ويبدو للباحث أنّه للمحقق العراقي على تقدير أنْ يكون التنزيل المستفاد من الأمارات ناظراً إلى المؤدّى على أنه هو الواقع وليس على مختار العراقي بتتميم الكشف وإثبات العلم  بالواقع () .


 


مناقشة الخوئي للرأي الأول


جاءت مناقشة السيد الخوئي للرأي الأول في محورين :


 أولا : إنّ أدلة الإستصحاب في نفسها بعيدة عن التخصيص ، فإنّ ظاهر قول الإمام محمد بن علي الباقر :( ليس ينبغي لك أنْ تنقض اليقين بالشك )() إرجاع الحكم إلى قضيةٍ إرتكازيةٍ ، وهي عدم جواز رفع اليد عن الأمر المبرم بأمرٍ غير مبرم . وهذا المعنى آبٍ عن التخصيص ، إذ مرجعه إلى أنّه في مورد خاصٍ يرفع اليد عن الأمر المبرم بأمرٍ غير مبرمٍ ، وهو خلاف الإرتكاز .


 ونظير المقام أدلة حرمة العمل بالظن ، فإنّ مثل قوله تعالى :(... إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً...) () غير قابلٍ للتخصيص ، إذ مرجعه إلى أنّ الظن الفلاني يغني عن الحق . ولا يمكن الإلتزام به ، كما هو ظاهر .


 وثانيا : مع الغضّ عن إبائها عن التخصيص فإنّ التخصيص في رتبةٍ متأخرةٍ عن الورود والحكومة ؛ لأنّ التخصيص رفع الحكم عن الموضوع ، ومع إنتفاء الموضوع بالوجدان كما في الورود أو بالتعبّد كما في الحكومة ، لا تصل النوبة إلى التخصيص ؛ إذ لا موضوع للإستصحاب مع الامارة على وفاقه أو على خلافه () .


 


الرأي الثاني : إنّ تقديم الأمارات على الأصول من باب الورود : وذلك لوجوه :


الوجه الأول : وقد ذكره المحقق الآخوند من أنّ ذكر اليقين في قول الإمام الباقر : (...وإنّما تنقضه بيقين آخر) () ليس من باب كونه صفة خاصة ، بل من باب كونه من مصاديق الحجة ، فهو بمنزلة أنْ يقال : إنقضه بالحجة ، وإنّما ذكر خصوص اليقين ، لكونه أعلى أفراد الحجة ؛ لكون الحجية ذاتية له وغير مجعولة ، فخصوصية اليقين مما لا دخل له في رفع اليد عن الحالة السابقة ، بل ترفع اليد عنها مع قيام الحجة على الإرتفاع بلا فرق بين اليقين وغيره من الأمارات المعتبرة ، فموضوع الإستصحاب هو الشك في البقاء مع عدم قيام الحجة على الإرتفاع أو البقاء ، فمع قيام الأمارة ينتفي موضوع الإستصحاب . والورود ليس إلا إنتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، وهذا الوجه ذكره المحقق الخراساني كما نصّ عليه السيد الخوئي () .


 


مناقشة الخوئي للوجه الأول 


أنّ تصور هذا المعنى وإنْ كان صحيحاً في مقام الثبوت ، إلا أنّ مقام الإثبات لا يساعد عليه . إذ ظاهر الدليل كون خصوص اليقين موجباً لرفع اليد عن الحالة السابقة . وكون اليقين مأخوذاً من باب الطريقية مسلّم ، إلا أنّ ظاهر الدليل كون هذا الطريق الخاص ناقضاً للحالة السابقة (). 


ويبدو لي : إنّ ما ذكره السيد الخوئي جمعٌ بين الطريقية والموضوعية ، وهو كما ترى ؛ إذ بعد كونه طريقاً لا مجال لدعوى الموضوعية .


 


والوجه الثاني : ما ذهب إليه السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت : 1365هـ) من أنّ المحرّم هو نقض اليقين إستناداً إلى الشك على ما هو ظاهر قول الإمام الباقر : ( لا تنقض اليقين أبداً بالشك ) () ومع قيام الأمارة لا يكون النقض مستنداً إلى الشك ، بل إلى الأمارة ، فيخرج عن حرمة النقض خروجاً موضوعياً ، وهو معنى الورود .


ولم ينسب السيد الخوئي هذا الوجه لقائله وتبيّن للباحث أنّه للسيد أبي الحسن الأصفهاني ().


 


مناقشة الخوئي للوجه الثاني


أولا : إنّ دليل الإستصحاب لا يساعد على هذا المعنى ، إذ ليس المراد من قول الإمام الباقر : ( لا تنقض اليقين أبداً بالشك ) () حرمة نقض اليقين من جهة الشك واستناداً إليه ، بحيث لو كان رفع اليد عن الحالة السابقة بداعٍ آخر ، كإجابة دعوة مؤمنٍ مثلا لم يحرم النقض ، بل المراد حرمة نقض اليقين عند الشك بأي داعٍ كان .


ويبدو لي : عدم وضوح جواب السيد الخوئي مع أنّ السيد أبا الحسن الأصفهاني لم يتكلّم عن الداعي ، بل كل ما أفاده أنّ اليقين لا يمكن نقضه بالشك ، ونقضه الأمارة لم تتناوله الرواية الشريفة ، بل ليس نقضاً لليقين بالشك ؛ لأنّها بحسب الفرض أمارة قد ثبتت حجيتها شرعاً .


 


 وثانيا : إنّ المراد من الشك خلاف اليقين ، فيكون مفاد الرواية عدم جواز النقض بغير اليقين ووجوب النقض باليقين . والنتيجة حصر الناقض في اليقين ، فيكون مورد قيام الأمارة مشمولاً لحرمة النقض لعدم كونها مفيدة لليقين على الفرض () .


ويبدو لي : إنّ ما ذكره صحيحاً إلّا أنّه ليس بحاجة الى أنْ يُتمسك له بالإستظهار من الرواية ؛ إذ أنّ الإمام  حصر الناقض بقوله : وانقضه بيقين آخر ، فقد ذكره صريحاً . 


نعم بناءً على تمامية ما أفاده في النقطة الماضية يمكن أنْ يكون مراده  : بحجة أخرى ، فيكون المراد من الرواية : لا تنقض الحجة إلّا بحجة أخرى .


 


والوجه الثالث : وقد ذكره المحقق الآخوند أيضاً وهو أنّ رفع اليد - عن المتيقن السابق لقيام الأمارة على ارتفاعه - ليس إلا لأجل اليقين بحجية الأمارة ، إذ الأمور الظنية لا بدّ وأنْ تنتهي إلى العلم ، وإلا لزم التسلسل ؛ لأنّ المراد من حرمة العمل بالظن هو ما لا ترجع نتيجته إلى العلم : إما لكونه بنفسه مفيداً للعلم وإما للعلم بحجيته ، فبعد العلم بحجية الأمارات يكون رفع اليد - عن المتيقن السابق لأجل قيام الأمارة - من نقض اليقين باليقين ، فلا يبقى موضوع للإستصحاب (). 


 


مناقشة الخوئي للوجه الثالث


إنّ ظاهر قول الإمام الباقر : ( ولكن تنقضه بيقينٍ آخر ) () كون اليقين الثاني متعلقاً بارتفاع ما تعلق بحدوثه اليقين الأول ، ليكون اليقين الثاني ناقضاً لليقين الأول، بل بعض الأخبار صريح في هذا المعنى ، وهو قول الأمام   الباقر  في صحيحة زرارة كما عبّر عنها السيد الخوئي : ( لا حتى يستيقن أنّه قد نام )() ، فجعل فيه الناقض لليقين بالطهارة - اليقين برافعها وهو النوم . وليس اليقين الثاني في مورد قيام الامارة متعلقاً بارتفاع ما تعلق به اليقين الأول، بل بشيءٍ آخر - وهو حجية الأمارات- فلا يكون مصداقاً لنقض اليقين باليقين ، بل من نقض اليقين بغير اليقين () . 


 


الرأي الثالث : تقديم الأمارات على الإستصحاب من باب الحكومة 


وهو مختار السيد الخوئي في المقام :


فبعد أنْ أثبت أنّ تقديم الامارات على الإستصحاب ليس من باب التخصيص أو الورود ، ذكر رأيه في المقام : وهو أنّ التقديم هو من باب الحكومة التي مفادها عدم المنافاة حقيقة بين الدليل الحاكم والمحكوم عليه .


بيانه : إنّ القضايا الحقيقية متكفّلة لإثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع ، وليست متعرّضة لبيان وجود الموضوع نفياً وإثباتاً - بلا فرق بين كونها من القضايا الشرعية أو العرفية : إخبارية كانت أو انشائية - فإنّ مفاد قولنا : الخمر حرام هو إثبات الحرمة على تقدير وجود الخمر . وأما كون هذا المائع خمراً أو ليس بخمرٍ ، فهو أمر خارج عن مدلول الكلام . وحيث أنّ دليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع ، فلا منافاة بينه وبين الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على أنّ هذا المائع ليس بخمر . وكذا لا منافاة بين قوله تعالى : (... وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...) ()  وبين قول الإمام علي :  ( ليس بين الرجل وولده ربا ) () إذ مفاد الأول ثبوت الحرمة على تقدير وجود الربا . ومفاد الثاني عدم وجوده . وبعد إنتفاء الربا بينهما بالتعبّد الشرعي تنتفي الحرمة لا محالة . وكذا لا منافاة بين أدلة الإستصحاب والأمارة القائمة على إرتفاع الحالة السابقة ، فإنّ مفاد أدلة الإستصحاب هو الحكم بالبقاء على تقدير وجود الشك فيه. ومفاد الأمارة هو الإرتفاع وعدم البقاء . وبعد ثبوت الإرتفاع بالتعبّد الشرعي لا يبقى موضوع للإستصحاب . 


ولا فرق في عدم جريان الإستصحاب مع قيام الأمارة بين كونها قائمة على إرتفاع الحالة السابقة أو على بقائها ، إذ بعد إرتفاع الشك بالتعبّد الشرعي لا يبقى موضوع للإستصحاب في الصورتين ، فكما لا مجال لجريان إستصحاب النجاسة بعد قيام البينة على الطهارة ، فكذا لا مجال لجريانه بعد قيام البينة على بقاء النجاسة () . 


وبهذا البيان يندفع ما ذكره المحقق الآخوند : من أنّ لازم القول بتقديم الأمارات على الإستصحاب من باب الحكومة ، هو جريان الإستصحاب فيما إذا قامت الأمارة على بقاء الحالة السابقة () .


وتبيّن للباحث أنّ السيد الخوئي قد وافق المحقق العراقي بما ذهب إليه من تقديم الأمارات على الأصول ؛ إذ قال : ( إنّ موضوع الأمارات هو نفي احتمال الخلاف ببركة التتميم ، وموضوع الأصول ما لم يتمم كشفه فالقيد العدمي دائماً مأخوذ في موضوعها ، وهذا هو السرّ في تقديم الأمارات على الأصول ) () .


 


إشكال المحقق الخراساني


أشار السيد الخوئي إلى إشكال المحقق الآخوند في المقام وهو: إنّ كون الأمارة حاكمة على الإستصحاب إنّما يصح على المسلك المعروف في الفرق بين الأمارات والأصول من أنّه قد أخذ في موضوع الأصول الشك ، بخلاف الأمارة ، فإنّ أدلتها مطلقة ؛ لأنّ الأمارة مزيلة للشك بالتعبّد الشرعي ؛ فينتفي موضوع الإستصحاب . والإستصحاب لا يوجب إرتفاع موضوع الامارة ، إذ لم يؤخذ في موضوعها الشك ، بخلاف ما سلكه السيد الخوئي من أنّ الجهل بالواقع مأخوذ في موضوع الأمارات أيضاً (). 


 


مناقشة الخوئي للخراساني


إنّ هذا التوهم مدفوع بما ذُكر في وجه تقريب حكومة الامارة على الإستصحاب من أنّ مفاد الحكومة عدم المنافاة حقيقة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم ؛ لأنّ مفاد الحاكم إنتفاء موضوع المحكوم بالتعبّد الشرعي . ومفاد المحكوم ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، فلا منافاة بينهما . وعليه فتكون الأمارة حاكمة على الإستصحاب على المسلك المختار أيضا ، فإنّ الأمارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة تثبت انتفاء المتيقن السابق تعبداً ، فلا يبقى موضوع للإستصحاب () .


 


ويبدو مما تقدّم : أنّ السيد الخوئي في رأيه بتقديم الأمارات على الإستصحاب وأنّه من باب الحكومة قد اتفق مع ما اختاره الشيخ مرتضى الأنصاري والمحقق النائيني ومع ما اختاره في المقام المحقق العراقي أيضاً بناءً على مبناه من أنّ التنزيل المستفاد من أدلة الامارات ناظر إلى تتميم الكشف واثبات الواقع () .  


 وإنّ السيد الخوئي وإنْ اختار في الإستصحاب أنّه  أمارة وليس أصلاً ، ولكن شأن الإستصحاب ليس بقوة بقية الأمارات التي لسانها لسان الحكاية عن الواقع ـ كخبر الثقة ـ والشاهد على ذلك : إنّه عند قيام أمارة مع الإستصحاب ، فإنّ بقية الأمارات تقدّم عليه ـ من باب الحكومة عند السيد الخوئي ـ وما ذاك إلا لأنّ لسان الإستصحاب ليس لسان الحكاية عن الواقع والإخبار عنه ، وبذلك لا يختلف الإستصحاب عن الأصول العملية من جهة عدم الحكاية عن الواقع () .


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


المبحث الثاني : عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية


 


يُعدّ عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية من معالم البحث الأصولي للسيد الخوئي ، بل جعلها الشيخ الفياض من موارد الإبداع الأصولي عنده () ، ولذا جاء هذا المبحث لبيان هذه المسألة ، ويتضمن ثلاثة مطالب :


المطلب الأول : تبنّي الخوئي لرأي النراقي .


المطلب الثاني : مناقشة الإشكالات الواردة على رأي النراقي .


المطلب الثالث : استثناء الأحكام غير الإلزامية والشبهات الحكمية الوضعية .


 


المطلب الأول : تبنّي الخوئي لرأي النراقي


 


يتضمن هذا المطلب ثلاثة محاور :


أولاً : الأقوال في حجية الإستصحاب .


ثانياً : رأي النراقي في حجية الإستصحاب .


ثالثاً : بيان الخوئي لرأي النراقي .


 


أولاً : الأقوال في حجية الإستصحاب 


فقد تعرّض السيد الخوئي إلى الأقوال المذكورة في حجية الإستصحاب ، وهي :


1ـ حجية الإستصحاب مطلقاً () .


2ـ عدم حجية الإستصحاب مطلقاً () .


3ـ القول بالتفصيل بين الشبهات الحكمية وغيرها .


وقد ذكر الشيخ مرتضى الأنصاري أقوالاً كثيرة في حجية الإستصحاب على القول بالتفصيل فيه وأعرض عن ذكرها السيد الخوئي واختار منها قولين وهما مختار الشيخ الأنصاري في المقام ()  :


الأول : التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فأنكر الشيخ الأنصاري حجية الإستصحاب في الأول من دون الثاني .


الثاني : التفصيل بين الدليل العقلي والشرعي فيما إذا كان المستصحب حكماً شرعياً ، فأنكر الشيخ الأنصاري حجية الإستصحاب في الأول من دون الثاني .


 أما الشيخ النراقي فقد ذكر تفصيلاً آخر () إختاره السيد الخوئي وذكره بعنوان التفصيل الثالث ، وهو :


الثالث : التفصيل بين الأحكام الكلية الإلهية وغيرها من الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية ، فالإستصحاب غير حجةٍ في الأول من دون الثاني .


 


ثانياً : رأي النراقي في حجية الإستصحاب


أعرض السيد الخوئي عن نقل كلام الشيخ النراقي في حجية الإستصحاب ، واكتفى بذكر رأيه إجمالاً ، ويرى الباحث ضرورة نقل ما ذكره النراقي في المقام ، ومن ثمّ عرض بيان الخوئي لرأي النراقي ، أما كلام النراقي فقد ذكر ما نصّه : 


(إنّ تعارض الإستصحابين إنْ كان في حكمٍ وموضوعٍ واحدٍ فلا يمكن العمل بشيءٍ منهما ، ويتساقطان ، فيرجع إلى أصل البراءة وشبهه ، وذلك كما إذا قال الشارع في ليلة الجمعة : صم ، وقلنا بأنّ الأمر للفور ، وكنا متوقفين في إفادته المرة أو التكرار ، فنقطع بوجوب صوم يوم الجمعة ، ونشك في السبت ، وفيه يتعارض الإستصحابان ، لأنّا كنا يوم الخميس متيقنين بعدم وقوع التكليف بصوم يوم الجمعة ولا السبت ، وبعد ورود الأمر قطعنا بتكليف صوم يوم الجمعة وشككنا في السبت ، وهذا شك مستمر من حين ورود الأمر إلى يوم السبت ، فنستصحب عدم تكليف يوم السبت بالصوم . وكذا يقطع يوم الجمعة بالصوم ، ويشك في السبت فيستصحب التكليف أي وجوب الصوم ، فيحصل التعارض . فإنْ قلت : عدم التكليف المعلوم قبل الأمر إنّما يُستصحب لولا الدليل على التكليف ، واستصحاب الوجوب المتيقن في الجمعة دليل شرعي ، فيرتفع عدم التكليف وينقض اليقين باليقين . قلنا : مثله يجري في الطرف الآخر، فيقال: وجوب صوم الجمعة إنّما يستصحب لولا الدليل على عدمه ، واستصحاب عدمه المتيقن قبل الأمر دليل شرعي ، فيرتفع الوجوب . لا يقال : إنّ العلم بالعدم قد انقطع ، وحصل الفصل ، فكيف يستصحب ؟ لأنا نقول : لم يحصل فصل أصلاً ، بل كنّا قاطعين بعدم إيجاب صوم السبت يوم الخميس ، وشككنا فيه بعد الأمر ولم نقطع بوجوب صومه أصلا ، فيجب استصحابه ) () .


وقال النراقي أيضاً : ( ويعلم عدم حجية الإستصحاب في القسم الثالث مطلقاً وهو الذي عُلم ثبوت الحكم فيه في الجملة أو في حالٍ و شك فيما بعده ، لأنّه بعدما عُلم الحكم في وقتٍ أو حالٍ وشك فيما بعده وإنْ كان مقتضى اليقين السابق واستصحاب ذلك الحكم وجوده في الزمان الثاني أو الحالة الثانية ، لكن مقتضى استصحاب حال العقل عدمه ؛ لأنّ هذا الحكم قبل حدوثه كان معلوم العدم مطلقاً، وعلم إرتفاع عدمه في الزمان الأول ، فيبقى الباقي ، مثلا إذا عُلم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعُلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده) ().


وذكر النراقي : يظهر مما تقدّم عدم حجية الإستصحاب إذا كان المستصحب من الأمور الشرعية مطلقاً لأنه معارض باستصحاب آخر () .


ومقتضى هذا الكلام وإنْ كان منع حجية الإستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية ، ولذا نُسب إليه القول بالمنع مطلقاً ، ولكنّ صريح كلامه في المستند في إستصحاب نجاسة ما جفّفته الشمس التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية ، إذ قال ما نصه : ( إنّ الأمور الشرعية على قسمين : أحدهما ما يمكن أنْ يكون المقتضي لثبوته مقتضياً له في الجملة أو إلى وقتٍ كالوجوب والحرمة ونحوهما ، فإنّه يمكن إيجاب شيءٍ أو تحريمه ساعة أو يوماً أو إلى زمانٍ أو مع وصفٍ . وثانيهما ما ليس كذلك ، بل المقتضي لثبوته يقتضي وجوده في الخارج ، فإذا وجد فيه لا يرتفع إلا بمزيل ، وذلك كالملكية ، وشأن النجاسة في الشرعيات من هذا القبيل . وعلى هذا فبعد ثبوت النجاسة في الموضع يحتاج دفعه إلى مزيل ، وما لم يعلم المزيل يُستصحب ) (). 


ونحوه كلامه في العوائد ، حيث جعل الأحكام الوضعية كالولاية والقضاوة ونحوهما مما يحتاج رفعها إلى مزيل ().  


ولذا يتضح عدم صحة ما نّسب إلى الشيخ النراقي من إنكار حجية الإستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقا تكليفية كانت أو وضعية () .


 


ثالثاً : بيان الخوئي لرأي النراقي


أشار السيد الخوئي إلى السبب الذي دعاه لإختيار هذا التفصيل وهو : 


إنّ الإستصحاب في الأحكام الكلية مُعارض بمثله دائماً () .


 ثم بيّنه بإسهابٍ مشيراً إلى الحالات والفروض المحتملة في محل الكلام وعلى النحو التالي :


 إنّ الشك في الحكم الشرعي يكون على حالتين :


الحالة الأولى : أنْ يكون راجعاً إلى مقام الجعل ولو لم يكن المجعول فعلياً ؛ لعدم تحقق موضوعه في الخارج ، كما إذا علمنا بجعل الشارع القصاص في الشريعة المقدسة ولو لم يكن الحكم به فعلياً لعدم تحقق القتل ، ثم شككنا في بقاء هذا الجعل ، فيجري استصحاب بقاء الجعل ويسمى بإستصحاب عدم النسخ .وهذا الإستصحاب خارج عن محل الكلام . وإطلاق قول الإمام الصادق : ( حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم       القيامة )() يُغنينا عن هذا الإستصحاب .


 الحالة الثانية : أنْ يكون الشك راجعاً إلى المجعول بعد فعليته بتحقق موضوعه في الخارج ، كالشك في حرمة وطء المرأة بعد إنقطاع الدم قبل الإغتسال . والشك في المجعول مرجعه إلى أحد أمرين لا ثالث لهما :


الأمر الأول : أنْ يكون لأجل الشك في دائرة المجعول سعةً وضيقاً من قبل الشارع ، كما إذا شككنا في أنّ المجعول من الشارع هل هو حرمة وطء الحائض حين وجود الدم  فقط ، أو إلى حين الإغتسال ؟ والشك في سعة المجعول وضيقه يستلزم الشك في الموضوع لا محالة ، فإنّا لا ندري أنّ الموضوع للحرمة هل هو وطء واجد الدم أو المحدث بحدث الحيض ؟ ويعبّر عن هذا الشك بالشبهة الحكمية . 


الأمر الثاني : أنْ يكون الشك لأجل الأمور الخارجية بعد العلم بحدود المجعول سعة وضيقاً من الشارع ، فيكون الشك في الإنطباق ، كما إذا شككنا في انقطاع الدم بعد العلم بعدم حرمة الوطء بعد الإنقطاع ولو قبل الإغتسال . ويعبّر عن هذا الشك بالشبهة الموضوعية . وجريان الإستصحاب في الشبهات الموضوعية مما لا إشكال فيه ولا كلام ، كما هو مورد صحيحة زرارة () وغيرها من النصوص .


 وأما الشبهات الحكمية : ففيها فرضان :


 


الفرض الأول : إنْ كان الزمان مفرداً للموضوع ، وكان الحكم إنحلالياً كحرمة وطء الحائض مثلا ، فإنّ للوطء أفراداً كثيرة بحسب إمتداد الزمان من أول الحيض إلى آخره ، وينحلّ التكليف وهو حرمة وطء الحائض إلى حرمة أمور متعددة ، وهي افراد الوطء الطولية بحسب إمتداد الزمان . فلا يمكن جريان الإستصحاب فيها حتى على القول بجريان الإستصحاب في الأحكام الكلية ؛ لأنّ هذا الفرد من الوطء وهو الفرد المفروض وقوعه بعد إنقطاع الدم قبل الإغتسال لم تعلم حرمته من أول الأمر حتى نستصحب بقاءها . 


نعم الأفراد الاُخر كانت متيقنة الحرمة ، وهي الأفراد المفروضة من أول الحيض إلى إنقطاع الدم ، وهذه الأفراد قد مضى زمانها إما مع الإمتثال أو مع العصيان ، فعدم جريان الإستصحاب في هذا القسم ظاهر .


 


 والفرض الثاني : لم يكن الزمان مفرداً ، ولم يكن الحكم إنحلالياً ، كنجاسة الماء القليل المتمم كراً ، فإنّ الماء شيء واحد غير متعددٍ بحسب إمتداد الزمان في نظر العرف ، ونجاسته حكم واحد مستمر من أول الحدوث إلى آخر الزوال ، ومن هذا القبيل الملكية والزوجية ، فلا يجري الإستصحاب في هذا القسم أيضا ، لإبتلائه بالمعارض ؛ لأنّه إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً فلنا يقين متعلق بالمجعول ويقين متعلق بالجعل ، فبالنظر إلى المجعول يجري إستصحاب النجاسة ، لكونها متيقنة الحدوث مشكوكة البقاء ، وبالنظر إلى الجعل يجري إستصحاب عدم النجاسة ، لكونه أيضا متيقناً ، وذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الاسلام لا مطلقاً ولا مقيداً بعدم التتميم ، والقدر المتيقن إنّما هو جعلها للقليل غير المتمم . أما جعلها مطلقاً حتى للقليل المتمم فهو مشكوك فيه ، فنستصحب عدمه ، ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فنأخذ بالأقل لكونه متيقناً ، ونجري الأصل في الأكثر لكونه مشكوكاً فيه ، فتقع المعارضة بين إستصحاب بقاء المجعول وإستصحاب عدم الجعل ، وكذا الملكية والزوجية ، ونحوهما ، فإذا شككنا في بقاء الملكية بعد رجوع أحد المتبايعين في المعاطاة : فباعتبار المجعول وهي الملكية يجري إستصحاب بقاء الملكية ، وباعتبار الجعل يجري إستصحاب عدم الملكية ، لتمامية الأركان   فيهما () .


 


 


المطلب الثاني : مناقشة الإشكالات الواردة على رأي النراقي


 


ذكر السيد الخوئي مجموعة من الإشكالات وردت من الأعلام على رأي النراقي، وأخذ بمناقشتها وردّها ؛ لأنّه تبنّى رأي النراقي فأخذ يدافع عنه ، وهذه الإشكالات هي :


 


أولاً : إشكال الشيخ الأنصاري


ذكر السيد الخوئي أنّ ما ذكره من بيانٍ لرأي الشيخ النراقي لا يرد عليه ما أشكله الشيخ الأنصاري () .


أما إشكال الشيخ الأنصاري فهو : إنّ الزمان إنْ كان مفرداً فلا يجري إلى إستصحاب الوجود لعدم إتحاد الموضوع ويجري إستصحاب العدم ، وإنْ لم يكن الزمان مفرداً فيجري إستصحاب الوجود لاتحاد الموضوع ولا يجري إستصحاب العدم ، فلا معارضة بين الإستصحابين أصلا () .


 


مناقشة الخوئي للأنصاري


 إنّ المعارضة تقع مع عدم كون الزمان مفرداً ووحدة الموضوع . فيقال : إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا وشك في بقائه فيجري إستصحاب بقائه ، ويقال أيضا : إنّ هذا الموضوع لم يجعل له حكم في الأول لا مطلقاً ولا مقيداً بحالٍ ، والمتيقن جعل الحكم له حال كونه مقيداً فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى غيرها تحت الأصل، فتقع المعارضة بين الإستصحابين مع حفظ وحدة الموضوع ().


 


ثانياً : إشكال المحقق الآخوند


تعرّض السيد الخوئي إلى إشكال المحقق الآخوند الأصفهاني على الشيخ النراقي :


 إنّ الشيخ النراقي نظر تارة إلى المسامحة العرفية فأجرى استصحاب الوجود ، وأخرى إلى الدقة العقلية فأجرى استصحاب العدم ، لكون الماء غيرُ المتمّم غيرَ الماء المتمّم بالدقة العقلية ، مع أنّ المرجع في وحدة الموضوع وتعدده هو العرف ، والعرف يرى الموضوع واحداً ، والكثرة والقلة من الحالات ، فلا مجال لإنكار إستصحاب النجاسة ().


مناقشة الخوئي للخراساني


 إن المعارضة المذكورة لا تتوقف على لحاظ الموضوع بالنظر الدقي ، بل بعد البناء على المسامحة والقول بوحدة الموضوع يجري استصحاب بقاء النجاسة واستصحاب عدم جعل النجاسة بالنسبة إلى حال الكثرة ؛ لكون المتيقن هو جعل النجاسة لما لم يتمّم ، فتقع المعارضة بين الإستصحابين مع أخذ الموضوع أمراً عرفياً () .


 


ثالثاً : إشكال المحقق النائيني


إنّ استصحاب عدم الجعل غير جار في نفسه ، لعدم ترتب الأثر العملي عليه ؛ لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم في مقام التشريع ، والأحكام الإنشائية لا تترتب عليها الآثار الشرعية ، بل ولا الآثار العقلية من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها فضلا عن التعبد بها بالإستصحاب ، فإنّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب ، لا يترتب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقق ملكية في الخارج . وعليه فلا يترتب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل ، فلا مجال لجريانه () . 


 


مناقشة الخوئي للنائيني 


 إنّ الأحكام الشرعية إعتبارية لا وجود لها إلا في عالم الإعتبار القائم بالمعتبِر وهو المولى ، وليست من سنخ الجواهر والأعراض الخارجية ، بل وجودها بعين اعتبارها من المعتبِر ، والإعتبار إنّما هو بمنزلة التصور ، فكما أنّ التصور تارة يتعلق بمتصوّر حالي وأخرى بمتصورٍ إستقبالي ، فكذا الإعتبار تارة يتعلق بأمرٍ حالي وأخرى يتعلق بأمر إستقبالي بحيث يكون الإعتبار والإبراز في الحال والمعتبر في الإستقبال كالواجبات المشروطة قبل تحقق الشرط ، فإنّ الإعتبار فيها حالي والمعتبر وهو الوجوب إستقبالي ؛ لعدم تحققه إلا بعد تحقق الشرط ، ونظيره في الأحكام الوضعية الوصية فإنّ اعتبار الملكية في موردها حالي ، إلا أنّ المعتبر أمر إستقبالي وهي الملكية بعد الوفاة . فجميع الأحكام الشرعية بالنسبة إلى موضوعاتها من قبيل الواجب المشروط ، فلا  يكون فيه قبل تحقق الشرط إلا مجرد الإعتبار ، وبالتالي فإنّ قبل تحققها لا يكون بعث ولا زجر ولا طاعة ولا معصية ، فتحقق الأحكام الشرعية الذي نعبّر عنه بالفعلية يتوقف على أمرين : الجعل وتحقق الموضوع ، فإذا انتفى أحدهما انتفى الحكم ، مثلا : وجوب الصلاة بعد زوال الشمس يتوقف على جعل الوجوب من المولى وتحقق الزوال في الخارج ، فإذا زالت الشمس ولم يحكم المولى بشيءٍ يكون الحكم منتفياً بانتفاء الجعل ، فما لم يتحقق الموضوع وإنْ كان لا يترتب أثر على استصحاب عدم الجعل إلا أنّه إذا تحقق الزوال يترتب الأثر على استصحاب عدمه لا محالة . وعليه فإذا وجد الموضوع في الخارج وشككنا في بقاء حكمه من جهة الشك في سعة المجعول وضيقه ، أمكن جريان استصحاب عدم الجعل في غير المقدار المتيقن لولا معارضته بإستصحاب بقاء المجعول .


وبعبارة أخرى : إنّ استصحاب بقاء الجعل يجري لاثبات فعلية التكليف عند وجود موضوعه ، كذلك استصحاب عدم الجعل يكفي في إثبات عدم فعليته ().


 


مناقشة الشوشتري لجواب الخوئي للنائيني


 أشار السيد محمد جعفر المروّج الشوشتري إلى أنّ مناقشة السيد الخوئي للمحقق النائيني محل نظر ؛ وذلك لأنّه بعد الإعتراف بإنفكاك الجعل عن المجعول - وأنّ أثر الجعل ليس إلّا جواز إسناد المضمون إلى الشارع والإفتاء على طبقه ، وأثر المجعول المنوط بوجود الموضوع التنجّز بالوصول - إنْ أريد بإستصحاب بقاء الجعل التعبّد ببقاء الإنشاء أي إعتبار الحرمان أو اللّابدية فهو معنى عدم النسخ ، وهذا لا يتوقف على تحقق الموضوع خارجاً ؛ لصحة إسناد الحكم الإنشائي إلى الجاعل ما لم يعلم نسخه . 


وإنْ أريد بإستصحاب بقاء الجعل ترتيب آثار المجعول عليه حتى يجري الإستصحاب في الجعل بهذا اللحاظ  فهو غير ظاهر؛ لأنّ ترتب الأثر على المجعول ملازم لبقاء الإعتبار والإبراز، ومن المعلوم أنّ إبقاء نفس الإبراز تعبدا بلحاظ ترتب آثار المجعول من الأصل المثبت . 


نعم إذا أريد من إستصحاب بقاء الجعل ترتيب أثر نفسه من صحة إسناد المضمون إلى الشارع من دون ترتيب أثر المجعول مع فرض وجود الموضوع خارجاً فهو وإنّ كان سليماً عن إشكال الإثبات ، إلا أنّه مساوق للتفكيك بين العلة ومعلولها ؛ لوضوح وصول الحكم إلى مرتبة الفعلية بوجود موضوعه ، ولا بدّ من ترتيب أثره عليه ، فكيف يكتفي بترتيب أثر نفس الجعل من دون    المجعول ؟().


 


 


رابعاً : إشكال السيد الصدر*


إنّ إستصحاب عدم الجعل معارض بمثله في رتبته ، فإنّ إستصحاب عدم جعل الحرمة مثلا المتقدم بإستصحاب عدم جعل الحلية ، لوجود العلم الإجمالي بجعل أحدهما في الشريعة المقدسة فيبقى استصحاب بقاء المجعول وهي الحرمة بلا معارض () . 


 


مناقشة الخوئي 


ذكر السيد الخوئي ثلاثة أوجه لردّ هذا الإشكال ، وهي : 


الوجه الأول : إنّه لا مجال لإستصحاب عدم جعل الحلية ؛ لأنّ الحلية والرخصة كانت متيقنة متحققة في صدر الاسلام ، والأحكام الإلزامية قد شرّعت على التدريج ، فجميع الأشياء كان على الإباحة بمعنى الترخيص والإمضاء كما يدل عليه قوله  :( اُسكتوا عمّا سكت الله ) () وقول الإمام الصادق: ( كلّما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) () نعم بعض الأحكام التي شُرّعت لحفظ النظام كحرمة قتل النفس ، وحرمة أكل أموال الناس ، وحرمة الزنا ، وغيرها من الأحكام النظامية غير مختصٍ بشريعةٍ من دون شريعة ، وقد ورد في بعض النصوص أنّ الخمر مما حرمت في جميع الشرائع (). والحاصل أنّ وطء الحائض مثلا كان قبل نزول الآية الشريفة :( اعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ...)() مرخصاً فيه ، فلا مجال لإستصحاب عدم جعل الحلية() .


 


الوجه الثاني : إنّه لا معارضة بين إستصحاب عدم جعل الحلية وإستصحاب عدم جعل الحرمة ؛ لإمكان التعبّد بكليهما بإلتزام عدم الجعل أصلاً لا جعل الحرمة ولا جعل الحلية ، وذلك ؛ لأنّ قوام التعارض بين الأصلين بأحد أمرين على سبيل منع الخلو ، وربما يجتمعان :


الأمر الأول : أنْ يكون التنافي بين مفاد الأصلين في نفسه مع قطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية العملية ، كما إذا كان مدلول أحد الأصلين الإباحة ومدلول الاخر الحرمة ، أو كان مدلول أحدهما الإباحة ومدلول الاخر عدمها ، فلا يصح التعبّد بالمتنافيين فيقع التعارض بينهما ويتساقطان ؛ لعدم إمكان شمول دليل الحجية لكليهما ، وشموله لأحدهما ترجيحٌ بلا مرجّح .


الأمر الثاني : أنْ تلزم من العمل بهما المخالفة العملية القطعية ولو لم يكن التنافي بين المدلولين ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ، فجريان أصالة الطهارة في كل واحد منهما وإنْ لم يكن نفسه منافياً لجريانها في الآخر ، إلا أنّه تلزم من جريانه في كليهما المخالفة العملية القطعية ، وكذا في سائر مقامات العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي ، وكلا الأمرين مفقود في المقام ؛ لعدم المنافاة بين أصالة عدم جعل الحلية وأصالة عدم جعل الحرمة ؛ لأنّ الحلية والحرمة متضادان ، فلا يلزم من التعبّد بكلا الأصلين إلا إرتفاع الضدين،ولا محذور فيه،  فنتعبّد بكليهما ونلتزم بعدم الجعل أصلاً ، ولا تلزم مخالفة عملية قطعية أيضا،غاية الأمر لزوم المخالفة الإلتزامية للعلم الإجمالي بجعل أحد الحكمين في الشريعة المقدسة ، ولا محذور فيه ، فنلتزم بعدم الجعل في مقام العمل ، وفي مقام الإفتاء نرجع إلى غيرهما من الأصول كاصالة البراءة مثلا في المقام ، فنفتي بعدم حرمة الوطء لأصالة البراءة ، ونظير ذلك في دوران الأمر بين المحذورين ، فإنّ في الحكم بالتخيير هناك مخالفة التزامية لما هو معلوم بالوجدان من الحرمة أو الوجوب ، ولا محذور فيه بعد كون الحكم بالتخيير بالتعبّد الشرعي ، ولا تلزم المخالفة العملية القطعية ؛ لأنّه لا يخلو إما من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة . ولولا ذلك ، لما جاز الإفتاء من المجتهد بما في رسالته العملية المشتملة على المسائل الكثيرة ، للعلم الإجمالي بمخالفة بعض ما في الرسالة للحكم الواقعي ، فلا بدّ له من التوقف عن الإفتاء . 


نعم من ليس له هذا العلم الاجمالي - ويُحتمل مطابقة الواقع لجميع ما في رسالته على كثرة ما فيها من المسائل - جاز له الإفتاء ، ولكنّه مجرد فرض ، ولعله لم يوجد مجتهد كان شأنه ذلك . فالسر في جواز الإفتاء هو أنّه لا مانع من الإفتاء بعد كونه على الموازين الشرعية  وبرخصة من الشارع ، ولا محذور في المخالفة الإلتزامية والمخالفة العملية القطعية غير ثابتة ، لإحتمال كون ما صدر منه مخالفا للواقع هو الإفتاء بحرمة المباح الواقعي ، ولا تلزم منه مخالفة عملية ، فإنّ المخالفة العملية إنّما تتحقق فيما علم الإفتاء بإباحة الحرام الواقعي ، وليس له هذا العلم . وغاية ما في الباب علمه بكون بعض ما في الرسالة مخالفاً للواقع : أما الإفتاء بحرمة المباح الواقعي أو بإباحة الحرام الواقعي () . 


 


الوجه الثالث : إنّه لو تنزّلنا عن جميع ذلك ، فنقول : إنّه يقع التعارض بين هذه الإستصحابات الثلاثة في مرتبة واحدة ، لا أنّه يقع التعارض بين إستصحاب عدم جعل الحرمة واستصحاب عدم جعل الحلية في مرتبة متقدمة على استصحاب بقاء المجعول . وبعد تساقط الإستصحابين في مقام الجعل تصل النوبة إلى استصحاب بقاء المجعول ، ويتم المطلوب ، وذلك ، لأنّ جريان الإستصحاب في الأحكام الشرعية لا يكون متوقفاً على تحقق الموضوع في الخارج ، بحيث يكون إستصحاب بقاء الحرمة متوقفاً على وجود زوجة انقطع دمها ولم تغتسل ، بل يجري الإستصحاب على فرض وجود الموضوع ، وكل مجتهد إلتفت إلى الحكم المذكور- أي حرمة وطء الحائض بعد انقطاع دمها - يحصل له اليقين بحرمة الوطء حين رؤية الدم ، واليقين بعدم جعل الحرمة قبل نزول الآية الشريفة : (... فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ... ) ()، واليقين بعدم جعل الإباحة في الصدر الأول من الإسلام ، ويحصل له الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم قبل الإغتسال . وكان واحد من هذه الأمور فعلي عند الإفتاء على فرض وجود الموضوع ، فيقع التعارض بين الإستصحابات الثلاثة في مرتبة واحدة ويسقط جميعها ().   


ثم دفع السيد الخوئي إشكالاً مقدّراً قد يرد في محل الكلام بقوله : ( وربّما يقال في المقام : إنّ أصالة عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء المجعول ، لكون الأول أصلا سببياً بالنسبة إلى الثاني ، فإنّ الشك في بقاء الحرمة مسبَّب عن الشك في سعة جعل الحرمة وضيقها ، فأصالة عدم جعل الحرمة موجبة لرفع الشك في بقاء المجعول ، فلا يبقى للإستصحاب الثاني *موضوع )() وبعبارة أخرى : إنّ الأصل السببي مقدّم على الأصل المسببي عند التعارض ، 


وقد وجد الباحث أنّ هذا الإشكال هو للمحقق النائيني () .


  


المناقشة : ذكر السيد الخوئي إنّ هذا الكلام وإنْ كان موافقاً للمختار في النتيجة ، إلا أنّه غير صحيح في نفسه ، لأنّ الملاك في الحكومة ليس مجرد كون أحد الأصلين سببياً والآخر مسببياً ، بل الملاك كون المشكوك فيه في أحد الأصلين أثراً مجعولاً شرعياً للأصل الاخر ، كما في المثال المعروف وهو ما إذا غسل ثوب نجس بماءٍ مشكوك النجاسة ، فالشك في نجاسة الثوب مسبَّب عن الشك في طهارة الماء ، وجريان أصالة الطهارة في الماء موجب لرفع الشك في طهارة الثوب ، لأنّ من الآثار المجعولة لطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به ، فأصالة الطهارة في الماء تكون حاكمة على استصحاب النجاسة في الثوب ، بخلاف المقام ، فإنّه ليس عدم حرمة الوطء من الآثار الشرعية لأصالة عدم جعل الحرمة ، بل من الآثار التكوينية له ؛ لأنّ عدم الحرمة خارجاً ملازمٌ تكويناً مع عدم جعل الحرمة ، بل هو عينه حقيقة ، ولا مغايرة بينهما إلا نظير المغايرة بين الماهية والوجود ، فلا معنى لحكومة أصالة عدم جعل الحرمة على استصحاب بقاء المجعول () .


 


المطلب الثالث : إستثناء الأحكام غير الإلزامية والشبهات الحكمية الوضعية


 


يتضمن هذا المطلب رأيين للسيد الخوئي نبّه عليهما في ختام بحثه وهي الموارد التي إستثناها عن عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ، وهما : 


 


أولاً : جريان الإستصحاب في الأحكام غير الإلزامية


أشار السيد الخوئي إلى أنّ ما ذهب إليه من عدم عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية - مختص بالأحكام الالزامية وأما غير الإلزامية * فلا مانع من جريان الإستصحاب فيها ، ولا يعارضه إستصحاب عدم جعل الإباحة ، لأنّ الإباحة لا تحتاج إلى الجعل ، فإنّ الأشياء كلها على الإباحة ، ما لم يجعل الوجوب والحرمة ، لقوله  : ( اسكتوا عما سكت الله عنه ) () وقول الإمام الصادق :( كلما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) () وقوله : ( إنّما هلك الناس لكثرة سؤالهم ) () ، فالمستفاد من هذه الروايات أنّ الأشياء على الإباحة ما لم يرد أمر أو نهي من قبل الشارع ؛ فإنّ الشريعة شرعت للبعث إلى شيءٍ والنهي عن الآخر لا لبيان المباحات ، فلا مجال لإستصحاب عدم جعل الإباحة ؛ لكون الإباحة متيقنة ، فالشك في بقائها ، فيجري إستصحاب بقاء الإباحة بلا معارض ، بل يكون إستصحاب عدم جعل الحرمة موافقاً       له ().


 


ثانياً : جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية الوضعية


 أشار السيد الخوئي ايضاً إلى أنّه لا مانع من جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية الوضعية كالطهارة من الخبث والحدث ، كما إذا شككنا في إنفعال الماء العالي بملاقاة النجاسة السافلة *، فتجري إستصحاب الطهارة ولا يعارضه إستصحاب عدم جعل الطهارة ؛ لأنّ الطهارة نظير الإباحة لا تحتاج إلى الجعل ، بل الأشياء كلها على الطهارة ما لم يأتِ بيان من الشارع بالنجاسة فيها ، بل الطهارة بحقيقتها العرفية كون الشيء باقياً بطبيعته الأولية، والنجاسة والقذارة شيء زائد ، بل استصحاب عدم جعل النجاسة معاضد لإستصحاب بقاء الطهارة ، وكذا لا مانع من جريان إستصحاب الطهارة من الحدث ، كما إذا شككنا في بقائها بعد خروج المذي ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة ؛ لأنّ النقض هو المحتاج إلى الجعل . وأما الطهارة المجعولة فهي الوضوء - أي الغسلتان والمسحتان - وقد أتينا بها ، فهي باقية بحالها ما لم يصدر منا ما جعله الشارع ناقضا لها ، بل استصحاب عدم جعل المذي ناقضا موافق لاستصحاب بقاء الطهارة .**


 وبعبارة أخرى إنّ الشك في أنّ الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة الثانية - أي الحاصلة بعد خروج المذي - أو مشروطة بالأعم منها ومن الطهارة الأولى - أي الحاصلة قبل خروج المذي - والأصل عدم اشتراطها بخصوص الطهارة الثانية . نعم إذا شككنا في بقاء النجاسة المتيقنة كمسألة تتميم الماء القليل النجس كراً ، لا مجال لجريان استصحاب بقاء النجاسة ، للمعارضة باستصحاب عدم جعل النجاسة بعد التتميم () .


وقد لخّص السيد الخوئي ما تقدّم من بحث في الشبهات الحكمية ويبين رأيه الصريح في المسألة بقوله :( لا مجال لجريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية، بخلاف الشبهات الموضوعية ؛ لعدم الشك فيها في الجعل . وإنّما الشك في بقاء الموضوع الخارجي ، فيجري الإستصحاب فيها بلا معارض ، مثلا إذا شككنا في تحقق النوم بعد اليقين بالوضوء ، فلا شك لنا في الجعل ولا في مقدار سعة المجعول ؛ لأنّا نعلم أنّ المجعول هو حصول الطهارة بالوضوء إلى زمان طرو الحدث ، وإنّما الشك في حدوث النوم في الخارج ، فيجري استصحاب عدمه بلا معارض ) ().


 


مناقشة المروّج للخوئي


ناقش السيد محمد جعفر المروّج الشوشتري ما استثناه السيد الخوئي من عدم جريان الإستصحاب في الأحكام الكلية ، وأنّه يجري في الأحكام الترخيصية ؛  بسبب عدم جريان استصحاب عدم جعل الإباحة فيها ؛ لكونها متيقنة في صدر الإسلام ، والشريعة إنّما تتكفل بيان الأحكام الإلزامية فحسب ، فلا معارض لاستصحاب المجعول ، وجاءت مناقشته ضمن نقطتين : 


الأولى : إنّ الإباحة الشرعية التي تُعدّ من الأحكام الخمسة تتوقف على جعل الشارع قطعاً ، ولا وجه لحصر المجعول في الأحكام الإلزامية خاصة ، ويشهد لما ذُكر قوله تعالى : (... أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ...) () و (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ...) () ونحوهما مما يدل على جعلها تأسيساً .


 الثانية : إنّه أخص من المدعى ، فإنّ الاستحباب والكراهة حكمان ترخيصيان متوقفان على جعل الشارع قطعاً . ولازمه وقوع المعارضة بين استصحابي عدم الجعل وبقاء المجعول . فلا وجه لإنكار الإستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية بدعوى المعارضة المذكورة () . 


 


ويبدو ممّا تقدّم أنّ السيد الخوئي وإنْ اختار ما ذهب إليه الشيخ النراقي من تفصيلٍ ولكنه بيّنه ووضّحه بشكلٍ لم تُذكر في الكتب الأصولية لمن سبقه من الأعلام ـ فضلاً عن أنّه استطاع أنْ يردّ جميع الإشكالات الوارده عليه ـ وتُعد هذه إضافة عمودية على ما ذكره البحث في ضابط  المدرسة * .


 


 


 


 


 


المبحث الثالث


إستصحاب الكلي


 


من معالم البحث الأصولي عند السيد الخوئي هو إضافة قسمٍ الى أقسام إستصحاب الكلي ، ويُعد ذلك من إبتكاراته الأصولية () ؛ لذا جاء هذا المبحث لبيان هذه المسألة .


والمراد من إستصحاب الكلي : هو التعبّد ببقاء الجامع بين فردين من الحكم ، أو الجامع بين شيئين خارجيين إذا كان له أثر شرعي () .


 وقد انتظم هذا المبحث في ثلاثة مطالب ، هي :


 


المطلب الأول : أقسام إستصحاب الكلي


المعروف بين الأصوليين أن أقسام إستصحاب الكلي هي ثلاثة إستناداً على ما ذكره الشيخ الأنصاري () وقد تعرّض السيد الخوئي إلى بيان هذه الأقسام وذكر أنّها أربعة بإضافة قسمٍ إليها ، والأقسام هي :


القسم الأول : ما إذا علمنا بتحقق الكلي في ضمن فردٍ معين ، ثم شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه ، فلا محالة نشك في بقاء الكلي وارتفاعه أيضا ، فإذا كان الأثر للكلي ، فيجري الإستصحاب فيه .


 مثاله المعروف ما إذا علمنا بوجود زيدٍ في الدار فنعلم بوجود الإنسان فيها ثم شككنا في خروج زيد عنها فنشك في بقاء الإنسان فيها ، فلا إشكال في جريان الإستصحاب في بقائه إذا كان له أثر() .


 


القسم الثاني :  ما إذا علمنا بوجود الكلي في ضمن فردٍ مردّدٍ بين متيقن الإرتفاع ومتيقن البقاء ، كما إذا علمنا بوجود إنسانٍ في الدار مع الشك في كونه زيداً أو عمراً ، مع العلم بأنّه لو كان زيداً لخرج يقيناً ولو كان عمراً فقد بقي يقيناً .


 ومثاله في الحكم الشرعي : ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني فتوضأنا ، فنعلم أنّه لو كان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع ، ولو كان هو الأكبر فقد بقي ، وكذا لو اغتسلنا في المثال فنعلم أنّه لو كان الحدث هو الأكبر فقد ارتفع ، وإن كان هو الأصغر فقد بقي ؛ لعدم ارتفاعه بالغسل ، فنجري الإستصحاب في الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ونحكم بترتّب أثره ، كحرمة مسّ كتابة القرآن وعدم جواز الدخول في الصلاة .


وهذا هو القسم قد ذكره الشيخ الأنصاري وتبعه جماعة ممن تأخر عنه ()، والظاهر أنّ تخصيص هذا القسم - بأنْ يكون الفرد مردداً بين متيقن الإرتفاع ومتيقن البقاء - إنّما هو لمجرد التمثيل ، وإلّا فيكفي في جريان الإستصحاب مجرد احتمال البقاء ، فلو كان الفرد مردداً بين متيقن الإرتفاع ومحتمل البقاء لكان الإستصحاب جارياً في الكلي ، ويكون أيضا من القسم الثاني ().


 


القسم الثالث : ما إذا علمنا بوجود الكلي في ضمن فردٍ معينٍ وعلمنا بارتفاع هذا الفرد لكن احتملنا وجود فردٍ آخر مقارن مع وجود الفرد الأول أو مقارن مع   ارتفاعه ، كما إذا علمنا بوجود زيدٍ في الدار وعلمنا بخروجه عنها ، لكن احتملنا بقاء الإنسان في الدار لاحتمال دخول عمرو فيها ، ولو مقارناً مع خروجه عنها () .


والفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث : هو أنّ اليقين في القسم الثالث قد تعلق بوجود الكلي المتخصص بخصوصية معينة ، وقد ارتفع هذا الوجود يقيناً . وما هو محتمل للبقاء فهو وجود الكلي المتخصص بخصوصية أخرى الذي لم يكن لنا علم به ، فيختلف متعلق اليقين والشك ، فتكون النتيجة عدم جريان الإستصحاب فيه .


وهذا بخلاف القسم الثاني ، فإنّ المعلوم فيه هو وجود الكلي المردد بين الخصوصيتين ، فيحتمل بقاء هذا الوجود بعينه ، فيكون متعلق اليقين والشك واحدا ، فلا مانع من جريان الإستصحاب فيه ().


وهذه هي الأقسام الثلاثة التي ذكرها الشيخ الأنصاري()  .


 


القسم الرابع : ما إذا علمنا بوجود فردٍ معينٍ وعلمنا بارتفاع هذا الفرد ، ولكن علمنا بوجود فردٍ معنونٍ بعنوانٍ يحتمل انطباقه على الفرد الذي علمنا ارتفاعه ، ويحتمل انطباقه على فردٍ آخر ، فلو كان العنوان المذكور منطبقاً على الفرد المرتفع ، فقد ارتفع الكلي ، وإنْ كان منطبقاً على غيره فالكلي باق .


وهذا القسم الرابع هو القسم الذي أضافه السيد الخوئي إلى بقية الأقسام التي ذكرها الشيخ الأنصاري .


 وأشار السيد الخوئي الى امتياز هذا القسم عن بقية الأقسام :


فامتيازه عن القسم الأول ظاهر . وامتيازه عن القسم الثاني أنه في القسم الثاني يكون الفرد مردداً بين متيقن الإرتفاع ومتيقن البقاء أو محتمله ، بخلاف القسم الرابع ، فإنّه ليس فيه الفرد مردداً بين فردين ، بل الفرد معين ، غاية الامر أنّه يحتمل انطباق عنوان آخر عليه . 


أما إمتيازه عن القسم الثالث ـ بعد إشتراكهما في احتمال تقارن فرد آخر مع هذا الفرد المعين الذي علمنا ارتفاعه - أنّه ليس في القسم الثالث علمان ، بل علم واحد متعلق بوجود فرد معين ، غاية الأمر نحتمل تقارن فرد آخر مع حدوثه أو مع ارتفاعه ، بخلاف القسم الرابع ، فإنّ المفروض فيه علمان : علم بوجود فردٍ معينٍ ، وعلم بوجود ما يحتمل انطباقه على هذا الفرد وعلى غيره .


 مثاله : ما إذا علمنا بوجود زيدٍ في الدار وعلمنا بوجود متكلمٍ فيها ، ثم علمنا بخروج زيدٍ عنها ، ولكن احتملنا بقاء الإنسان فيها لاحتمال أنْ يكون عنوان المتكلم منطبقاً على فردٍ آخر : مثاله في الأحكام الشرعية ما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلا ، واغتسلنا منها ، ثم رأينا المني في ثوبنا يوم الجمعة مثلا ، فنعلم بكوننا جنباً حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل أنْ يكون هذا المني من الجنابة التي اغتسلنا منها ، وأنْ يكون من غيرها () . 


وإنّ السيد الخوئي قد نبّه على أمرٍ مهمٍ في جريان استصحاب الكلي ، وهو : إنّ جريان الإستصحاب في الكلي إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك أصل يعيَّن به الفرد ، وإلا فلا مجال لجريان الإستصحاب في الكلي ، كما إذا كان أحد محدثاً بالحدث الأصغر ، فخرجت منه رطوبة مرددة بين البول والمني ثم توضأ فشك في بقاء الحدث ، فمقتضى استصحاب الكلي وإنْ كان بقاء الحدث ، إلا أنّ الحدث الأصغر كان متيقناً ، وبعد خروج الرطوبة المرددة يشك في تبدّله بالأكبر ، فمقتضى الإستصحاب بقاء الأصغر وعدم تبدّله بالأكبر ، فلا يجري الإستصحاب في الكلي ، لتعيّن الفرد بالتعبّد الشرعي ، فيكفي الوضوء . نعم من كان متطهراً ثم خرجت منه الرطوبة المرددة لا يجوز له الإكتفاء بالوضوء فقط ، بل يجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل ، فإنّه من استصحاب الكلي من القسم الثاني .


ولا يتوقف ذلك على كون الحدث الأصغر والأكبر من قبيل المتضادين بحيث لا يمكن إجتماعهما ، بل الفرد يعين بالأصل على جميع الأقوال فيهما ، فإنّ الأقوال فيهما ثلاثة :


الأول : كونهما متضادين . 


الثاني : كونهما شيئاً واحداً وإنّما الإختلاف بينهما في القوة والضعف ، فالأصغر مرتبة ضعيفة من الحدث ، والأكبر مرتبة قوية منه ، كما قيل في الفرق بين الوجوب والاستحباب : إنّ الوجوب مرتبة قوية من الطلب والإستحباب مرتبة ضعيفة منه 


 الثالث : كونهما من قبيل المتخالفين بحيث يمكن اجتماعهما كالسواد والحلاوة مثلا ، فعلى الأول : حيث إنّ الأصغر كان متيقناً وشك في تبدله بالأكبر فالأصل عدم تبدله به . وعلى الثاني : الأصل عدم حدوث المرتبة القوية بعد كون المرتبة الضعيفة متيقنة . وعلى الثالث يكون الأصل عدم اجتماع الأكبر مع الأصغر ، فعلى جميع الأقوال يُعيّن الفرد فلا مجال لجريان الإستصحاب في الكلي ().


 


المطلب الثاني : مناقشات القسم الرابع من إستصحاب الكلي 


 


يُعنى هذا المطلب ببيان الإشكالات الواردة على القسم الرابع من إستصحاب    الكلي :


ذكر السيد الخوئي أنّه إذا علمنا بوجود عنوانين يحتمل إنطباقهما على فرد واحد ، فالظاهر أنّه لا مانع من جريان الإستصحاب فيه ؛ وذلك  لتمامية أركانه من اليقين والشك ؛ فإنّ أحد العنوانين وإن إرتفع يقيناً ، إلا أنّ لنا يقيناً بوجود الكلي في ضمن عنوان آخر ونشك في إرتفاعه ؛ لإحتمال إنطباقه على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقيناً ، فبعد اليقين بوجود الكلي المشار إليه والشك في إرتفاعه ، لا مانع من جريان الإستصحاب فيه () . 


أما المناقشات فهي :


اولاً : إبتلاؤه بالمعارض 


ذكر السيد الخوئي أنّه قد يُبتلى هذا الإستصحاب بالمعارض ، كما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلا وقد إغتسلنا منها ، ثم رأينا منياً في ثوبنا يوم الجمعة ، فنعلم بكوننا جنباً حين خروج هذا المني، ولكن نحتمل أنْ يكون هذا المني من الجنابة التي قد إغتسلنا منها ، وأنْ يكون من غيرها ، فإستصحاب كلي الجنابة مع إلغاء الخصوصية وإنْ كان جارياً في نفسه ، إلا أنّه معارض بإستصحاب الطهارة الشخصية ، فإنّا على يقين بالطهارة حين ما إغتسلنا من الجنابة ولا يقين بإرتفاعها ، لإحتمال كون المني المرئي من تلك الجنابة ، فيقع التعارض بينه وبين إستصحاب الجنابة فيتساقطان ، ولا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر .


 وأما في مالا معارض له كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وبوجود متكلم فيها يحتمل إنطباقه على زيد وعلى غيره ، فلا مانع من جريان إستصحاب وجود الإنسان الكلي فيها ، مع القطع بخروج زيد عنها إذا كان له أثر شرعي .


 وبالجملة : محل الكلام إنّما هو في جريان الإستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارض ، وقد ذهب السيد الخوئي إلى أنّ جريانه هو الصحيح .


 وأما عدم الجريان من جهة الإبتلاء بالمعارض ، فهو مشترك فيه بين هذا القسم والأقسام الأخرى ، فإنّ الإستصحاب فيها أيضا قد يبتلى بالمعارض ، فلا يكون جارياً () . 


 


ثانياً : مناقشة الصدر للخوئي


ناقش السيد محمد باقر الصدر ما ذهب إليه السيد الخوئي من إفتراض وجود القسم الرابع لإستصحاب الكلي ، وردّه موضوعاً  وحكماً **


أما  من ناحية الموضوع : فإنّنا لو لاحظنا كلي الجنابة بلا إضافتها الى العنوان الإنتزاعي وهو الحادث من ذلك الأثر فالعلم بكلي الجنابة يكون من القسم الثالث ؛  إذ يعلم بتحققها ضمن فرد تفصيلاً كما يعلم بإرتفاع ذلك الفرد ويشك في بقائها ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث. واذا لاحظنا الكلي بالعنوان الإنتزاعي كعنوان الجنابة الحادثة‏ من ذلك الأثر كان من القسم الثاني ؛ لأنّ هذا من العلم الإجمالي بعنوان إنتزاعي يمكن أنْ ينطبق على الفرد المعلوم تفصيلا ، وفرقه عما تقدم في القسم الثاني أنّه‏ هناك لم يكن يعلم بتحقق أحد الفردين أما هنا فيعلم بتحقق أحد الفردين تفصيلاً ، وحيث إنّ العنوان المعلوم بالإجمال فيه خصوصية ـ ولو إنتزاعية ـ فلا يكون منحلاً بالعلم التفصيلي بأحد الفردين ، وعلى كل حال فهذه الفرضية : وهي العلم بالجامع والشك في بقائه من ناحية الشك في حدوث ‏الفرد تندرج تحت القسم الثاني أو الثالث من الكلي ()  .


 وأما من ناحية الحكم : فالصحيح عدم جريان إستصحاب الجامع فيها وذلك : 


1ـ  للنقض بموارد الشك البدوي ، فإنّه يمكن تشكيل علم إجمالي إنتزاعي كالعلم المذكور فيها كما إذا تيقن البول فتوضأ ثم شك بخروج البول منه ثانية فإنّه يمكنه‏ أنْ يشكّل علماً إجمالياً بعنوان إنتزاعي هو عنوان الحدث عند آخر بول خرج منه ؛ فإنّه لو كان آخر بول خرج منه البول الأول فالحدث الحاصل به مرتفع جزماً ، وإنْ ‏كان آخر بول خرج منه بعد الوضوء فالحدث الحادث به باق لا محالة فعنوان آخر : بول بما هو آخر مردد بين الفردين المعلوم أحدهما تفصيلاً كما يعلم بإرتفاعه ‏والمشكوك أصل حدوث الآخر ، فلا بدّ من القول بجريان إستصحاب كلي الحدث في المقام ، وهذا ما لا يمكن الإلتزام به بل هوخلاف مورد أدلة الإستصحاب . 2ـ  النقض أيضاً بموارد استصحاب الكلي من القسم الثالث ، فإنّه يمكن تصوير جامع إنتزاعي غير منحلّ فيه أيضاً كعنوان الفرد الذي لم يدخل بعده غيره ، أو لا يكون بعد فرد آخر ، أو عنوان الفرد الذي ليس معه فرد آخر غير متيقن ؛ فإنّ هذا العنوان الإجمالي مردّد بين زيد المعلوم إنتفائه إذا لم يكن غيره فرد أو غيره إذا كان فرد آخر حيث‏ إنّه لا ينطبق هذا العنوان مع وجود فرد آخر إلا عليه لا على زيد فلا بدّ من القول بجريان إستصحاب هذا الكلي الإنتزاعي المعلوم بالإجمال . 


3ـ  الحل 


 وحاصله : إنّه لو اُريد إجراء الإستصحاب في العنوان الذي هو موضوع الأثر الشرعي وهو الحدث أو الجنابة  فإنّ هذا العنوان عُلم بتحققه ضمن ‏فردٍ وزواله ويشك في بقائه ضمن فرد آخر لا يقين بأصل حدوثه ، وإنْ اُريد إجراؤه في العنوان الإجمالي الإنتزاعي كعنوان الجنابة الحادثة بذلك الاثر او الحدث ‏الحاصل بآخر موجب او الفرد الذي لا يكون بعده فرد آخر فهذا العنوان ليس موضوعاً للاثر الشرعي ليكون هو مركب الإستصحاب هذا إنْ اُريد جعله محط‏ الإستصحاب حقيقة ، وإنْ اُريد إتخاذه مشيراً الى الواقع لجعله محط الإستصحاب أو بتعبير آخر التعبّد ببقاء نفس العلم الإجمالي بلحاظ منجزيّته فقد عرفت أنّ هذا من إستصحاب الفرد المردد ومن العلم الاجمالي غير المنجّز للعلم تفصيلاً بإرتفاع أحد طرفيه . 


 


النتيجة : إنّ ما أفاده السيد الخوئي من وجود قسم رابع يجري ‏فيه إستصحاب الكلي غير تام لا موضوعاً ولا حكماً على رأي السيد محمد باقر الصدر() .


 


ويبدو للباحث أنّ مناقشة السيد الصدر للسيد الخوئي متينة ، ولكن تبقى محاولة السيد الخوئي العلمية في إبتكار قسم جديد من أقسام إستصحاب الكلي ثمينة . 


 


 


ثالثاً : مناقشة المحقق الهمداني 


ذكر السيد الخوئي رأي المحقق الهمداني ضمن إشكالٍ قد يرد في محل       الكلام ()، وهو :


قد يفصّل في جريان الإستصحاب في هذا القسم بين ما إذا علم بوجود فردين وشك في تعاقبهما وعدمه ، وبين ما إذا لم يعلم به ، بل علم بوجود عنوانين يحتمل إنطباقهما على فردين وعلى فرد واحد ، فالتزم في الأول بجريان الإستصحاب من دون الثاني .


 مثال الأول : ما إذا علم أحدٌ بوضوءين وحدث ، ولكن لا يدري أنّ الوضوء الثاني كان تجديدياً ليكون الحدث بعد الطهارة وباقياً فعلاً ، أو كان رافعاً للحدث ليكون متطهراً فعلاً ، فالوضوء الأول في هذا الفرض قد إنتقض بالحدث يقيناً ، وإنّما الشك في بقاء الطهارة حين الوضوء الثاني ؛ لإحتمال كونه بعد الحدث ، وحيث إنّ هذا الشخص متيقن بالطهارة حينه إما بسببية الوضوء الأول لو كان تجديدياً ، وإما بسببيته لو كان رافعاً للحدث ، وشاك في إرتفاعها ، فلا مانع من استصحابها ، وكذا الحال فيما إذا علم بالجماع مثلا مرتين وبغسل واحد ، لكن لا يدري أنّ الجماع الثاني وقع بعد الإغتسال حتى يكون جنباً بالفعل ، أو قبله ليكون متطهراً بالفعل أو قبله ليكون متطهرا بالفعل . فهو يعلم بارتفاع الجنابة الحاصلة بالجماع الأول بالغسل ، ويشك في بقاء الجنابة حال الجماع الثاني ، لإحتمال حدوثه بعد الغسل ، وحيث إنّه يعلم بجنابته حين الجماع الثاني ويشك في إرتفاعها ، فلا مانع من إستصحابها .


مثال الثاني : ما إذا لم يعلم بوجود فردين ، ولكنّه يعلم بعنوانين يحتمل إنطباقهما على فردٍ واحدٍ ، كمن رأى في ثوبه منياً وإحتمل أنّه من جنابةٍ أخرى غير التي إغتسل منها ، فإنّه لا يجري فيه الإستصحاب ؛ لأنّ الجنابة المتيقنة قد إرتفعت يقيناً ، والجنابة الأخرى مشكوكة الحدوث من الأول ، فلا يجري      الإستصحاب () . 


ويرى الباحث : أنّ من المحتمل قوياً أنّ السيد الخوئي قد أفاد هذا القسم من التطبيق الفقهي في المثالين المتقدمين للمحقق الهمداني ، ولذا وجّه السيد الخوئي المناقشة المفترضة لهذا القسم على ما أفاده الهمداني في بحثه الفقهي ، مع أنّ المحقق الهمداني قد سبق السيد الخوئي زماناً ، مما يعني أنّ منشأ هذا القول هو المحقق الهمداني ، وغاية الأمر أنّ السيد الخوئي كانت له الجرأة العلمية في جعل هذا الإفتراض قسماً في قبال الأقسام الثلاثة الأخرى في إستصحاب   الكلي . 


    


مناقشة الخوئي للهمداني


أخذ السيد الخوئي بمناقشة المحقق الهمَداني من خلال جوابين ذكرهما في المقام :


الجواب الأول : إنّه بالإمكان جريان الإستصحاب في الصورتين والفرق المذكور ليس بفارقٍ فيما هو ملاك الإستصحاب من تعلّق اليقين والشك بأمرٍ واحد ؛   وذلك  لأنّ الكلي متيقن حين اليقين بوجود العنوان الثاني ، وإرتفاعه مشكوك فيه؛ لإحتمال إنطباق العنوان الثاني على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقيناً ، وما ذكره - من أنّ أحد الفردين مرتفع يقيناً والفرد الآخر مشكوك الحدوث - إنّما يقدح في جريان الإستصحاب في الفرد من دون الكلي ، لتمامية أركانه من اليقين في الحدوث والشك في البقاء بالنسبة إلى الكلي () . 


ثم يبيّن السيد الخوئي الفرق بين الصورتين ، وهو : 


 في الصورة الأولى ـ وهي فرض العلم بوجود فردين ـ يكون وجود الكلي متيقناً حين وجود الفرد الثاني ، إما بوجود الفرد الأول أو بوجود الفرد الثاني ، وإرتفاعه مشكوك فيه ؛ لإحتمال كون وجوده بوجود الفرد الثاني ، فيجري الإستصحاب في الكلي .


أما في الصورة الثانية ، فإنّه لا علم فيها إلا بوجود فردٍ واحدٍ وهو متيقن الإرتفاع ، والفرد الآخر مشكوك الحدوث والأصل عدمه ، فالشك في بقاء الكلي مسبّب عن الشك في حدوث الفرد الآخر ، وهو مدفوع بالأصل ، فلا مجال لإستصحاب الكلي ؛ لكونه مرتفعاً بالتعبّد الشرعي (). 


الجواب الثاني : إنّ منشأ الشك في بقاء الكلي ليس هو الشك في حدوث الفرد الآخر ، بل منشأه هو الشك في أنّ الحدوث بهذا العنوان هل هو الفرد المرتفع يقيناً أو غيره ؟ فالشك في بقاء الجنابة في المثال نشأ من الشك في أنّ الجنابة الموجودة حال خروج المني المرئي في الثوب هل هي الجنابة التي قد إرتفعت ، أو أنّها غيرها ؟ ولا يجري أصل يرتفع به الشك في بقاء الكلي ، فضلاً عن بقاء الكلي ليس من الآثار الشرعية لحدوث فردٍ آخر ليحكم بعدم بقائه بأصالة عدم حدوث فردٍ آخر . وعليه فلا مانع من جريان إستصحاب بقاء الكلي ().


ومما تجدر الإشارة إليه أنّ جواب السيد الخوئي المتقدم هو بناءً على ما ذهب إليه الرجل الهمداني من أنّ الكلي الطبيعي له وجود في الخارج منحاز عن وجود  أفراده ، وأنّ نسبته إليها نسبة الأب الواحد إلى أبنائه ، لا نسبة الآباء إلى الأبناء ـ أي أنّ الكلي الطبيعي لا وجود له إلا بوجود أفراده بالعرض ، ففي كل فردٍ حصة منه ـ على ما هو المعروف بين المحققين () . 


 


  رابعاً : نقض مفترض


تعرّض السيد الخوئي إلى إشكال مقدّر قد يرد في محل الكلام وهو : ربما يقال: بعدم جريان الإستصحاب في هذا القسم من أقسام استصحاب الكلي ، نظراً إلى أنّه لابد في جريان الإستصحاب من إحراز صدق عنوان نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين السابق ، وفى المقام لم يحرز هذا ، لأنّه بعد اليقين بإرتفاع الفرد المتيقن وإحتمال انطباق العنوان الآخر عليه ، يحتمل أنْ يكون رفع اليد عن اليقين به من نقض اليقين باليقين ، فلا يمكن التمسك بحرمة نقض اليقين بالشك ، فإنّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ().   


 


جواب النقض 


بيّن السيد الخوئي : إنّ احتمال الإنطباق إنّما هو في نفس العنوان لا بوصف أنّه متيقن ، فإنّه بهذا الوصف يستحيل إنطباقه على الفرد الأول بالضرورة ، ففي المثال المتقدم إنّما يحتمل إنطباق نفس عنوان المتكلم على زيد ، إلا أنّه بوصف أنّه متيقن لا يحتمل أنْ ينطبق عليه ، فبعد اليقين بوجود المتكلم في الدار لا يرتفع هذا اليقين باليقين بخروج زيدٍ عنها ، بل الشك في بقائه فيها موجود بالوجدان ، فلا مانع من جريان الإستصحاب فيه .


 وبالجملة الشبهة المصداقية غير متصورة في الأصول العملية ؛ لأنّ موضوعها اليقين والشك ، وهما من الأمور الوجدانية : فإما أنْ يكونا موجودين أو لا ، فلا معنى لإحتمال اليقين وإحتمال أنْ يكون رفع اليد من اليقين السابق من نقض اليقين باليقين . 


ونظير المقام ما إذا علمنا بموت شخص معين ، واُحتمل أنّه هو المجتهد الذي نقلده ، فهل يصح أنْ يقال : إنّه لا يمكن جريان إستصحاب حياة المجتهد لإحتمال أنْ يكون هذا الشخص الذي تيقنا بموته منطبقاً عليه ، فنحتمل أنْ يكون رفع اليد عن اليقين بحياته من نقض اليقين باليقين ، مع أنّ اليقين بحياة المجتهد والشك في بقائها موجودان بالوجدان ، فكما لا مانع من جريان الإستصحاب فيها لتمامية أركانه ، فكذا في المقام بلا فرق بينهما (). 


 ويرى الباحث : أنّ هذا النقض يُحتمل قوياً قد أفاده السيد الخوئي من الإشكال الذي أثاره المحقق العراقي على القسم الثاني من إستصحاب الكلي ، والذي أعرض عن ذكره السيد الخوئي ، فقد قال المحقق العراقي :( نعم في القسم الثاني من الكلي شبهة أخرى في جريانه وهي : إنّ المحتمل أنْ يكون اليقين السابق في ضمن ما هو مقطوع الزوال رأساً ، ومع ذلك فيحتمل أنْ يكون إنتقاض اليقين السابق بيقين آخر ، ومع ذلك الإحتمال لا يبقى مجال لشمول عموم حرمة النقض بالشك ووجوب نقضه بيقين آخر ؛ لأنّه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفسه لا لمخصصه المنفصل عنه ) () .


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                                المبحث الرابع


                           تطبيقات فقهية


 


يتضمن هذا المبحث أبرز التطبيقات الفقهية للسيد الخوئي في مباحث   الإستصحاب ، وهي :  


 


1ـ عدم جريان إستصحاب حجية فتوى المجتهد الميت 


ذهب السيد الخوئي إلى عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ،ومن موارده التطبيقية عدم جريان إستصحاب حجية فتوى المجتهد الميت :


فمن الأدلة التي تمسك بها الفقهاء لإثبات جواز البقاء على تقليد الميت هو الإستصحاب ، أي إستصحاب حجية فتوى الميت قبل موته ، فهناك يقين بالحجية الفعلية ، وشك في بقائها ، والمستصحب هو الحكم الظاهري . 


 وإستصحاب حجية فتوى المجتهد الميت على مسلك المشهور مما لا شبهة فيه ، نعم على ما سلكه السيد الخوئي ـ من عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ـ لا يمكن التمسك بالإستصحاب في المقام لإثبات الجواز ؛ لأنّ الشبهة حكمية ؛ إذ الشك في أنّ الشارع هل جعل الحجية الفعلية مطلقة أو جعلها مقيدة بالحياة ، فيكون إستصحاب بقاء الحجية معارضاً بإستصحاب عدم جعل الحجية لفتوى الميت زائداً على القدر المتيقن وهو حال الحياة . 


وينبغي الإشارة إلى أنّ السيد الخوئي وإنْ الإستصحاب المتقدم لكون الشبهة حكمية ، ولكنه اعتمد على الأدلة الاخرى المذكورة في المسألة من الإطلاقات والسيرة العقلائية لإثبات جواز البقاء على تقليد الميت () .


 


2ـ إذا لم يستبريء المكلف وخرجت منه رطوبة مشتبهة بين البول والمني


ذهب السيد اليزدي إلى أنّ المكلف إذا بال ولم يستبري ثم خرجت منه رطوبة مشتبهة بين البول والمني  يُحكم عليه بأنّها بول ، فلا يجب عليه الغسل  ، بخلاف ما إذا خرجت منه بعد الإستبراء ، فإنّه يجب عليه الإحتياط بالجمع بين الوضوء والغسل ، وأما إذا خرجت منه قبل أنْ يتوضأ فلا يبعد جواز الإكتفاء بالوضوء ؛ لأنّ الحدث الأصغر معلوم ، ووجود موجب الغسل غير معلوم ، فمقتضى الإستصحاب وجوب الوضوء وعدم وجوب الغسل () . 


ووافق السيد الخوئي ما ذكره السيد اليزدي من الحكم () ، مضيفاً بأنّه :


 قد يقال : إنّ المقام من موارد إستصحاب كلّي الحدث وهو من إستصحاب القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي بناء على أنّ الحدث الأكبر والأصغر متضادان بحيث لو طرء أحد أسباب الأكبر أرتفع الأصغر وثبت الأكبر مكانه ؛ وذلك لأنّ الحدث بعد ما توضأ المكلف في مفروض المسألة مردد بين مقطوع البقاء ومقطوع الإرتفاع ؛ لأنّ الرطوبة المرددة على تقدير أنْ يكون بولاً واقعاً فالحدث مقطوع الإرتفاع وعلى تقدير أنْ تكون منياً كذلك فهو مقطوع البقاء ومقتضى إستصحاب الحدث الجامع بينهما المتيقن وجوده قبل الوضوء بقاء الحدث ومعه يجب عليه الغسل بعد الوضوء حتى يقطع بإرتفاع حدثه الثابت بالإستصحاب .


 نعم إذا بنينا على أنّ الحدث الأكبر والأصغر فردان من الحدث وهما قابلان للإجتماع أو أنّ الأكبر مرتبة قوية من الحدث ، وإذا طرأت أسبابه تبدلت المرتبة الضعيفة بالقوية فلم يجر استصحاب كلّي الحدث ؛ لأنّه من القسم الثالث من أقسام إستصحاب الكلي إذا شك المكلف بعد خروج البلل في أنّ الحدث الأصغر هل قارنه الأكبر أو تبدل إلى مرتبة قوية أو أنّه باق بحاله ؟ ومقتضى الأصل حينئذٍ إنّ الأصغر لم يحدث معه فرد آخر وأنّه باقٍ بحاله ولم يبدل إلى مرتبة قوية ومعه لا يجب عليه الغسل بعد الوضوء ، هذا والصحيح ما أفاده السيد اليزدي ؛ وذلك لأنّ الإستصحاب إنّما يجري في الكلي الجامع إذا لم يكن هناك أصل حاكم عليه كما إذا لم يكن المكلف متوضئاً في مفروض الكلام . وأما معه فلا مجال لإستصحاب الجامع لتعيّن الفرد الحادث والعلم بأنّه من أيّ القبيلين تعبداً () . 


وتوضيح السيد الخوئي لكبرى المسألة وتطبيقها على المقام : إنّ المستفاد من قوله عزّ من قائل :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً    فَاطَّهَّرُواْ... ) () أنّ الوضوء إنّما هو وظيفة غير الجُنب ؛ لأنّه مقتضى التفصيل الوارد في الآية المباركة . وكذا الحال في الأخبار لما ورد من أنّ غسل الجنابة ليس قبله ولا بعده وضوء () ، فعلمنا من ذلك أنّ الأدلة القائمة على وجوب الوضوء للمحدث مقيدة بغير الجُنب ؛ لأنّ غسل الجنابة لا يبقي مجالا للوضوء ، وحيث إنّ المكلف في مفروض المسألة لم يكن متوضئاً قبل خروج الرطوبة المشتبهة وهو شاك في جنابته لإحتمال أنْ تكون الرطوبة بولاً واقعاً فمقتضى الإستصحاب عدم جنابته فهو محدث بالوجدان وليس جنباً بالإستصحاب فيحكم فعليه بوجوب الوضوء ؛ لتحقق موضوعه بضمّ الوجدان إلى الأصل . ومع إستصحاب عدم الجنابة لا مجال لإستصحاب كلي الحدث لأنّه أصل حاكم رافع للتردد والشك فإنّ مقتضاه أنّ المكلف لم يجنب بخروج البلل وأنّ حدثه الأصغر باقٍ بحاله .


 بل يمكن أنْ يقال : إنّ الرطوبة المشتبهة ليست بمني وذلك ببركة الإستصحاب الجاري في الأعدام الأزلية ولا يعارضه إستصحاب عدم كونها بولا ؛ إذ المكلف محدث بالأصغر على الفرض ولا أثر للبول بعد الحدث حتى ينفى كونه بولاً ولا يفرق الحال فيما ذُكر بين أنْ يكون الأكبر والأصغر متضادين أو قلنا إنّهما قابلان للإجتماع أو أنّ الأكبر مرتبة قوية من الحدث والأصغر مرتبة ضعيفة ؛ وذلك لأنّ مقتضى الأصل عدم حدوث الجنابة وعدم إقتران الحدث الأصغر بالأكبر وعدم تبدّله إلى المرتبة القوية من الحدث ، فما أفاده السيد اليزدي من أنّ المكلف إذا لم يكن متوضئا وخرجت منه الرطوبة المشتبهة فلا يبعد جواز الإكتفاء بالوضوء وعدم وجوب الجمع بينه وبين الغسل معللاً بأنّ الحدث الأصغر معلوم ووجود موجب الغسل غير معلوم ومقتضى الإستصحاب وجوب الوضوء وعدم وجوب الغسل هو الصحيح* () .


 


3ـ عدم جريان استصحاب الكلي للأصل السببي الحاكم عليه 


ذكر السيد الخوئي في بحثه الأصولي () نموذجاً تطبيقياً لعدم جريان إستصحاب الكلي بسبب حكومة الأصل السببي عليه وهو : ما إذا شك في كون نجسٍ بولاً أو عرق كافر مثلاً ، فتنجّس به شيء ، فغسل مرةً واحدة ، فلا محالة نشك في بقاء النجاسة وإرتفاعها على تقدير إعتبار التعدد في الغسل في طهارة المتنجس   بالبول ، إلا أنّه مع ذلك لا نقول بجريان الإستصحاب في كلي النجاسة ووجوب الغسل مرة ثانية ؛ لأنّه تجري أصالة عدم كون الحادث بولاً فنحكم بكفاية المرة؛ للعمومات الدالة على كفاية الغسل مرة واحدة وخرج عنها البول بأدلة      خاصة () ، ومن الواضح أنّ الأصل السببي هنا هو أصالة عدم كون الحادث بولاً .


 


4ـ طهارة دم الإنسان المنتقل إلى جوف البق والقمل 


إنّ النجس كدم الانسان أو غيره مما له نفس سائله * قد ينتقل إلى حيوان طاهر ليس له لحم ولا دم سائل كالبق والقمل أو أنّ له لحماً ولا نفس سائلة له كالسمك على نحو تنقطع إضافته الأولية عن المنتقل عنه وتتبدل إلى إضافة ثانوية إلى المنتقل إليه بحيث لا يقال : إنّه دم إنسانٍ مثلا بل دم بق أو سمكة ونحوها ؛ لصيرورته جزءً من بدنهما بالتحليل بحيث لا يمكن إضافته إلى الإنسان إلا على سبيل العناية والمجاز ، فالدم وإنْ كان هو الدم الأول بعينه إلا أنّ الإضافة إلى الإنسان في المثال تبدلت بالإضافة إلى البق أو السمكة فهو ليس من الإستحالة في شيء؛  لأنّه يُعد في الإستحالة تبدل الحقيقة النوعية إلى حقيقة أخرى مغايرة مع الأولى والحقيقة الدموية لم تتبدل بحقيقة أخرى في المثال بل تبدلت إضافته فحسب ولا إشكال حينئذ في الحكم بطهارة ذلك النجس ؛ لأنّه دم حيوان لا نفس له ومقتضى عموم ما دل على طهارة دمه أو اطلاقه هو الحكم بطهارته .


وبيّن السيد الخوئي أنّه لو ثبتت  نجاسة دم المنتقل عنه وطهارة دم المنتقل إليه بالعموم فهما متعارضان ومعه لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض كموافقة الكتاب وغيرها إنْ وجدت وإلا فيحكم بالتخيير بينهما ، وأما على المسلك المختار :  فلا مناص من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى الأصل العملي وهو إستصحاب نجاسة الدم المتيقنة قبل الإنتقال وهذا هو المعروف عندهم إلا أنّه يبتني على جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ؛ لأنّه مبتلى بالمعارض دائماً ؛ إذ أنّ إستصحاب نجاسة الدم قبل الإنتقال معارض بإستصحاب عدم جعل النجاسة عليه زائداً على القدر المتيقن وهو الدم ما لم ينتقل ، ومعه تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة ، وبها يحكم على طهارة الدم في مفروض الكلام ().


 


5ـ عدم جواز النظر إلى العضو المبان من الحي


ذكر السيد اليزدي أنّه لا يجوز النظر إلى العضو المبان من الأجنبي مثل اليد ، والأنف ، واللسان ونحوها ، لا مثل السن والظفر والشعر ونحوها ().


وبيّن السيد الخوئي : أنّه اُستدل له بإستصحاب عدم الجواز الثابت قبل الإنفصال  حيث إنّ الإتصال والإنفصال من الحالات الطارئة المتبادلة على الموضوع فلا يكون تبدلها مخلاً بالموضوع ؛ ولذا جاز إستصحاب ملكية الجزء المقطوع من المملوك .


 وقد نوقش الإستصحاب المدّعى في المقام من السيد الخوئي بمناقشتين : 


أولا : ما ذكره الشيخ الأنصاري من تعدد الموضوع ؛ إذ كان موضوع عدم الجواز هو المرأة الأجنبية ، وهو غير صادق على العضو المبان فلا يجري فيه الإستصحاب ويكفي في عدم جريانه الشك في بقاء الموضوع () .


 ثانيا : إنّ المورد من موارد الإستصحاب في الشبهات الحكمية ، وقد ثبت أنّه لا يجري ، وعليه فالحكم على تقدير ثبوته مبني على الإحتياط () . 


وأشار السيد الخوئي إلى أنّ الفرق بين الشعر واليد ـ بأنْ نقول بجواز النظر إلى الشعر ونحوه ، بخلاف اليد ونحوها فلا يجوز النظر اليها ـ لم يظهر له وجه ؛ وذلك لأنّه لا مجال لدعوى إنصراف أدلة عدم الجواز عنه وإنْ لم يكن ذلك بعيداً في مثل الظفر ، والسن . وعليه فإنّ قلنا بجريان الإستصحاب في مثل اليد ، وغيرها من الأجزاء المبانة كان لازمه عدم جواز النظر إلى الشعر أيضا ، فكونه من التوابع لا يمنع من جريانه فيه ؛ لأنّ التبعية من الحالات الطارئة وليست من مقومات الموضوع ().


 


6ـ عدم إستصحاب مشروعية غسل يوم الجمعة في ليلة السبت


من الأدلة التي ذُكرت لإثبات مشروعية غسل يوم الجمعة في ليلة السبت هو إستصحاب المشروعية ؛ وذلك للقطع بها يوم الجمعة فلو شككنا في بقائها وإرتفاعها ليلة السبت فنستصحب بقاءها .


 وقد ناقش السيد الخوئي هذا الإستصحاب بمناقشتين ، بما نصّه :( أولا : إنّه من إستصحاب الحكم الإلهي الكلي ونحن نمنع جريانه فيه . وثانياً : إنّه من قبيل الإستصحاب الجاري في القسم الثالث من الكلي لأنّ المشروعية الثابتة يوم الجمعة إنّما كانت ثابتة في ضمن الأداء وهي قد إرتفعت قطعاً ونشك في أنّه هل وجد فرد آخر من المشروعية وهي المشروعية قضاءً وعدمه مقارناً لإرتفاع الفرد الأول وهو مما لا يلتزم به القائل بجريان الإستصحاب في الأحكام ) ().


 


7ـ إستحالة نجس العين والمتنجس مطهّرة لهما 


من المطهرات هو الإستحالة وهي تبدّل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى صورة أخرى ، وهي تطهّر النجس والمتنجّس () .


فقد بيّن السيد الخوئي إنّ الدليل على مطهرية الإستحالة هو أنّ بها يتحقق موضوع جديد غير الموضوع المحكوم بنجاسته ؛ لأنّه إنعدم وزال والمستحال إليه موضوع آخر ، فلا بدّ من ملاحظة أنّ ذلك الموضوع المستحال إليه هل تثبت طهارته بدليل إجتهادي أو لا ؟  فعلى الأول تثبت طهارته بعين ذلك الدليل ، وعلى الثاني يحكم بطهارته أيضاً لقاعدة الطهارة ؛ لأنه مشكوك الحكم ولم تثبت نجاسته ولا طهارته بدليل . 


والنجاسة في الأعيان النجسة إنّما ترتبت على الصورة النوعية وعناوينها الخاصة ، فالدم مثلاً بعنوان أنّه دم نجس ، كما أنّ العذرة بعنوانها محكومة بالنجاسة ، ومع تبدّل الصورة النوعية وزوال العناوين الخاصة ترتفع نجاستها ؛ لإنعدام موضوعها ، ولم تترتب النجاسة في الأعيان النجسة على مادة مشتركة بين المستحال منه والمستحال إليه ، أو على عنوان الجسم مثلاً ليدعى بقاء نجاستها بعد إستحالتها وتبدلها بصورة نوعية اُخرى لبقاء موضوعها ، فإذا شككنا في إستحالة الطين خزفاً ، أو استحالة الخشب فحماَ وعدمها فلا مانع من التمسك بإستصحاب عدم الإستحالة ؛ لتعلّق الشك حينئذٍ بعين ما تعلّق به اليقين وإتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، وبذلك يحكم بنجاسته () ، ولا مانع من جريان الإستصحاب في الشبهات الموضوعية عند السيد الخوئي  .


 


8ـ وجوب رد السلام إذا شك المصلي في صدق الجواب


ذكر السيد محمد كاظم اليزدي ما نصّه : ( يجب جواب السلام فوراً  فلو أخّر عصياناً أو نسياناً بحيث خرج عن صدق الجواب لم يجب ، وإنْ كان في الصلاة لم يجز وإنْ شك في الخروج عن الصدق وجب . وإنْ كان في الصلاة لكن الأحوط حينئذ قصد القرآن أو الدعاء ) () .ومن الواضح أنّ وجوب رد السلام فوري وإنْ كان المكلف في حالة الصلاة ؛ لأنّه من مقتضيات الرد عرفاً حتى يتحقق الإرتباط بها بحيث يُعد جواباً لها ، ولكن إذا شك المصلي في صدق الجواب عرفاً ، فهنا أفتى السيد اليزدي بوجوب الرد استناداً إلى إستصحاب بقاء الوقت وعدم الخروج عن صدق الرد .


 وقد علّق السيد الخوئي على ما تقدم بأنّه : لا يتم سواء أكانت الشبهة مفهومية بأن تردد الوقت الذي ينتفي الصدق معه بين الأقل والأكثر ، أم كانت موضوعية بأن علمت الكمية وأنّها دقيقة واحدة - مثلا وشك في إنقضائها وعدمه . 


أما الشبهات المفهومية فلعدم جريان الإستصحاب فيها ؛ لعدم الشك في بقاء شيء أو إرتفاعه ، بل في سعة المفهوم وضيقه وهو خارج عن نطاق الأصل ومفاده ولا يكاد يرتبط به .


وأما الشبهات الموضوعية فلأجل أنّ أصالة بقاء الوقت لا يترتب عليها صدق عنوان الرد الذي هو الموضوع للحكم إلا بنحو الأصل المثبت لكونه من لوازمه العقلية ، فلا يقاس ذلك بإستصحاب بقاء النهار لإثبات وجوب الصلاة أوالصيام ؛ لأنّهما مترتبان عليه شرعاً ، وأما أصالة بقاء صدق الرد فهو من الإستصحاب التعليقي كما لا يخفى . 


إذن فوجوب الرد في المقام مبني على الاحتياط ، ومقتضى الصناعة الأصولية عدمه ، وعليه فمقتضى الإحتياط الرد والإتمام ثم إعادة الصلاة أما الأول ـ أي الإحتياط في الرد ـ فلإحتمال وجوبه ، وأما الثاني ـ أي الإحتياط بالإتمام ـ فلإحتمال حرمة القطع وأما الثالث ـ أي إعادة الصلاة ـ فلإحتمال بطلان الصلاة بكلام الآدمي ، مع أنّ قصد القرآن أو الدعاء لا ينفع في حصول الإحتياط ().


 


9ـ  وجوب قضاء الصلاة اليومية الفائتة عمداً أو سهواً أو جهلاً 


تعرّض السيد الخوئي إلى ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في وجوب القضاء  وذكر أنّ المعروف بين الفقهاء هو أنّ القضاء إنّما هو بأمر جديد ، متعلق بعنوان الفوت ، ولا يكاد يتكفل باثباته نفس الأمر الأول ، فإنه متقيد بالوقت الخاص ، فيسقط - لا محالة - بخروج الوقت ، فإذا شك في ثبوت الأمر الجديد كان مقتضى الأصل البراءة عنه  ().  إلا أنه ربما يتمسك لبقاء الأمر الأول بعد خروج الوقت بالإستصحاب بدعوى : إنّ خصوصية الوقت تعد - بنظر العرف - من الحالات المتبادلة ، لا من مقومات الموضوع ، بحيث يكون الشك في ثبوت الحكم بعد خروج الوقت شكاً في بقاء الحكم الأول واستمراره ، ولا ريب في أنّ المدار في إتحاد القضية المتيقن بها والمشكوك فيها - هو نظر العرف . 


وناقش السيد الخوئي الإستصحاب المدعى في المقام بأنه يرد عليه ما يأتي : 


أولا : إنّ الإستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية .


وثانيا : إنّه على فرض التسليم ، فهو غير جارٍ في خصوص المقام لكونه من القسم الثالث من إستصحاب الكلي ، ولا نقول به ، فإن الوجوب الثابت في الوقت قد إرتفع بخروجه قطعا ؛ لأنّه كان محدوداً بزمان خاص على الفرض ، والظاهر من الدليل هو كون الفعل مطلوباً في الزمان الخاص بنحو وحدة المطلوب ، فينتهي الحكم - لا محالة - بإنتهاء أمده ، حتى مع تسليم كون الوقت بنظر العرف من قبيل الحالات المتبادلة من دون المقومات ، فلا معنى لجريان الإستصحاب حينئذ ، إلا إجراؤه في كلي الوجوب المحتمل بقاؤه في ضمن فردٍ آخر حدث مقارناً لإرتفاع الفرد الأول ، أو قارنه في الوجود ، لكنّه - على كلا التقديرين - غير مقطوع الثبوت . ولا حجية لهذا القسم من إستصحاب الكلي . 


وثالثا : إنّه على فرض تسليم عدم ظهور الدليل في وحدة المطلوب وتسليم كون الوقت من قبيل الحالات المتبادلة ـ بحسب الفرض ـ فالإستصحاب إنّما يتجه على القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ؛ نظراً إلى أنّ الوجوب في الوقت إذا كان بنحو وحدة المطلوب فقد إرتفع بخروج الوقت قطعاً ، وإذا لم يكن كذلك ، بل كان على نحو تعدد المطلوب ، فهو باقٍ قطعاً ، فيدور الأمر في الوجوب المذكور بين مقطوع الإرتفاع ومقطوع البقاء ، والإستصحاب في هذا القسم وإنْ كان جارياً في نفسه بأنْ يستصحب الكلي الجامع بين الفرد القصير والفرد الطويل . إلا أنّه لا يكاد يجري في خصوص المقام ؛ وذلك للأصل الحاكم عليه ، وهو أصالة عدم تعلق الوجوب بالطبيعي الجامع بين المأتي به في الوقت وخارجه ، فإنّ المتيقن به من الجعل إنّما هو إيجاب الصلاة المقيدة بالوقت ، سواء أكان ذلك بنحو وحدة المطلوب أم على سبيل التعدد فيه حيث أنّ القائل بتعدد المطلوب أيضا يرى وجوب الصلاة المقيدة بالوقت أحد المطلوبين والمفروض تسالم الطرفين على إرتفاع هذا الوجوب بعد خروج الوقت ، فلا يكون بقاؤه مشكوكا فيه ، كي يجري إستصحابه بنفسه ، أو إستصحاب الكلي الموجود في ضمنه ، وأما الزائد على هذا المقدار ـ أي تعلق الوجوب بالطبيعي المطلق الشامل لما بعد خروج الوقت - فهو مشكوك الحدوث من الأول ، وحينئذ فيتمسك في نفيه بالإستصحاب أو أصالة البراءة عنه ، ومع وجود هذا الأصل الحاكم المنقّح للموضوع ، والمبيّن لحال الفرد ، لا تصل النوبة إلى إستصحاب الكلي .


 إذن الفارق بين المقام وبين سائر موارد القسم الثاني من إستصحاب الكلي ، كالزوجية المرددة بين الدوام والإنقطاع أو دوران الأمر بين الحدث الأصغر والأكبر ، وغيرهما من موارد الدوران بين الفرد القصير والطويل ، يتلخّص في : أنّ الفردين المرددين في تلك الموارد يعدّان - بنظر العرف - متباينين وحينئذٍ فلا يوجد هناك أصل يتكفل بتعيين أحدهما ؛ فإنّ إستصحاب عدم كل منهما يعارضه إستصحاب عدم الآخر ، وهذا بخلاف المقام ؛ إذ يدور الأمر فيه بين الأقل والأكثر فإنّ الأصل المنقّح لأحد الفردين - وهو أصالة عدم وجود الزائد على القدر المتيقن به - موجود ولا يعارض هذا أصالة عدم تعلق التكليف بالمتقيد بالوقت ، لكونه متيقن به بحسب الجعل على كل تقدير، وأنّه من المتفق عليه بين الطرفين .


 فتحصل من ذلك : سقوط الإستصحاب في المقام ، فيكون المرجع - عندئذ - أصالة البراءة عن القضاء () .


10ـ الأسير والمحبوس إذا لم يتمكنا من تحصيل العلم بشهر رمضان 


ذهب المشهور إلى الأسير والمحبوس يعملان بالظن ومع عدمه تخيرا في كل سنة بين الشهور فيعيّنان شهراً له ؛ لعدم إمكان الإحتياط للتعذّر أو للعسر والحرج () .


خالف السيد الخوئي رأي المشهور بالقول بالتخيير وأنّه ينبغي عليه الإقتصار في الإفطار بما ترتفع به الضرورة ، فلو إرتفعت الضرورة بالإفطار في خمسة أشهر أو ستة مثلاّ لزمه الصيام في الباقي ؛ عملاً بالعلم الإجمالي المنجّز (). 


وذكر السيد الخوئي أنّه قد يقال في مفروض الكلام : بعدم وجوب الصيام إلى أنّ يتيقن بدخول شهر رمضان عملا بالإستصحاب وبعد اليقين المذكور يجب الصوم أخذا بإستصحاب بقاء الشهر إلى أنْ يتم ، فلأجل هذا الأصل الموضوعي الحاكم يسقط العلم الاجمالي عن التنجيز . 


وقد رد السيد الخوئي هذا الإفتراض بأنّه : لا مجال للإستصحاب المزبور ـ أي استصحاب بقاء شهر رمضان بعد اليقين بدخوله ـ لإندراج المقام في كبرى تحقق الحالتين السابقتين المتضادتين مع الشك في المتقدم منهما والمتأخر المحكوم فيها بتعارض الإستصحابين ، فإنه إذا علم بدخول شهر رمضان ولم يعلم أنّه دخل في هذا اليوم مثلا حتى يبقى إلى شهر أو أنّه قد دخل قبل ذلك وإنصرم فهو يعلم بأنّ أحد الشهرين السابقين على زمان اليقين لم يكن من شهر رمضان غير أنّه لم يميّز المتقدم منهما عن المتأخر ولم يدر أنّ ذاك هل هو العدم السابق عليهما أو غيره ، وكما ساغ له إستصحاب بقاء رمضان ساغ له إستصحاب عدم الخروج من ذاك الزمان فيتعارضان بطبيعة الحال . 


وبعبارة أخرى : إنْ العدم الأزلي السابق عليهما قد إنتقض بالعلم بدخول رمضان جزماً وأما العدم المعلوم كونه من أحد الشهرين المتقدمين المردد بين أنْ يكون هو العدم الأزلي الزائل - فيما لو كان دخول شهر رمضان بعده - أو عدماً حادثاً باقياً إلى الآن - لو كان دخول الشهر قبله - فهو قابل للإستصحاب الذي هو من سنخ إستصحاب القسم الرابع من أقسام إستصحاب الكلي ، فنقول مشيراً إلى ذاك الزمان إنّا كنا على يقينٍ من عدم رمضان والآن كما كان ، وبعد تعارض الإستصحابين كان المتّبع العلم الإجمالي الذي مقتضاه الإحتياط والعمل على طبقه بقدر الإمكان ، وذلك : من أجل أنّ وجود شهر رمضان بعد ذلك مشكوك فيه والمرجع فيه هو أصالة البراءة ، لكنّها معارضة بإستصحاب عدم دخوله إلى زمان اليقين به فيتساقطان ، ومعه لم يكن بدٌ من الإحتياط إلى أنْ يتيقن    بانقضائه () .


 


11ـ وجوب الزكاة على السكة إذا كانت من الآثار العتيقة


ذكر السيد الخوئي أنّه إذا كان المسكوك رائج المعاملة ومندرجاً في مسمّى الدرهم والدينار سابقا أما الآن فقد زال العنوان وهجرت المعاملة وسقطت السكة عن درجة الإعتبار إما لتغيير الحكومة أو لغير ذلك من مناشيء الهجر والسقوط فلا يعد فعلاً من الأثمان وإنّما يُرغب فيه لمادته أو لأجل كون السكة من الآثار العتيقة . 


والمعروف والمشهور حينئذٍ وجوب الزكاة بل اُدّعي عليه الإجماع في كلمات غير واحدٍ () وفي الجواهر لم أرَ فيه خلافاً (). 


ويٌستدل له بوجوه : منها : الإستصحاب فإنّ هذا المسكوك كان يجب فيه الزكاة سابقاً والآن كما كان . 


ناقش السيد الخوئي الإستصحابَ المدّعى بما يأتي :


 أولا : إنّ الموضوع قد تبدّل إذ لم يكن معروض الوجوب ذات المسكوك بحيث يكون الإتصاف بالدرهم أو الدينار من قبيل تبدل الحالات بل الوصف العنواني دخيل ومقوم للموضوع كما لا يخفى . ومعه لا مجرى للإستصحاب . 


ثانيا : إنّ الإستصحاب تعليقي ؛ إذ الوجوب لم يكن ثابتاً وفعلياً سابقاً بل معلقاً على تقدير حلول الحول وبقاء العين وإستجماع الشرائط العامة فلم يكن حكماً منجزاً ليستصحب ولا نقول بالإستصحاب التعليقي .


 ثالثا : إنّ الشبهة حكمية ولا نقول بجريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقاً من غير فرقٍ بين التنجيزي والتعليقي ؛ للمعارضة بين مقام الجعل والمجعول كما حققناه في الأصول () .


وقد إنتهى السيد الخوئي في ختام بحثه عن هذه المسألة إلى أنّ الأقوى عدم الوجوب وإنْ كان الإحتياط مما لا ينبغي تركه () ؛ لعدم تمامية الأدلة في المقام والتي منها الإستصحاب ؛ ولو تمت الأدلة لأفتى بالوجوب من دون الإحتياط بعدم الترك .


 


12ـ لو أفسد المكلف عمرته المفردة بجماع امرأته عالماً عامداً


ذكر السيد الخوئي ما استدل به الشيخ محمد حسن النجفي ( ت : 1266هـ) على وجوب إتمام العمرة المفردة لو أفسدها المكلف بجماع امرأته عالماً عامداً ، وذكر الأدلة على ذلك والتي منها الإستصحاب ، بتقريب أنّ قبل الإفساد كان الإتمام واجباً ويشك في إرتفاعه بعد الإفساد فيستصحب () .


وقد ناقش السيد الخوئي الإستصحاب المدعى في المقام بقوله : ( إنّ الإتمام قبل الإفساد إنّما وجب بإعتبار صحة العمرة وشمول الآية لها وأما بعد الإفساد تكون العمرة فاسدة فاختلف الموضوع وتعدد فلا يمكن إستصحاب حكم موضوعٍ لموضوعٍ آخر على أنّه لا نسلّم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية كما حققناه مفصلا في المباحث الأصولية  ) ()  .


ولعدم تمامية الأدلة والوجوه التي ذكرها الشيخ حسن النجفي عند السيد الخوئي تجد أنّه قال : بالاحتياط في إتمام العمرة المفردة ، بينما نجد أنّ الشيخ حسن النجفي أفتى بالوجوب فيها  .


 


13ـ عدم جريان إستصحاب حرمة العقد على المرأة قبل طواف النساء


إذا طاف الحاج طواف النساء حلّ له النساء بلا إشكال وإنّما وقع الكلام في المراد بتحريم النساء فهل له جميع الإستمتاعات منها أو خصوص المقاربة . ففي القواعد وشرحها : أنّ المراد بها الوطء وما في حكمه من التقبيل والنظر واللمس بشهوةٍ من دون العقد عليها وإنْ حرم بالإحرام () ، وعن الشهيد الأول حرمة العقد عليهن أيضا بل المفهوم منه حرمة الإشهاد () .


 ورأي السيد الخوئي : أما بالنسبة إلى العقد والإشهاد ، فلا ينبغي الريب في الجواز ؛ لأنّ المتفاهم من النساء هو الاستمتاعات منهن . فالظاهر جواز العقد له بعد الحلق () .


وذكر السيد الخوئي إشكالاً في المقام وهو : إنّ مقتضى الإستصحاب حرمة العقد أيضاً ؛ لأنّه قد حرم بالإحرام ونشك في زواله بعد طواف الحج ، وقبل طواف النساء والأصل بقائه ، وتبيّن للباحث أنّ هذه الدعوى هي للشهيد الثاني (). 


 


 


رد الإشكال 


 أولا : بأنّه من الإستصحاب في الأحكام الكلية ولا نقول به .


ثانيا : بأنّه يكفي في رفع اليد عن ذلك صحيحة الفضلاء  لقول الإمام الصادق : ( ... فإذا قضت المناسك وزارت بالبيت طافت بالبيت طوافاً لعمرتها ، ثم طافت طوافا للحج ، ثم خرجت فسعت فإذا فعلت ذلك فقد أحلت من كل شيء يحل منه المحرم إلا فراش زوجها ، فإذا طافت طوافا آخر**، حلّ لها فراش زوجها )() ، فإنه يدل على أنه لو طافت طواف الحج وسعت يحل لها كل شيء إلا فراش زوجها المراد به الوطيء خاصة ، ولا شك أنّ فراش زوجها لا يشمل العقد ولا الإشهاد عليه قطعاً ، مع أنّ حلية العقد بل الإستمتاعات لا تتوقف على طواف الحج وسعيه وأما بالنسبة إلى بقية الإستمتاعات كالتقبيل واللمس بشهوة فلا ريب في شمول النساء كذلك ولكن هذه الصحيحة كالصريحة في أنّ المحرّم هو الجماع خاصة من دون بقية الإستمتاعات ؛ فإنّ المراد بفراش زوجها كناية عن المقاربة فإنّها تحتاج إلى الفراش ، وأما بقية الإستمتاعات من التقبيل واللمس فلا تحتاج إلى الفراش . ولا شك أنّ مجرد النوم على فراش زوجها غير محرم عليها حتى في حال الإحرام ، فالمراد بفراش زوجها هو الوطيء خاصة . وأما حلية بقية المحرمات حتى العقد والإستمتاع بهن بعد الحلق ، وعدم توقفها على طواف الحج وطواف النساء فيدل عليه صحيح الحلبي عن أبي عبد الله  : (...وطواف بالبيت بعد الحج ) () .


 


14ـ منشأ حق الاختصاص حرمة التصرف في مال الغير


بيّن السيد الخوئي أنّه قد قامت السيرة القطعية الشرعية والعقلائية على ثبوت حق الإختصاص والأولوية للمالك في أمواله التي سقطت عن المالية للعوارض والطواريء ، كالماء على الشط ، والحيوان المملوك إذا مات ، والأراضي المملوكة إذا جعلها الجائر بين الناس شرعاً سواء ، كالطرق والشوارع المغصوبة ؛ لعدم جواز مزاحمة الأجانب عن تصرف الملاك في أمثال تلك الموارد ما لم يثبت الإعراض . وهذا مما لا ريب فيه ، وإنّما الكلام في منشأ ذلك الحق ، وقد اُستدل عليه بوجوه ، أحدها : إنّه قد ثبت في الشريعة المقدسة أنّه لا يجوز لأحد أنْ يتصرف في مال غيره إلا بطيب نفسه ، وقد دلت على ذلك السيرة القطعية وجملة من الأخبار() ، فإذا زالت الملكية وشككنا في زوال ذلك الحكم كان مقتضى الإستصحاب الحكم ببقائه () . 


وقد ناقش السيد الخوئي الإستصحاب المدعى في المقام بقوله : ( وفيه مضافاً إلى عدم جريان الإستصحاب في الأحكام ؛ لمعارضته دائماً بأصالة عدم الجعل كما نقحناه في علم الأصول ، أنّ موضوع الحكم بحرمة التصرف هو مال الغير ، فإذا سقط الشيء عن المالية سقطت عنه حرمة التصرف حتى إذا كان باقياً علي صفة المملوكية ؛ إذ لا دليل على حرمة التصرف في ملك الغير فكيف إذا زالت عنه الملكية أيضاً ) () .


وبما تقدم يتبيّن ما في كلام المحقق علي الإيرواني ( ت : 1354هـ ) من الوهن ، إذ ذكر : الظاهر ثبوت حق الاختصاص ، أما في الحيازة فلعموم دليل من سبق إلى ما لم يسبقه أحد مسلم فهو أولى به **، وأما فيما إذا كان أصله ملكا للشخص فلإستصحاب بقاء العلقة () . وقد عقّب عليه بأنّ المورد ليس مما يجري فيه الإستصحاب ، وأنّ الحديث لا يدل على المدعى () . 


 


وهناك نماذج تطبيقية أخرى اُشير إليها إجمالاً روماً للإختصار ، وهي :


15ـ خروج ماء الكر عن الإطلاق إلى الإضافة بإلقاء المضاف النجس فيه () .


16ـ عدم طهارة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه () .


17ـ عدم إعتبار التعدد فيما لاقت النجاسة ما يحتاج إلى التعدد () .


18ـ إذا شُك في حيوان مأكول اللحم أو لا ، لم يُحكم بنجاسة بوله وروثه () .


19ـ عدم إستصحاب النجاسة في أجزاء الميتة () .


20ـ عدم إستصحاب نجاسة الماء قبل طبخ الدم المراق في الأمراق() .  


21ـ عدم إستصحاب نجاسة الكلب والخنزير في المتولد منهما () .


22ـ المتنجّس بالمتنجّس لا يجري عليه جميع أحكام النجس () .


23ـ عدم جواز تنجيس المسجد الذي تغيّر عنوانه () .


24ـ تطهير باطن القدم والنعل بالمشي على الجص والنورة () .


25ـ وجوب غسل مخرج البول مرتين من الماء القليل على الأحوط وجوباً() .


26ـ لا يجب غسل العضد في من قُطعت يداه من فوق المرفق () .


27ـ عدم جواز تكفين الميت بالحرير الخالص () .


28ـ  مشروعية تقديم غسل الجمعة () .


29ـ عدم جريان إستصحاب الوجوب التعييني لصلاة الجمعة في عصر      الغيبة ().


 


 


30ـ الآفاقي إذا صار مقيماً في مكة ()  .


31ـ تحريم النساء على الرجل إذا ترك طواف النساء في الحج () .


32ـ  وجوب الضمان على العامل في المضاربة في حالة التعدي والتفريط ().  


33ـ عدم إشتراط حياة الأب أو موته في ولاية الجد () .


34ـ الإستدلال بأصالة اللزوم في إفادة المعاطاة للملك () .


35ـ فكّ الرهن بمنزلة الإجازة بالبيع ()  .


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


الخاتمة ونتائج البحث


 


بعد توفيق الله عزّ وجل والإنتهاء من كتابة البحث ، خلص الباحث بما يأتي :


 


1ـ تجلّى للباحث إمتياز الشخصية العلمية للسيد أبي القاسم الخوئي بروح الإبداع والإبتكار للنظريات والآراء الأصولية ، ودقة تطبيقها في الجانب الفقهي .


 


2ـ أضاف السيد الخوئي في البحث الأصولي إضافات معرفيةٍ كثيرةٍ ، سواءً أكانت تلك الإضافات طولية ـ أعني بيان ما موجود من آراء العلماء السابقين له والمعاصرين ـ أم عرضية : أي بابتكار وإبداع الآراء والنظريات الجديدة ، وقد تجلّى ذلك بشكلٍ واضحٍ في مباحث الأطروحة ، أمثال : إبتكار نظرية التعهّد في وضع الألفاظ  ، والقول بالتحصيص في المعاني الحرفية ، وإضافة قسم رابع في أقسام إستصحاب الكلي .


 


3ـ إتصف السيد الخوئي بالموسوعية العلمية ، إذ ترك آثاراً في أبواب العلوم المختلفة : من أصول الفقه ، وعلم الفقه ، وعلم الرجال ، وعلوم القرآن ، فضلاً عن المطالب الكلامية المتضمنة في كتب أصول الفقه : مثل الأمر بين الأمرين ، وما إنطوى عليه من مباحث في الكلام النفسي ، وإستقلال العقل بالحسن والقبح ، وصفات الله تعالى ، ممّا يدلل على إلمامه بالمعقول . 


 


4ـ لعلّ السبب في عدم نسبة الآراء الى أصحابها عند السيد الخوئي أحياناً ؛ هو أنّه ( قده ) يركّز على نفس الرأي ومناقشته من دون النظر الى صاحبه .


 


5ـ إنتهل كثيرٌ من طلبة العلوم الدينية من فيض علوم السيد الخوئي ، فتخرّج على يديه كثيرٌ من العلماء والمجتهدين ، تصدّى بعضُ منهم للمرجعية الدينية : أمثال السيد محمد باقر الصدر والسيد محمد الروحاني والسيد علي الحسيني السيستاني والسيد كاظم الحائري والسيد محمد صادق الروحاني والشيخ محمد إسحاق الفياض والشيخ حسين وحيد الخراساني والشيخ جواد التبريزي والشيخ بشير حسين الباكستاني النجفي والشيخ علي الغروي والشيخ مرتضى البروجردي وغيرهم من العلماء والمفكّرين ؛ وبذلك تتحقق إحدى خصائص المدرسة عند السيد الخوئي على ما إفترضه الباحث من خصائص ومميزات للمدرسة .


 


6ـ إمتاز أسلوب البحث الأصولي والفقهي عند السيد الخوئي بتغليب الفهم العرفي على الفهم العقلي والفلسفي الدقّي ، مما يؤثر تأثيراً بالغاً في تشخيص موضوعات الأحكام بصورة أقرب إلى الواقع ، على خلاف منهجية أساتذته  .


 


7ـ من النتائج السالفة الذكر يمكن أنْ يُقال : إنّ السيد الخوئي يُعدّ صاحب مدرسة أصولية إمتدادية لمن سبقه من العلماء ـ أخصّ بالذكر منهم المحقق النائيني ـ ؛ لإنطباق ما افترضه البحث من ضابطٍ للمدرسة عليه ؛ وذلك للإضافات المعرفية التي أضافها في البحث الأصولي ، وإنّ أغلب تلك الإضافات هي طولية وليست عرضية ، بإنضاج وإيضاح وإبراز أفكار مَنْ سبقه والإرتقاء بها الى مستوى النظرية أحياناً مع بيان أثرها في التطبيقات الفقهية ، تلك النظريات التي تأثّر بها تلامذته ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وبما أنّ أغلب تلك الإضافات كانت عمودية في عموم مباحثه الأصولية علاوة على ما ذُكر قي مباحث الأطروحة ، وأنّ تلك الإضافات لم تكن في أمهات المسائل الأصولية ؛ فلا تنهض لأنْ تشكّل مدرسة مستقلة ، فمدرسته الأصولية مدرسة إمتدادية ، ويُعد السيد الخوئي رائد تلك المدرسة  .


 


8ـ أثبت البحث الأصولي للسيد الخوئي بطلان الدلالة الذاتية بين اللفظ والمعنى ، وبطلان كونها بالجعل والتخصيص الإلهي أو بالإعتبار ، كما أثبت أنّ الواضع هو الإنسان بما ألهمه الله سبحانه من نعمة البيان ، وأكّد على أنّ دلالة اللفظ على المعنى وضعية محضة ، وأنّها من باب التعهّد والإلتزام النفساني ، وأنّ كل متعهّد واضع حقيقة ، وإختصاص الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ، وقد أيّد السيد الخوئي القول بالتعهّد في وضع الألفاظ بمؤيّدات وهي : موافقته للمعنى اللغوي للوضع ، وموافقته أيضاً لوضع الأعلام الشخصية ، وإستقرار السيرة العقلائية على التعهّد .


 


9ـ ظهر للباحث إنّ منشأ القول بالتعهّد هو المحقق علي بن فتح الله النهاوندي (ت:1322هـ) ، وتأثّر به  مَنْ جاء من بعده ، كالشيخ عبد الكريم الحائري          (ت: 1355هـ) والشيخ محمد رضا الأصفهاني النجفي (ت:1362هـ) ، ولكنّ السيد الخوئي أضاف إلى الرأي إضافات طولية بتوضحيه وإبرازه على هيأة نظرية أصولية لها تطبيقاتها الفقهية ، راداً النقوض المفترضة عليها ؛ ولأجل ذلك نسب البحثُ نظرية التعهّد إلى السيد الخوئي .


 


10ـ من معالم البحث الأصولي للسيد الخوئي هو القول بالتحصيص في وضع المعاني الحرفية ، وبطلان الآراء الأخرى : من كون الحروف لم توضع لمعنى محدد وأنّ شأنها شأن حركات الإعراب ، وهو ما نُسب الى المحقق الرضي     ( ت : 688هـ ) صاحب الكافية وقال به المحقق النهاوندي ، وكذا بطلان القول بالآلية في وضع الحروف الذي قال به المحقق رضي الدين الإسترابادي            ( ت : 688هـ) ووافقه المحقق الآخوند الخراساني ، وبطلان القول بإخطارية المفاهيم الإسمية و إيجادية المعاني الحرفية بمعنى أنّه لا تقرر لها في عالم المفهوم ، ولا استقلال بذاتها وحقيقتها ، وهو ما قال به المحقق محمد حسين النائيني ( ت : 1355هـ) ، وكذا بطلان القول بالوجود الرابط للمعاني الحرفية بخلاف الأسماء فلها وجودها الإستقلالي وهو ما إختاره المحقق محمد حسين الإصفهاني( ت : 1361هـ) ، وبطلان القول بأنّ الحروف والأدوات وضعت للأعراض النسبية الإضافية الذي ذكره المحقق أغا ضياء الدين العراقي          ( ت : 1361هـ) ، وقد نبّه السيد الخوئي الى أنّ رأيه هذا في المعاني الحرفية هو من نتائج وثمرات مسلك التعهّد في مسألة الوضع ؛ فإنّ القول بالتعهّد لا محالة يستلزم وضعها لذلك ؛ فإنّ الغرض قد يتعلق بتفهيم الطبيعي ، وقد يتعلق بتفهيم الحصة ، والمفروض أنّه لا يكون على الحصة دال ما عدا الحروف وتوابعها ، فلا محالة يتعهّد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصة خاصة .


 


11ـ برّز البحث الأصولي للسيد الخوئي النكتة العلمية في عدم أهلية الإطلاق للتعارض مع العام ؛ لكون دلالة الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس دلالة لفظية ، بل دلالته ناشئة عن مقدمات الحكمة وهي عقلية وليست لفظية ، وبالتالي يكون الإطلاق غير مؤهّل للتعارض مع العام ، كما اختار السيد الخوئي أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد ولكن بتفصيلٍ بين مقامي الإثبات والثبوت : أما في مقام الإثبات : فالتقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق في هذا المقام عبارة عن عدم التقييد فضلاً عمّا هو قابل له ، وأما في مقام الثبوت : فالمقابلة بينهما مقابلة الضدين ؛ وذلك لأنّ الإطلاق في هذا المقام : عبارة عن رفض القيود والخصوصيات ، ولحاظ عدم دخل شيءٍ منها في الموضوع أو المتعلق ، والتقييد : عبارة عن لحاظ دخل خصوصيةٍ من الخصوصيات في الموضوع أو المتعلق ، ومن الطبيعي أنّ كلاً من الإطلاق والتقييد بهذا المعنى أمران وجوديان . 


   


12ـ إختلف الأصوليون في ثبوت المفهوم للوصف وعدمه ، ومن معالم البحث الأصولي للسيد الخوئي هو أنّ القيد في القضية الوصفية يدل على المفهوم لكن لا بمعنى دلالته على إنتفاء سنخ الحكم بإنتفاء الوصف ، بل بمعنى أنّه يدل على أنّ موضوع الحكم في القضية الوصفية ليس الطبيعي على نحو الإطلاق ، بل حصة خاصة منه ، على أساس ظهور القيد في الإحتراز ؛ فلو لم يدل على التحصيص كان لغواً محضاً . 


كما فرّق بين الوصف المعتمد على موصوفه ، وغير المعتمد عليه ، وصرّح  بأنّها قد اُهملت في كلمات الأصحاب ولم يتعرّضوا لها في المقام لا نفياً ولا إثباتاً مع أنّ لها ثمرة مهمة في الفقه منها ما في مسألة حمل المطلق على المقيد .


 


13ـ إنّ السمة الواضحة للسيد الخوئي في بحثه الأصولي هي كثرة المناقشة في الإجماعات المنقولة ، وإنّ الإخبار عن الإجماع المنقول هو إخبار عن حدسٍ ، لم يدل الدليل على حجيّته ، وإنّ قاعدة اللطف التي قال بها الشيخ الطوسي         (ت :460هـ) ليست تامة عند السيد الخوئي ، وكذا إحتمال إستناد القدماء في نقل الإجماع إلى الحس ـ كما عن المحقق العراقي ( ت : 1361هـ) ـ هو إحتمال موهوم جداً .


أما الإجماع المحصّل : أي الذي يحصّله الفقيه بنفسه بتتبع أقوال أهل الفتوى ، فجميع الأدلة المدعاة لحجيته غير تامة ، فلا مستند لحجية الإجماع أصلاً ،


ولكنّ السيد الخوئي يرى أنّ مخالفة الإجماع المحقَّق من أكابر أصحاب وأعاظم الفقهاء مما لا يجتريء عليه ؛ ولذا إلتزم في موارد تحقق الإجماع بالإحتياط اللازم ، كما هو واضح في تطبيقاته الفقهية .


 


14ـ من معالم البحث الأصولي  للسيد الخوئي كثرة المناقشات في الشهرة الفتوائية ، وعدم كون الشهرة الروائية من المرجّحات عند تعارض الخبرين ، وأنّ الشهرة العملية ( الإستنادية ) للرواية غير جابرة ولا كاسرة ، متفقاً بذلك مع استاذه المحقق العراقي ، بينما يختلف مع أستاذه المحقق النائيني في كون الشهرة الروائية موجبة لأقوائية تلك الرواية وترجيحها على الرواية المعارضة ، ويختلف السيد الخوئي مع مشهور الأصوليين لقولهم بأنّ الشهرة العملية جابرة وكاسرة.


 


15ـ لم يكن السيد الخوئي على وتيرة واحدة في تطبيقاته الفقهية لمبناه الأصولي في مسألة الشهرة ؛ فتارة يوافق المشهور لا من أجل أنّ المشهور ذهب إلى ذلك الرأي في مسألةٍ ما  بل لأنّ الدليل قاده إلى ذلك الرأي ويصرّح بأنّ المتّبع هو الدليل ، وتارةً أخرى يخالفهم صريحاً لنفس السبب المتقدّم ، وهذا هو ديدن الباحث الموضوعي ، ولكن نراه في بعض المسائل الفقهية يذهب إلى القول بالإحتياط حذراً من مخالفة المشهور .


 


16ـ يُعدّ القول بأنّ الإستصحاب أمارة وليس أصلاً من المعالم الأصولية عند السيد الخوئي ، مع التأكيد على أنّ حال الإستصحاب أضعف من بقية الأمارات ؛ لتقدّم بقية الأمارات عليه عند التعارض .


فضلاً عن عدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية ، وهذان الرأيان عند السيد الخوئي على خلاف ما ذهب إليه مشهور الأصوليين . 


 وأنّ السيد الخوئي قد أضاف قسماً جديداً ـ وهو القسم الرابع ـ في أقسام إستصحاب الكلي ، وتعدّ هذه الإضافة إضافة عرضية مع أنّه لم يسلم من المناقشات من تلامذته . 


 


 


 


 


 


 


ثبت المصادر والمراجع


 


خير ما نبتديء به القران الكريم 


 


إبن بابويه ، علي بن الحسين بن موسى القمي ( ت : 329هـ) 


1ـ الفقه المنسوب للإمام الرضا  المشتهر بـ ( فقه الرضا )، تحقيق : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، الناشر : مؤتمر الإمام الرضا  ، مشهد ، إيران ، ط1، 1406هـ .


 


إبن البراج ، القاضي عبد العزيز بن نحرير الطرابلسي (ت : 481هـ)


2ـ  جواهر الفقه ، تحقيق : ابراهيم البهادري ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم ، إيران ، ط1، 1411هـ . 


3ـ المهذب ، تحقيق واعداد : مؤسسة سيد الشهداء ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم ، إيران ، 1406هـ .


 


إبن حجر ، أحمد بن علي العسقلاني ( ت :852هـ)


4ـ تهذيب التهذيب ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، ط1، 1404هـ .


 


إبن حنبل ، أحمد (ت : 241هـ)


5ـ مسند الإمام أحمد بن حنبل ، الناشر: دار صادر ، بيروت ، لبنان ،ب ت.


 


  إبن إدريس ، أبو جعفر محمد بن منصورالحلي ( ت :598هـ)


6ـ السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، أيران ، قم ، ط2 ، 1410هـ .


 


الحراني ، إبن شعبة الحسن بن علي ( ت : بحدود القرن الرابع الهجري )


7ـ تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليهم  ، تحقيق : علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم ،إيران ،ط2، 1404هـ.


 


إبن فارس ، أبو الحسين أحمد (ت : 395هـ) 


 8ـ معجم مقاييس اللغة ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، مكتب الإعلام الإسلامي ، قم ، 1404هـ .


 


إبن فهد ، أبو العباس أحمد بن محمد الحلي (ت :841هـ)


9ـ المهذّب البارع في شرح المختصر النافع ، تحقيق : مجتبى العراقي ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط1 ، 1407هـ .


إبن منظور ، محمد بن مكرم (ت :711هـ)  


10ـ لسان العرب ، نشر أدب الحوزة ، قم ، إيران ، 1405هـ .


 


الأحسائي ، إبن ابي جمهور محمد بن علي بن إبراهيم ( ت :880هـ)


11ـ عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية ، تحقيق مجتبى العراقي ، مطبعة سيد الشهداء ، قم ، ط1، 1403هـ .


 


الأردبيلي ، أحمد بن محمد ( ت :993هـ)


12ـ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ،تصحيح وتعليق : مجتبى العراقي وعلي بناه ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ،إيران، قم ، ب ، ت  .


 


الإسترابادي ، رضي الدين محمد بن الحسن (ت : 688هـ) 


 13ـ شرح الكافية لابن الحاجب( ت : 646هـ) ، تصحيح وتعليق : يوسف حسن، مؤسسة الإمام الصادق ، 1398هـ  .


 


الأصفهاني ، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بـ الراغب ( ت :502هـ)


 14ـ المفردات في غريب القرآن ، مكتب نشر الكتاب ، إيران ، ط2، 1404هـ.


 


الأصفهاني ، محمد رضا بن محمد حسين (ت : 1362هـ )


15ـ  وقاية الاذهان ،مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، قم ، مطبعة فهر ، ط1 ، 1413هـ.


 


الأصفهاني ، الحسين بن محمد المعروف بسلطان العلماء (ت :1064هـ)


16ـ معالم الأصول ( معالم الدين وملاذ المجتهدين ) بحاشية سلطان العلماء ، تصحيح علي محمدي ، دار الفكر ، قم ، إيران ، 1418هـ .


 


الأصفهاني ، محمد حسين الغروي الكمباني (ت :1361هـ) 


17ـ بحوث في علم الأصول ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، إيران ، ط2 ، 1416هـ . 


18ـ  نهاية الدراية في شرح الكفاية ،تحقيق : مهدي أحدي امير كلائي ، نشر مؤسسة سيد الشهداء ،قم ،ط1 ، 1416هـ .


 


الأمين ، عبد الحسن (معاصر) ، ود. حمادة، طراد(معاصر)


 19ـ الإمام أبو القاسم الخوئي زعيم الحوزة العلمية، مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية ، دار النور ، لندن، ط1 ، 1425هـ .


 


الأمين ، محسن (ت :1371هـ)


20ـ أعيان الشيعة ، تحقيق حسن الأمين ، بيروت ، دار التعارف ، ( ب ت ).


 


الأنصاري ، مرتضى بن محمد أمين الدزفولي( ت : 1281هـ )  


21ـ فرائد الأصول ، تحقيق : لجنة إحياء تراث الشيخ الأعظم ،الناشر : المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري ، إيران، قم ، ط1، 1419هـ .


22ـ المكاسب ، تحقيق : لجنة إحياء تراث الشيخ الأعظم ، الناشر : المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري ، إيران، قم ، ط1، 1420هـ . 


 


الأنصاري ، محمد علي (معاصر)


23ـ  الموسوعة الفقهية الميسرة ، نشر مجمع الفكر الاسلامي ، مطبعة مؤسسة الهادي ، إيران ، قم ، ط1، 1418هـ .   


 


الآمدي ،علي بن محمد (ت : 631هـ)


24ـ الإحكام في أصول الأحكام ، تعليق : عبد الرزاق عفيفي ، نشر المكتب الإسلامي ، الرياض ، ط2، 1402هـ . 


 


الإيرواني ، علي بن عبد الحسين (ت : 1354هـ)


25ـ حاشية المكاسب (تعليقة على المكاسب ) ، مطبعة رشدية ، طهران ، ط2، 1379هـ . 


 


البجنوردي ، محمد حسن (ت : 1395هـ) 


26ـ  القواعد الفقهية ، تحقيق : مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي ، نشر الهادي ، إيران ، قم ، ط1، 1419هـ .


 


البحراني ، يوسف بن أحمد( ت :1186هـ)


 27ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة  ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم ، إيران ، ب ت . 


بحر العلوم ، علاء الدين بن علي (ت : بعد 1410 هـ)  


28ـ مصابيح الأصول ، تقريرات أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي ، تحقيق : محمد علي بحر العلوم ، دار الزهراء ، لبنان ، بيروت ، ط3 ، 1431هـ .


بحر العلوم ، محمد بن محمد تقي (ت :1326هـ) 


29ـ  بلغة الفقيه ، تحقيق وتعليق : حسين بن محمد تقي بحر العلوم ، منشورات مكتبة الصادق ، طهران ، ط4 ، 1403هـ ، أوفست عن مكتبة العلمين العامة ، النجف الأشرف . 


بحرالعلوم ، محمد مهدي بن مرتضى ( ت :1212هـ)


30ـ  رجال السيد بحر العلوم المعروف بالفوائد الرجالية ، تحقيق وتعليق : محمد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم ، مكتبة الصادق ، طهران ،1404هـ ، أوفست عن مكتبة العلمين ، النجف الأشرف . 


 


البروجردي ، محمد تقي (ت : 1383هـ)


31ـ  نهاية الأفكار، تقريرات أبحاث أغا ضياء الدين العراقي ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم ، إيران ، 1405هـ .


 


البروجردي ، مرتضى (ت : 1418هـ)


32ـ مستند العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، كتاب الزكاة ، منشورات مدرسة دار العلم ، المطبعة العلمية ، قم ، ط1، 1413هـ .


33ـ مستند العروة الوثقى، تقريرات أبحاث أبو القاسم الخوئي ، كتاب الصلاة ، منشورات مدرسة دار العلم ،المطبعة العلمية، قم ، ط1، 1413هـ .


34ـ مستند العروة الوثقى، تقريرات أبحاث أبو القاسم الخوئي ، كتاب الصوم،  المطبعة العلمية ، قم ، 1406هـ .


35ـ معتمد العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، كتاب الاجارة ، منشورات مدرسة دار العلم ، المطبعة العلمية ، قم ، 1407هـ .


 


البهائي ، محمد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي ( ت :1030هـ)


36ـ الحبل المتين ، منشورات مكتبة بصيرتي ، قم ، ب ت ، طبعة حجرية .


37ـ زبدة الأصول ، تحقيق : فارس حسون ، الناشر: مرصاد ، مطبعة زيتون ، ط1، 1423هـ .


 


البهادلي ، علي بن أحمد 


38ـ ومضات من حياة الإمام الخوئي ، دار القاري ، بيروت ، ط 3 ،1413هـ .


 


البهسودي ، محمد سَرْوَر الواعظ  ( ت بحدود 1401هـ)


39ـ مصباح الأصول ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، منشورات مكتبة الداوري ، المطبعة العلمية ، قم ، إيران ، ط5 ، 1417هـ .


 


التفتازاني ، سعد الدين مسعود بن عمر( ت :792هـ)


40ـ شرح التلويح على التوضيح، مطبعة دار الكتب العربية الكبرى ، مصر ،   ( ب ت ) . 


41ـ مختصر المعاني ، دار الفكر ، مطبعة قدس ، قم ، ط1 ، 1411هـ .


 


 


التوحيدي ، محمد علي التبريزي ( ت : 1395هـ ).


42ـ مصباح الفقاهة ، تقريرات أبحاث أبو القاسم الخوئي على كتاب المكاسب للشيخ الانصاري ، تحقيق : جواد القيومي ، منشورات مكتبة الداوري ، إيران ، قم ، ط1 ، 1419هـ .


 


التوني ،عبد الله البشروي الخراساني (ت : 1071هـ)


43ـ الوافية في أصول الفقه ، تحقيق : محمد حسين الرضوي ، الناشر : مجمع الفكر الاسلامي ، مطبعة إسماعيليان ، إيران ، قم ، ط1 ، 1412هـ .


 


الجاحظ ، أبو عمرو بن بحر (ت : 255هـ)


44ـ العثمانية ، تقديم وتحقيق وشرح د.عبد السلام محمد هارون ، مكتبة الجاحظ ، دار الكتاب العربي ، مصر ، 1374هـ .


 


جار الله ، د. زهدي حسن 


45ـ المعتزلة ، منشورات النادي العربي في يافا ، مصر ، القاهرة ،1366هـ . 


 


الجرجاني ، علي بن محمد( ت :816هـ)


46ـ كتاب التعريفات ،  ناصر خسرو ، طهران ، ط4 ، 1412هـ .


 


الجصاص ، أحمد بن علي الرازي(ت370هـ)


47ـ أحكام القرآن ، تحقيق : عبد السلام محمد علي شاهين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1415هـ . 


48ـ الفصول في الأصول ،  تحقيق : د.عجيل النمشي ، ط1 ، 1405هـ .


 


الجواهري ، محمد تقي بن عبد الرسول (ت : بعد 1410 هـ)  


49ـ غاية المأمول من علم الأصول ، مجمع الفكر الإسلامي ، مطبعة ظهور ، قم ، ط1، 1428هـ .


 


 الجلالي ، محمد تقي الحسيني 


50ـ فقه العترة في زكاة الفطرة ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، مطبعة القضاء ، النجف ، ط1 ، 1401هـ .


 


الجوهري ، إسماعيل  بن حماد (ت : 393هـ)


51ـ تاج اللغة وصحاح العربية المعروف بالصحاح ، تحقيق : أحمد عبد الغفور العطار ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، ط4، 1407هـ . 


 


 


الحائري ، عبد الكريم بن محمد جعفر (ت : 1355هـ)


52ـ درر الاصول المعروف بـ ( درر الفوائد) ، تحقيق الشيخ محمد مؤمن القمي ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ط5 ، ب . ت .


 


الحائري ، السيد كاظم (معاصر)


 53ـ مباحث الأصول ، دار البشير ، قم ، ط1 ، 1428هـ .


 


الحائري ، محمد حسين (ت : 1250هـ)


54ـ الفصول الغروية في الأصول الفقهية ، دار إحياء العلوم الإسلامية ، ايران، قم ، 1404هـ .


 


الحسيني ، جعفر (معاصر) 


55ـ معجم مصطلحات المنطق ، دار الإعتصام ،مطبعة بقيع ، قم، ط1 ، ب ت.


 


الحر العاملي ، محمد بن الحسن (ت : 1104هـ)


56ـ أمل الآمل ، تحقيق : السيد أحمد الحسيني ، دار الكتاب الإسلامي ، مطبعة نمونه ، 1404هـ .


57ـ وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، مطبعة مهر، قم ، إيران، ط2، 1414هـ  .


 


 حرز الدين ، محمد ( ت : 1365هـ)


58ـ معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء ، تعليق محمد حسين حرز الدين، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ، مطبعة الولاية ، قم ، 1405هـ .


 


الحكيم ، عبد الصاحب (ت : 1405هـ)


 59ـ منتقى الأصول ، تقرات أبحاث محمد الحسيني الروحاني(ت: 1418هـ) ، مطبعة الهادي ، ط2 ، 1416هـ . 


 


الحكيم ، محمد تقي (ت : 1424هـ)


60ـ الأصول العامة للفقه المقارن ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، قم ، ط2 ، 1399هـ .


 


 الحلبي ، أبو الصلاح حمزة بن علي (ت : 447هـ)


61ــ غُنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع ، مؤسسة الإمام الصادق  ، قم ، ط1، 1417هـ .


62ـ الكافي في الفقه ، تحقيق : رضا أستادي ، مكتبة أمير المؤمنين  العامة ، طهران ، 1403هـ .


 


 العلّامة الحلي ، أبو منصور الحسن بن يوسف (ت :726هـ)


63ـ تذكرة الفقهاء ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مطبعة ستاره ، قم ، ط1 ، 1420هـ .


64ـ قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ط1، 1413هـ .


65ـ مختلف الشيعة ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ،قم ، ط1 ، 1412هـ .


66ـ منتهى المطلب ،تحقيق: قسم الفقه مجمع البحوث الإسلامية ، منشورات الاستانة الرضوية المقدسة ، إيران ، مشهد ، ط1 ، 1415هـ . 


67ـ نهاية الوصول إلى علم الأصول ، تحقيق : ابراهيم البهادري ، مؤسسة الإمام الصادق (ع ) ، قم ، ط1  و 1425هـ . 


 


الحلي ، فخر المحققين أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف (ت : 771هـ) 


68ـ إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد ، تحقيق حسين الكرماني ،المطبعة العلمية ، إيران ، قم ، ط1 ، 1387هـ .


 


الحلي ، المحقق نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن( ت :676هـ ) 


69ـ الرسائل التسع ، المسائل العزية ، تحقيق :رضا أستادي ، منشورات مكتبة أية الله العظمى المرعشي النجفي ، قم ، ط1 ، 1413هـ  .


70ـ شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام ، تعليق : صادق الشيرازي ، الناشر: انتشارات إستقلال ، طهران ، ناصر خسرو ، حاج نايب ، مطبعة أمير ، قم ، ط2 ، 1409هـ .


71ـ معارج الأصول ، اعداد : محمد حسين الرضوي ، الناشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، مطبعة سيد الشهداء ، قم ، ط1 ، 1403هـ .


72ـ المعتبر، تحقيق مجموعة من الباحثين، مطبعة سيد الشهداء، قم ،1406هـ .


 


الحلّي ، يحيى بن سعيد (ت : 689هـ)


73ـ نزهة الناظر في الأشباه والنظائر ، تحقيق : أحمد الحسيني ونور الدين الواعظي ، مطبعة الآداب ، النجف الأشرف ، 1386هـ .


 


حمادة ، د.حسين  صالح (معاصر)


74ـ دراسات في الفلسفة الإسلامية ، دار الهادي ، بيروت ، ط1 ،1426هـ .


 


 


الخلخالي ، رضا الموسوي ( ت : 1411هـ )


75ـ معتمد العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، كتاب الحج ،      منشورات مدرسة دار العلم ، المطبعة العلمية ، قم ، ط2، 1406هـ .


76ـ المعتمد في شرح المناسك ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، منشورات مدرسة دار العلم ، المطبعة العلمية ، قم ، ط1 ، 1410هـ .


 


 


   الخلخالي ، محمد مهدي 


77ـ مدارك العروة الوثقى (دروس في فقه الشيعة )، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي، مطبعة الآداب ، النجف ، 1387هـ .


 


الخوئي ، أبو القاسم بن علي أكبر( ت :1413هـ)


 78ـ أجود التقريرات ، تقريرات أبحاث الشيخ محمد حسين النائيني ، منشورات مصطفوي ، مطبعة الغدير ، إيران ، قم ، ط2 ،1417هـ  .


79ـ البيان في تفسيرالقرآن ، دار الزهراء ، بيروت لبنان ، ط4 ، 1395هـ  .


80ـ تعليقة على المسائل الفقهية للسيد حسين البروجردي ، مطبعة النعمان ، النجف ، 1386هـ .


81ـ تعليقة على العروة الوثقى ، مطبعة النعمان ، النجف ، 1386هـ .


82ـ توضيح المسائل(فارسي ) ،مطبعة مهر ، قم ، ط29، 1412هـ . 


83ـ مباني تكملة المنهاج ، كتاب القصاص والديات ، المطبعة العلمية ، قم ،   ط2 ،1396هـ . 


84ـ مجمع الرسائل، مؤسسة الخوئي الخيرية ، موسوعة الامام الخوئي ،ج49.


85ـ المسائل المنتخبة ، مطبعة الآداب ، النجف ، ط9 ،1394هـ .


86ـ مستحدثات المسائل ، مطبعة الآداب ، النجف ، ط2 ، 1399هـ .


87ـ معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة ، ب م ، ط5، 1413هـ .


88ـ مناسك الحج (عربي )، دار الأندلس ، بيروت ، ط5 ، 1390هـ .


مناسك الحج (فارسي) ، مطبعة الآداب ، النجف ، ط2 ، ب ت .


89ـ منهاج الصالحين، العبادات ، نشر مدينة العلم ، مطبعة مهر ، ط28، 1410هـ .


 


الخوئي ، محمد تقي بن أبي القاسم ( ت : 1415هـ ) 


90ـ مباني العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث ابو القاسم الخوئي ، كتاب المساقاة ، منشورات مدرسة دار العلم ،المطبعة العلمية، قم ، ط1، 1409هـ . 


91ـ مباني العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث ابي القاسم الخوئي ، كتاب المضاربة ، منشورات مدرسة دار العلم ، المطبعة العلمية ، قم ، ط1،    1408هـ .


92ـ مباني العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث ابو القاسم الخوئي ، كتاب النكاح ، منشورات مدرسة دار العلم ، قم ، 1404هـ .


 


الخراساني ، محمد كاظم الآخوند ( ت : 1329هـ)


93ـ  كفاية الأصول،  مؤسسة آل البيت (ع) ، قم ، إيران ، ط1 ،1409هـ .


الدسوقي ، محمد بن عرفة (ت :1230هـ)


 


94ـ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأبي البركات أحمد  الدردير ، دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي ، ب م ،  ب ت .


 


الذهبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد (ت : 748هـ)


95ـ سير أعلام النبلاء ، تحقيق :شعيب الأرنؤوط ونعيم العرقسوسي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان ، ط9 ، 1413هـ .


96ـ ميزان الإعتدال في نقد الرجال ، تحقيق : علي محمد البجاوي ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1382هـ .


 


الروحاني ، محمد صادق ( ت : 1414هـ)


97ـ زبدة الأصول ، نشر مدرسة الامام الصادق  ، ط1 ، 1412هـ .


 


الرازي ، محمد تقي (ت : 1248هـ) 


98ـ هداية المسترشدين ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ،    قم ، ( ب ت ) .


 


الفخر الرازي ، محمد بن عمر (ت : 606هـ)


99ـ المحصول في أصول الفقه ، تحقيق : د . طه جابر العلواني ، مؤسسة الرسالة بيروت ، ط2 ، 1412هـ .


 


آل راضي  ، محمد طاهر( ت :1400هـ)


100ـ بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ، تصحيح : محمد عبد الكريم البكاء، الناشر : اسرة آل راضي ، مطبعة ستارة ، ط1 ، 1425هـ . 


 


الرشتي ، الميرزا حبيب الله (ت: 1312هـ)


101ـ بدائع الأفكار ( نسخة حجرية ) ،مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، مطبعة مهدية ، إيران ، أوفست على نسخة 1313هـ . 


 


 


 


الرضي ، الشريف محمد بن الحسين بن موسى (ت : 406هـ)


102ـ نهج البلاغة ، جمع خطب الإمام علي بن أبي طالب ، شرح : محمد عبده ، دار الذخائر ، مطبعة النهضة ، قم ، إيران ، ط1 ،1412هـ .


 


الزبيدي ، محمد بن محمد الحسيني الحنفي (ت : 1205هـ)


103ـ تاج العروس ، دراسة وتحقيق : علي شيري ، دار الفكر ، بيروت ، ط1 ، 1414هـ  .


 


الزنجاني ، فخر الدين بن يعقوب علي ( ت : 1413هـ)


104ـ جواهر الأصول ، تصحيح : محمد كاظم الخوانساري ، مطبعة النجف ، النجف ، 1376هـ .


 


السبزواري ، عبد الاعلى (ت : 1414هـ)


105ـ تهذيب الأصول ، الدار الإسلامية ، بيروت ، ط2، 1406هـ .


 


السبزواري ، حسن السيادتي (ت : 1385هـ)


106ـ وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول ، تقريرات أبحاث أبي الحسن الأصفهاني ، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط1، 1419هـ .


 


السبزواري ، محمد باقر( ت :1090هـ)


107ـ ذخيرة المعاد ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث،قم ، ب ت . 


108ـ كفاية الفقه المعروف بكفاية الأحكام ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط1 ، 1423هـ  . 


 


السبكي ، علي بن عبد الكافي ( ت : 756هـ )


109 ـ الإبهاج في شرح المنهاج للبيضاوي ( ت : 680هـ ) ، تعليق : محمود بن السيد ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1424هـ . 


 


 السرخسي ، شمس الدين أبو بكر محمد بن أحمد  (ت :490هـ)


110ـ المبسوط ، الناشر: دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، 1406هـ . 


111ـ تمهيد الفصول في الأصول المعروف بـ ( أصول السرخسي ) ، تحقيق : أبو الوفا الأفغاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ط1، 1414هـ . 


 


الشافعي ،أبو عبد الله محمد بن ادريس ( ت : 204هـ )


112ـ الأم ، دار الفكر للطباعة والنشر ، ط2 ، 1403هـ .


 


الشاهرودي ، السيد علي الحسيني ( ت :1376هـ)


113ـ دراسات في الأصول العملية ، المطبعة الحيدرية ، النجف ، ط1 ،1371هـ .


114ـ محاضرات في الفقه الجعفري ، تعليق : عبد الرزاق المقرّم ، المطبعة ، النجف ، 1373هـ .


 


الشاهرودي ، نور الدين (معاصر)  


115ـ كبار العلماء والمراجع في الماضي والحاضر ، مكتب عماد ، طهران ، ط3 ، 1419هـ .


 


الشوشتري ، محمد جعفر المروّج 


116ـ  منتهى الدراية في شرح الكفاية ، مؤسسة دار الكتاب ، قم ، إيران ، ط3،  1420هـ .


 


الشيرازي ، صدر الدين محمد (ت :1050هـ)


117ـ  الحكمة المتعالية في شرح الأسفار الأربعة ، الناشر : مكتبة المصطفى ، مطبعة مهر استوار، قم ، إيران ، ب ت .


 


إبن الشهيد الثاني ، الحسن بن زين الدين الجبعي العاملي (ت :1011هـ)


118ـ معالم الدين وملاذ المجتهدين ، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ب ت .


 


الشهيد الثاني ، زين الدين الجبعي العاملي (ت : 965 هـ )


119ـ تمهيد القواعد ، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي ، خراسان ، إيران ، ط1 ، 1416هـ .


120 ـ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، المقدمة للشيخ محمد مهدي الآصفي ، تحقيق : السيد محمد كلانتر ، منشورات جامعة النجف الدينية ، العراق ، النجف ، ط2 ، 1398هـ.


121ـ روض الجنان ، الناشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، قم ، ب ت ، طبعة حجرية .


122ـ مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام ، تحقيق ونشر : مؤسسة المعارف الإسلامية ، قم ، إيران ، مطبعة بهمن ، ط1 ، 1413هـ .


 


الشهيد الأول ، محمد بن جمال الدين مكي العاملي (ت : 786هـ) 


123ـ الدروس الشرعية في فقه الامامية ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ،  إيران ، ب ت  .


124ـ ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة ، تحقيق ونشر : مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، مطبعة ستارة ، قم ،  إيران ، ط1 ، 1419هـ .


125ـ القواعد والفوائد ، تحقيق : السيد عبد الهادي الحكيم ، منشورات جمعية منتدى النشر، مطبعة الآداب النجف ،1400هـ  .   


126ـ اللمعة الدمشقية ، منشورات دار الفكر ، مطبعة قدس ، قم ، ط1 ، 1411هـ .


 


الصافي ، حسن الأصفهاني (ت : 1416هـ)


127ـ الهداية في الأصول ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، تحقيق ونشر : مؤسسة صاحب الأمر (عج) ، مطبعة ستاره ، قم ، ط1 ، 1417هـ .


 


الصدر ، السيد محمد باقر بن السيد حيدر (ت :1400هـ) 


128ـ دروس في علم الاصول ، (الحلقة الثانية) ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، ط2 ، 1406هـ .


129ـ المعالم الجديدة للأصول ، الناشر : مكتبة النجاح ، طهران ، ط2 ، 1395هـ ، أوفست عن مطبعة النعمان ، النجف الأشرف .


 


الصدوق ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه (ت :381هـ)


130ـ عيون أخبار الرضا ، تصحيح وتعليق وتقديم : حسين الأعلمي ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، لبنان ، 1404هـ .


131ـ المقنع ، تحقيق ونشر: مؤسسة الإمام الهادي  ، مطبعة إعتماد ، 1415هـ .


132ـ  من لا يحضره الفقيه ، تصحيح وتعليق :علي أكبر الغفاري ، الناشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ب ت .


133ـ الهداية في الأصول والفروع ، تحقيق ونشر: مؤسسة الإمام الهادي ، مطبعة إعتماد ، 1418هـ . 


 


الصغير ، ا.د. محمد حسين بن الشيخ علي (معاصر)


134ـ أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف ، مؤسسة البلاغ ، لبنان ، دار سلوني ، ط1 ،1424هـ . 


 


الطباطبائي ، علي (ت :1231هـ)


135ـ رياض المسائل ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط1 ، 1412هـ .


 


 


 


الطباطبائي ، محمد حسين (ت :1402هـ)


136ـ بداية الحكمة ، تحقيق : عباس علي الزارعي ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ،قم ، 1418هـ .


 


الطباطبائي ، محمد رضا بن محمد كاظم اليزدي


137ـ تنقيح الأصول ، تقريرات أبحاث أغا ضياء الدين العراقي ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، 1371هـ .


 


الطبرسي ، أبو منصور أحمد بن علي (ت :560هـ)


138ـ الإحتجاج ، تعليق : محمد باقر الخرسان ، دارالنعمان ،النجف الأشرف ، 1386 هـ .


 


الطريحي ، فخر الدين بن محمد بن علي (ت :1085هـ)


139ـ مجمع البحرين ، تحقيق : السيد أحمد الحسيني ، الناشر : مكتب النشر للثقافة الإسلامية ، ب م ، ط1 ، 1408هـ .


 


الطوسي ، أبوجعفر محمد بن الحسن (ت : 460هـ)


140ـ الإستبصار فيما اُختلف من الأخبار ، تحقيق وتعليق حسن الخرسان ، دار الكتب الإسلامية ، مطبعة خورشيد ، طهران ، 1405هـ .


141ـ تهذيب الأحكام ، تحقيق وتعليق : السيد حسن الخرسان ، الناشر : دار الكتب الإسلامية ، مطبعة خورشيد ، طهران ، ط3 ، 1406هـ .


142ـ الخلاف ، تحقيق : جماعة من المحققين 156ـ  1407هـ .


143ـ الرسائل العشر ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ،  إيران ، ب ت .


144ـ العدّة في أصول الفقه ، تحقيق وتعليق : السيد حسن الخرسان ، الناشر : دار الكتب الإسلامية ، مطبعة خورشيد ، طهران ، ط4 ، 1405هـ  .


145ـ الفهرست ، تحقيق : جواد القيومي ، مؤسسة نشر الثقافة ، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي ، ط1 ، 1417هـ .


146ـ المبسوط في فقه الإمامية ، تصحيح وتعليق : محمد علي الكشفي ، الناشر : المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية ، المطبعة الحيدرية ،طهران، 1387هـ.


 


المحقق الطوسي ، نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن (ت : 672هـ)


147ـ شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا ، المطبعة الحيدرية ، طهران ، 1377هـ .


 


 


الطهراني ، أغا بزرك محمد محسن ( ت : 1389هـ)


148ـ الذريعة الى تصانيف الشيعة ، دار الأضواء ، بيروت ، لبنان ، ب ت .


149ـ طبقات أعلام الشيعة ، نقباء البشر في القرن الرابع عشر،المطبعة العلمية ، النجف ، 1373هـ .


 


العاملي ، حسين بن عبد الصمد ( ت :984هـ)


150ـ العقد الحسيني ، تصحيح : جواد المدرسي ، مطبعة كلبهار ، يزد ، إيران ،  ب ت . 


 


العاملي ، محمد جواد (ت : 1226هـ)


151ـ مفتاح الكرامة ، تحقيق وتعليق : محمد باقر الخالصي ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ،  إيران ، ط1 ، 1419هـ .


 


عبد الساتر ، حسن ( معاصر)


152ـ بحوث في علم الأصول ، تقريرات أبحاث محمد باقر الصدر ، ناشر محبين ، مطبعة ستارة ، 1423هـ .


 


العجلوني ، إسماعيل بن محمد (ت : 1162هـ)


153ـ كشف الخفاء ومزيل الإلباس ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط3 ، 1408هـ . 


 


العراقي ،علي بن محمد المعروف بــ ( أغا ضياء ) (ت :1361هـ)


154ـ مقالات الأصول ، تحقيق : السيد منذر الحكيم ومحسن العراقي ، مجمع الفكر الإسلامي ، مطبعة باقري ، قم ، ط1 ، 1414هـ .


 


العسكري ، أبو هلال (ت:395هـ)


155ـ معجم الفروق اللغوية ، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، إيران ، ط1 ، 1412هـ . 


 


عرفانيان ، غلام رضا 


156ـ الرأي السديد في الإجتهاد والتقليد ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، ، مطبعة النعمان ، النجف ، الأولى ، 1387هـ .


 


الغرابي ، حميد جاسم عبود (معاصر)


157ـ الفقة الدستوري عند الإمام النائيني ، دار المؤرخ العربي ، بيروت ،   لبنان ،1431هـ .


 


الغروي ، الميرزا علي التبريزي ( ت : 1419هـ )


158ـ الإجتهاد والتقليد من التنقيح في شرح العروة الوثقى ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، دار أنصاريان ، مطبعة صدر ، قم ، إيران ،ط3 ، 1410هـ .


159ـ التنقيح في شرح المكاسب ، كتاب البيع ، مؤسسة الخوئي الإسلامية ، مطبعة نينوى ، ط4، 1430هـ .


160ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى ، كتاب الصلاة ، تقريرات أبحاث أبي القاسم الخوئي ، دار الهادي ، مطبعة صدر ، قم ، ط3، 1410هـ .


161ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى ، كتاب الطهارة ، تقريرات أبحاث  أبي القاسم الخوئي ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، مطبعة بهرام ، ط2،  ب ت. 


 


الغزالي ، أبو حامد محمد بن محمد( ت :505هـ)


162ـ المستصفى في علم الأصول ، تصحيح : محمد عبد السلام ، دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان ، 1417هـ .


163ـ المنخول من تعليقات الأصول ، تحقيق : محمد حسن هيتو ، الناشر : دار الفكر دمشق ، مطبعة دار الفكر المعاصر ، بيروت ، ط3 ، 1419هـ .


 


فتح الله ، أحمد (معاصر)


164ـ معجم ألفاظ الفقه الجعفري ، مطابع المدوخل ، الدمام ، ط1 ، 1415هـ .


 


الفراهيدي ، الخليل بن أحمد (ت : 175هـ)


165ـ كتاب العين ، تحقيق :د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم السامرائي ، مؤسسة دار الهجرة ، ط2 ، 1409هـ . 


 


الفضلي ، د . عبد الهادي ( معاصر )


166ـ خلاصة علم الكلام ، ب م ، ب ت .


167ـ هكذا قرأتهم ، دار المرتضى ، لبنان ، ط1 ،1422هـ.


 


الفياض ، محمد اسحاق (معاصر)


168ـ محاضرات في أصول الفقه ، تقريرات أبحاث الخوئي ، مباحث الألفاظ ، مؤسسة النشر الإسلامي ، إيران ، قم  ، ط1 ،1419 هـ  .


169ـ المختصر في الحياة العلمية لزعيم الطائفة السيد الخوئي ، إصدار مكتب الشيخ الفياض في النجف الأشرف  ، 1427هـ .


 


 


 


آل قاسم ، د. عدنان فرحان (معاصر)


170ـ تطور حركةالإجتهاد عند الشيعة الإمامية ، دار المصطفى العالمية ،    ط1 ،1430هـ .


 


الفيومي ، أحمد بن محمد (ت :770هـ)


171ـ المصباح المنير ، المكتبة العلمية ، بيروت ، ب ت .


 


القاضي ، أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور( ت :363هـ)


172ـ دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام ، تحقيق : آصف بن علي أصغر فيضي ، دار المعارف القاهرة ، 1383هـ .


 


القطيفي ، منير الخبّاز (معاصر)


173ـ الرافد في علم الأصول ، تقريرات أبحاث السيد علي السيستاني ، قم ، مطبعة مهر، مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني، ط1 ،1414هـ .


 


القمي ، المحقق الميرزا أبو القاسم بن محمد حسن(ت1231هـ)


174ـ جامع الشتات ، باللغة الفارسية ، تحقيق : مرتضى رضوي ، مؤسسة كيهان ، مطبعة كيهان ، ط1 ، 1413هـ  .


175ـ قوانين الأصول ، طبعة حجرية ، المكتبة العلمية ، طهران ، 1378هـ .


 


الكاظمي ، محمد علي( ت :1365هـ)


176ـ فوائد الأصول ، تقريرات أبحاث الشيخ النائيني ،مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، ط9، 1429هـ .


 


   كحالة ، عمر (معاصر)


177ـ معجم المؤلفين تراجم مصنفي الكتب العربية ، مكتبة المثنى ، ودار إحياء التراث ، بيروت ، لبنان ، ب ت .


 


 كرجي ، د . أبو القاسم (معاصر) 


178ـ نظرة في تطور علم الأصول ، ترجمة : محمد علي آذر شب ، منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى ، مؤسسة البعثة ، إيران ، ط1 ، 1402هـ .


 


الكركي ، علي بن الحسين (ت :940هـ)


179ـ جامع المقاصد تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ، المطبعة المهدية ، قم ، ط1 ، 1408هـ .


 


 


الكلانتري ، الميرزا أبو القاسم بن محمد الطهراني (ت : 1292هـ)


180ـ مطارح الأنظار ، تقريرات أبحاث الشيخ مرتضى الأنصاري تحقيق ونشر مجمع الفكر الاسلامي  ايران ،قم ، ط2 ، 1428هـ .


 


 


الكليني ، محمد بن يعقوب (ت : 329هـ)


 181ـ الكافي ، تصحيح وتعليق : علي أكبر الغفاري ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، مطبعة حيدري ، ط5 ، 1405هـ .


 


كني ، الملّا علي ( ت : 1306هـ )


182 ـ توضيح المقال في علم الرجال ، تحقيق : محمد حسين مولوي ، دار الحديث ، مطبعة سرور ، إيران ، قم ، ط1 ، 1421هـ .


 


الكوكبي ، أبو القاسم بن علي أصغر التبريزي 


183ـ مباني الإستنباط ، تقريرات أبحاث ابي القاسم الخوئي  ، مطبعة النجف ، النجف الأشرف ، 1377هـ .


 


اللطفي ، رضا التبريزي 


184ـ الدرر الغوالي في فروع العلم الإجمالي ، تقريرات أبحاث ابي القاسم الخوئي ، مطبعة باكشتي ، طهران ، 1409هـ .


 


اللنكرودي ، محمد حسن ( معاصر )


 185ـ جواهر الأصول ، تقريرات أبحاث روح الله الخميني ، تحقيق ونشر : مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني ، مطبعة مؤسسة العروج ، ط1، 1418هـ .


 


إبن ماجة ، محمد بن يزيد القزويني (ت :275هـ)


 186ـ سنن ابن ماجة ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر ، بيروت ،     ب ت  . 


 


المازندراني ، علي أكبر السيفي (معاصر)


187ـ بدائع البحوث في علم الاصول ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط2 ، 1429هـ .


 


مجمع الفكر الاسلامي (مجموعة باحثين)


188ـ موسوعة مؤلفي الامامية ، مطبعة شريعت ، قم ، ط1 ، 1429هـ .


 


المراغي ، أمير عبد الفتاح الحسيني ( ت : 1250هـ )


العناوين الفقهية ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط1 ، 1417هـ .


 


 المرتضى ، أحمد بن عبد الله الجنداري( ت :840هـ)  


190ـ  تراجم الرجال المذكورة في شرح الأزهار،مكتبة غمضان، صنعاء،  اليمن ، ب ت .


 


المرتضى ، الشريف علم الهدى علي بن الحسين (ت : 436هـ  ) 


191ـ الإنتصار ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ،1415هـ .


192ـ الذريعة إلى أصول الشريعة ، تصحيح وتقديم وتعليق أبو القاسم كرجي ، إنتشارات دانشكاه طهران (جامعة طهران ) ، 1388هـ .


193ـ رسائل المرتضى ، تقديم أحمد الحسيني ، دار القرآن الكريم ،مطبعة الخيام ، قم ،1405هـ .


194ـ الناصريات ، تحقيق مركز البحوث والدراسات الإسلامية ، نشر رابطة الثقافة والعلوم الإسلامية ، مطبعة مؤسسة الهدى ، طهران ، إيران ، 1417هـ .


 


مركز المعجم الفقهي (مجموعة باحثين) 


 195ـ المصطلحات ، ب م ، ب ت .


 


المشكيني ، الشيخ علي (معاصر)


196ـ إصطلاحات الاصول  ، دار نشر الهادي ، قم ، ط5 ، 1413هـ .


المظفر ، الشيخ محمد رضا بن محمد حسن (ت :1383هـ)


197ـ أصول الفقه ، مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، ب ت . 


198ـ المنطق ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة ، أيران ، ب ت . 


 


المفيد ، محمد بن محمد العُكبري ( ت : 413هـ)


199ـ المُقنعة ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة ، إيران ، ط2 ، 1410هـ .


 


مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (مجموعة باحثين)


200ـ رثاء القمر ، تحقيق وجمع مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية ، إيران ، قم ، ط2، 1421هـ .


 


 


الميلاني ، علي ( معاصر) 


201ـ حكم الأرجل في الوضوء ، الذكرى الألفية لوفاة الشيخ المفيد ، مطبعة مهر ، قم ، ط1 ، 1413هـ .


 


المنصوري ، أياد عبد الحسين ( معاصر)


202ـ نظرية التزاحم الحفظي ، مؤسسة دار مدين ، مطبعة سرور ، قم ، ايران ، ط1 ، 1431هـ .


 


النجفي ، محمد حسن  (ت:1266هـ)


203ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ، تحقيق وتعليق عباس القوجاني ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، مطبعة خورشيد ، ط2 ، 1407هـ .


 


النحّاس ، أبو جعفر أحمد بن محمد النحوي (ت : 338هـ)


204ـ معاني القرآن الكريم ، تحقيق : محمد علي الصابوني ، مركز إحياء التراث الإسلامي ، المملكة العربية السعودية ، ط 1، 1408 هـ . 


 


النراقي ، المولى أحمد بن محمد مهدي (ت : 1245هـ)


205ـ عوائد الأيام ، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية ، مكتب النشر التابع لمركز الإعلام الإسلامي ، ط1 ، 1417هـ .


206ـ مستند الشيعة في أحكام الشريعة ،تحقيق  مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث ، مشهد ، نشر مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث ، قم ، مطبعة ستارة، ط1 ، 1415هـ .


207ـ مناهج الأحكام والأصول ( طبعة حجرية ) ، طهران ، 1344هـ .


 


النوري ، الميرزا حسين (ت :1320هـ)


208ـ  مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1408هـ .


النهاوندي ، الملّا علي بن فتح الله ( ت :1322هـ)


209ـ  تشريح الأصول ( طبعة حجرية) ، دار الخلافة ، طهران ،1320هـ .


 


الواسطي ، أحمد (معاصر)


210ـ  سيرة وحياة الإمام الخوئي ، دار الهادي ، بيروت ، ط1 ،1419هـ .


 


 الوحيد البهبهاني ، محمد باقر ( ت :1205هـ)


211ـ حاشية مجمع الفائدة والبرهان ، تحقيق ونشر مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني ، مطبعة أمير ، ط1 ، 1417هـ .


 


الهاشمي ، محمود الشاهرودي (معاصر)


212ـ بحوث في علم الأصول ، تقريرات أبحاث  محمد باقر الصدر ، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي ، إيران ، قم ، ط3 ، 1417هـ .


 


الهمداني ، محمد رضا (ت : 1322هـ)


213ـ مصباح الفقيه ( طبعة حجرية )، منشورات مكتبة الصدر ، طهران 


 


الهيثمي ، علي بن أبي بكر (ت : 807هـ) 


214ـ مجمع الزوائد ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1408هـ .


 


اليزدي ، محمد كاظم (ت : 1337هـ)


215ـ العروة الوثقى ،تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم ، ط1 ، 1417هـ .


 


الرسائل الجامعية


216ـ أمين القضاة ، مدرسة الحديث في البصرة حتى القرن الثالث الهجري ، اطروحة دكتوراه ، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر ،1980م .


217ـ بوهان ، زينب خضير، مدرسة الإمام الرضا في علم الحديث ، جامعة الكوفة ، كلية الفقه ، رسالة ماجستير، 2007م .


218ـ الخفاجي ، محمود شاكر ، منهج السيد الخوئي في معجم رجال الحديث ، رسالة ماجستير ، جامعة الكوفة ، كلية الفقه ، 2006م .


219ـ خميس ، محمد عبد الحمزة ، البحث القرآني في كتاب البيان للإمام الخوئي ، رسالة ماجستير ، جامعة الكوفة ، كلية الفقه ، 2007م .


220ـ العوّادي ، صادق حسن علي ، البحث الكلامي عند الشيخ الأميني في كتابه الغدير ، رسالة ماجستير ، جامعة الكوفة ، كلية الفقه ، 1430هـ .


221ـ العمر، عبد الله بن محمد الاخلاق بين المدرستين السلفية والفلسفية          ( مسكويه وإبن القيم إنموذجاً )جامعة الإمام محمد بن سعود ، اطروحة دكتوراه ، 1427هـ .


222ـ الشريف الكتاني ، محمد بدر الدين ، في مدرسة الكوفة الفقهية ( دراسة مقارنة بين الإمامين  إبراهيم النخعي وأبي حنيفة) جامعة الحسن الثاني ، كلية الآداب  والعلوم الانسانية ، الدار النبطية ، رسالة ماجستير،،1991م .


223ـ القريشي ، مظاهر جاسم عبد الكاظم ، مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم حتى القرن الثالث الهجري ، أطروحة دكتوراه ، جامعة الكوفة ، كلية الفقه ، 1431هـ .


224ـ موسى ، محمد الثاني عمر ، المدرسة الحديثية في مكة والمدينة وأثرها في الحديث وعلومه من نشأتها حتى  نهاية القرن الثاني الهجري ، اطروحة دكتوراه، الجامعة الاسلامية ، المدينة المنورة ، كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية ،1421هـ .


 225ـ الهلول ، بسام عبد الكريم ، مدرسة الكوفة في الفقه والتشريع  من                   50 ـ 150هـ ، جامعة القرويين ، دار الحديث الحسنية ، الرباط ،1980م .


 


المجلات والدوريات


 


226ـ الامام الخوئي المرجع الشيعي الأكبر، مسيرة المرجعية المتطورة ، بحث لـ  د . محمد بن علي بحر العلوم ، المركز الوثائقي لتراث أهل البيت عليهم السلام ، اكاديمية الكوفة ، هولندا .


227ـ بحوث المؤتمر العلمي الأول في كلية الفقه ، الفقه الدستوري في مدرسة النجف الاشرف مساهمة وإثراء، بحث لـ  د عبد الأمير زاهد، جامعة الكوفة ، سنة 2006م .


228ـ مجلة النجف الأشرف ، المعتزلة مدرسة أم مذهب ؟ بحث  لـ د . محمود محمد حسن المظفر ، إصدار كلية الفقه ، العدد 1، سنة 1962م


 


الأقراص المدمجة 


229ـ مكتبة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، مركز المعجم الفقهي ، إيران ، قم .  


230ـ المكتبة الشاملة ، الإصدار الثاني ، الكويت .


 


المواقع الالكترونية


www.islamicfegh.com.  


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


Ministry of Higher Education & Scientific Research


University of Kufa


College of   Jurisprudence 


 


The Usuli  School for Sayed Al-Khoo`ey and  its Jurisprudential Applications


 Thesis


Submitted to the Council of the College of  Jurisprudence University of Kufa as a Partial Fulfillment of the Requirements of the Ph. D. in Sharia and Islamic Sciences   


 


By:


Sadiq Hasen Ali  ALـ AwwadY


 


Supervised by:-


 Assist. Pro. Dr. Hadi Hussain  al-Ghara`wy


 


 


2012A.D                                                                     1433A.H


 


                                                        


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


                                


Abstract


           The Holy Najaf , in its past and present, is a very important resource of knowledge and science since the time when Imam Ali had resident there (d.40A.H) followed by his grandson Imam Ja`efer Al-Sadiqh (d.148 A.H).Sheikh Abu /ja`1efer al-Toosy (d.460 A.H)had lived there and made it a home of science and knowledge, hence the Hawza was formed and attracted so many  peerless students, one  of them is Sayed  Abu Al-Qasim Al-Khoo`ey(d. 1413A.H  1992 A.D) he had studied for the greatest scientists of his era such as Al-Iraqi, Al-Na`eyny and  Al- Asphahany and others, with his genius he had became a distinguished figure, left a great number of books and for him many students had studied to be maraje`a, mujtahds and thinkers.


          The research obtained the following results:-


1-He had adopted an opinion that emphasized that the question usuli is connected with the debate and the different opinions upon it , if it was a clear one , so it is not an usuli question, because the science of Usul is to apply the general theories and define the common rules according to their general conditions of the jurisprudential thinking, hence the science of Usul is a theoretical one and that of Jurisprudence is a practical one.


2- His usuli research proved the invalidity of the subjective significance between term and meaning and that it is of the Divine specialization, emphasizing that it is a pure positional  one had been put by Man with the Divine blesses.


3- The research proved that the origin of commitment is the investor Ali bin Fateh (Allah Al-Nahawendy ( d.1322A.H) and those who had followed him had affected by him such as Sheikh Abdul-Kareem Al-Ha`ery (d. 1355A.H) and Sheikh Abu Al-Majed Mohammed Ridha Al-Asphahany Al-Najafy(d. 1362A.H) . Sayed  Al-Khoo`ey had added to the opinion by clarifying it and presenting it as an usuli theory with  jurisprudential applications.


4- One of features of his usuli research is the multi dissections upon the famous fatwa , , the famous Hadith is the preferred when the two narration are opposite and that the actually famous Hadith is not of a great benefit .


 


5- Sayed  Al-Khoo`ey had no fixed march in his jurisprudential applications of his usuli structure upon fame, and this is the rightful behave of the objective researcher.


6-Saying that presumption is an origin not a proof is one of the usuli features for Sayed  Al-Khoo`ey, emphasizing that it is less important than the other proofs.


7-The research clarified the distinguished scientific personality of  - Sayed  Al-Khoo`ey with his spirit of inventing of theories and usuli opinions and their exact in the jurisprudential sections.


8-He had added many cognitive additions to the usuli research , this thesis shows these additions in details.


9-He was distinguished with been an encyclopedic scientist had many books in the different fields:- Principles of Jurisprudence, Jurisprudence, science of Qura`n and etc..


10-Many of the students who  studied the sciences of religion had get the greatest use of the science of Sayed  Al-Khoo`ey  to be be maraje`a, mujtahds and thinkers such as Sayed Mohammed Baqir Al-Sader, Sayed Ali- Al-Hussainy Al-Sistany, Sayed Kadhim Al-Ha`ery, Sayed Mohammed Sadiq Al-Rawhany, Sheikh Al-Fayadh, Sheikh Al-Khurasany, Sheikh Al-Tabreezy, Sheikh Basheer  Al-Bakstany, Sheikh Al-Garawy, Sheikh Al-Barwojurdy and others.


10- The Usuli and Jurisprudential methodology for Sayed  Al-Khoo`ey  was distinguished with preferring the traditional understanding on the mental and philosophical one and that affected defining the rules subjects, while his master had different methodology :-Al- Asphahany school is distinguished with the philosophical feature, Al-Iraqi school is distinguished with the scientific feature  and Al-Na`eyny school is distinguished with the philosophical and scientific feature .


11- Based on the previous results we might say that Sayed  Al-Khoo`ey  had an independent Usuli school because it fulfilled the conditions that the research put for the school, and he is the pioneer of this school.